الأوّلُ يشتملُ على اثنَي عشرَ نَصًّا متراوحةِ القِصَر، يُقدّمُ لكلِّ نصَّين أو ثلاثةٍ بمقدمةٍ تصِفُ أرضًا هي بعضُ طَرحِ الخيالِ تمتازُ بخصائصَ معيَّنةٍ تميّزُها عن غيرِها من الأراضي المحتواةِ في هذا القسم، وهذه العنايةُ بالتبويبِ والوَصفِ والتقديمِ للنصوصِ في القسمِ الأوّلِ هي تَجَلٍّ للإلحاحِ الّذي يعبِّرُ عنه عنوانُ القسم. أمّا القسمُ الثّاني فهو أقربُ إلى فعلِ كتابةٍ منعكِسٍ على ذاتِهِ صراحةً، فالكاتبُ يستبطِنُ ذاتَهُ (الكاتِبَةَ) ويحاولُ أن ينقُلَ إلينا تصوُّرَه عنها، وعن العالَمِ وعلاقتِهِ به من خلالِها، في نَصٍّ حُرٍّ يتماسُّ بشكلٍ ما مع السِّيرةِ الذّاتيّةِ الأدبيّة. وحُرِّيَّةُ هذا النّصّ حُرّيّةٌ مُطلَقَةٌ في الحقيقةِ، لا يَحُدُّها (إلحاحٌ) كذلك المُشارِ إليه في عنوانِ القسمِ الأوّل، ولِذا فهو كما يصِفُهُ عنوانُهُ: “طَرحٌ لم يُشَكِّل يابسة”.
قَصَصُ هذه المجموعةِ يجنَحُ في جُملتِه إلى عالَم الأمثال parables، حيثُ الأشخاصُ غُفلٌ من الأسماءِ إلاّ قليلاً، وربّما لا تَظهرُ الأسماءُ إلاّ في القصة الأخيرة (الذِّكرَى)، ففيها (زكيّة الراقصة – عليّ اللص – محسن المبطون – علاء الإسكافي – سعدون الحشّاش – منصور صاحب الكاس – الواد سعيد الأفندي ابن محمود الفرّان – حسين الهجّام – يونس كبير التّجّار)، وكلُّهم إلاّ الأخيرَ يمثّلون المهمَّشين المغلوبين في القصّة. فإذا كان الاسمُ يخلُقُ حالةً من الحميميّة بين المتلقّي والشخصيّةِ في العملِ الأدبيّ، ويمهّدُ لاحتمالِ توحُّدِ المتلقّي معها، فإنّ هذه القصّةَ ربّما تشيرُ إلى انحيازِ القاصِّ إلى المهمَّشين، بينما إغفالُهُ المتعمَّدُ للأسماءِ في غيرِها يُحيلُ شخصياتِهِ الأخرى إلى ظواهِرَ عقليّةٍ مجرَّدَةٍ لا لَحمَ ولا دَمَ لها، ويضعُها بأدوارِها النموذَجِيّةِ عامدًا أمامَ عينَي القارئ ليَصدِمَهُ بلاإنسانيّتِها ويُحَرِّرَهُ من إمكانِ التعاطُفِ معها، فيفتَحَ إمكاناتِ حُكمِهِ العقليّ وتساؤلاتِهِ الفكريّةِ أمامَها بلا حدود.
كذلك تجدُرُ الإشارةُ إلى تقاطُعِ هذه النصوصِ أسلوبيًّا مع النصوصِ المقدَّسَة على أكثرَ من صعيد. فأوّلاً، لا يَخفَى أنَّ الأمثالَ أداةٌ شائعةُ الاستخدامِ في نُصوصِ الدياناتِ الإبراهيمية، فهي في التوراةِ (المَشَليم) mashalim الّتي يقولُ بعضُ شُرّاحِ التوارةِ إنّ سليمانَ – عليه السلامُ – اخترعَها ولولاهُ ما فُهِمَت التوراة! وهي في الكلام المنسوب للمسيح عليه السلامُ في الأناجيل، وهي في القرآنِ وفي التراثِ الصُّوفِيِّ بغزارة. وثانيًا يعمَدُ القاصُّ إلى استقصاءِ الوَصفِ وإيرادِ تصنيفِ ما يصفُهُ من موضوعاتٍ والإطنابِ بتناوُلِ الصُّورةِ والحدَثِ من كلِّ زواياهُ، ويفعلُ هذا بشكلٍ مُطَّرِدٍ، ففي قصّة (الديكتاتور) يتباهَى الرَّجُلُ بچيناتِه النقيّة التي أورثت بدنَه تراكُمَ العيوبِ الخِلقيّة، يفاخِرُ بـ”إصبعه الزائد وشفته المشقوقة ولسانه الملتصق بالحلق وأنفه الأفطس و….إلخ” فيما يستغرِقُ سِتَّةَ أسطُر، وفي (البلاء) “خلالَ أسبوعٍ واحدٍ كان قد رأى رءوسًا يسكنُها البَقُّ وأخرى الجَرادُ، بعضُها ينقرُ فيها غِربان وبعضُها يرتعُ فيها الذُّباب، بومٌ اتخذ بعضَها أعشاشًا، …إلخ”، وفي (تطوُّر): “ثُمّ كان تنوعٌ بيولوچيٌّ وسلالاتٌ عديدةٌ, البعض استطال فمه واتسع فكّاه، بعضهم طوّر غددًا لعابيةً تحقِنُ السُّمّ، البعض تكلّست أنسجتُه وتصحّرَت أعضاؤه … إلخ” فيما يستغرِقُ صفحةً ونصفَ الصفحة! وأخيرًا في (الذكرى): “فقراءُ المدينة ومقطوعو الأرجُل ومبتورو الأذرُع والعِميان…. إلخ” في إيرادٍ لأصنافِ المهمَّشين يذكِّرُنا بآياتِ البيانِ التشريعيِّ المدَنيِّ في القرآنِ كالآية: “ليس عليكم جُناحٌ أن تأكلوا من بيوتِكم أو بيوتِ آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم ….إلخ”. والمتابعُ لأدَب كاتبِنا لن يُخطئَ تواتُرَ هذه السِّمَة في مُنجَزِه، فهي كذلك في مجموعته (الضئيل صاحبُ غِيّة الحمام) بكثافةٍ تصِلُ إلى غايتِها في (حكاوي المزيّن). في تقديري أنّه يحاولُ أن ينفُخَ الرُّوحَ في فكرتِهِ بالِغةِ العُمقِ والتجريدِ، فتنفتحُ التفاصيلُ وتتكاثَرُ حتى تغلِّفَ هذه الفكرةَ التي يَشعُرُ هُوَ بنفاسَتِها، فتصبحُ كلؤلؤةٍ ثمينةٍ مختزَنةٍ في صدَفَةٍ سميكةٍ عسيرةِ الاختراقِ من التفاصيل. هو لا يريدُ لفكرتِهِ أن تَطرحَ نفسَها على الطريقِ لكلِّ قارئٍ عابرٍ، مُؤثِرًا نُخبويّةً نبيلةً بذلك في الحقيقة.
المقدّمةُ الأولى تتحدثُ عن “أرضٍ بزغت بعد أن ذهب الطوفان، غيرَ أنها لم تُقَدَّ من ماءٍ وطين، هي زَبَدٌ يَغلي ويفورُ وينشأُ ويَفنى“، فكأنّ أمامَنا عَودًا أبديًّا نرى منه حَلقةً واحدةً في قصّتين/ أو مَثَلَين بالأحرى، وهي أرضٌ “كالكونِ جُفاءٌ يذهبُ به العصفُ والبرودة، فقط ستكونُ أَلقَةً لامعةً تُفَتِّتُ الضوءَ لعناصره وتمزجُ ألوانَه…”. هي إذَن حلقةٌ من البَهرَج الزائفِ القائمِ على حافةِ هاويةٍ من الفناء/ اللاّمَعنى. في القصة الأولى يفاجَأ (الدكتاتور) بقَزَمٍ يدّعي أحقيّتَه بالمُلكِ عليه، ولا يحتملُ وجودَه فيقفزُ عليه في النهايةِ ونُدرِكُ أنّه راكمَ إلى عيوبِهِ النقيّةِ المتوارَثَة عن أجدادهِ عيوبًا اكتسبَها من القزَم. هنا النّقاءُ دافعٌ إلى الاستعلاء واستمراءِ السّلطة، والنّقاءُ ما هو إلا نقاءُ عيوب، واستمراءُ السُّلطة كان الدافعَ الوحيدَ إلى تفاعُلٍ حقيقيٍّ مع الآخَر/ القزَم، والتفاعُلُ كان السبيلَ الوحيدَ إلى الهُجنَة، التي عزّزّت السلطة! ربما يحاولُ (أحمد سمير) أن يَقدَحَ في سُلطَة النصوص، بادئَ ذي بَدءٍ، فما النصُّ إلا مراكمةٌ للعيوب وما هو إلاّ سُلطَةٌ محدودةٌ في يد صاحبِها/ النّاصّ. في القصة الثانية (توحُّد) يحاولُ (سمير) أن يقدَحَ في النّاصّ بعدَ أن قدحَ في النصّ! فالبطلُ يعتزلُ مجتمعَه و”يشكّلُ عالمَه على هواه، يملؤه بظلالٍ على شاكلتِه، يسلخُ من وجهه آلافَ الأشخاص...إلخ” لكنّه في النهاية “رأى كلَّ ما صاغَ صدىً لصوتٍ لم يَصدُرْ، ظِلاًّ باردًا لحقيقةٍ لم توجَدْ”، فاكتشفَ أنه “خيالٌ ثنائيُّ الأبعادِ بلا عُمق، يوشكُ أن يتلاشى في ظلامِ غرفتِه الباردِ وإن حاولَ إشعالَ اللهبِ والمقاومة“. هنا نجدُ خالقَ النصّ وقد أدركَ أنه ما خلق إلاّ وهمًا كبيرًا وأنه كذلك وهمٌ كبيرٌ يقف على حافة اللامعنى. القصتان في الحقيقةِ بسطٌ لفكرةِ البهرَج القائم على حافة الهاوية في المقدمة الأولى، كما لو كنّا إزاءَ صدىً لمفهومِ الخواء عند (دريدا) وغيرِه. هي محاولةٌ لتسفيهِ الكتابةِ لدى الشُّروعِ فيها!
المقدمة الثانيةُ ترددُ الدوجما الأساسية التي تتغنى بها الأولى مِن أنّ هذه الأرضَ بهرَجٌ زائلٌ مفطورٌ على الفَناء، لكنّها تضيف وتؤكّدُ أمرًا آخَرَ وهو “محاولةُ هَباءٍ لاختراعِ معنىً والوصول“. القصّةُ الأولى (الشفيف) تقدّمُ بطلاً شيخًا، مَيزتُهُ في حيادِهِ إزاءَ الآخَرين فهو لا يؤذي أحدًا ولا يضمرُ شرًا لأحدٍ، وكلُّ ما عدا ذلك من كراماتِهِ مردودٌ عليه، فصلاةُ الاستسقاءِ التي كانَ إمامَها والتي انهمر المطرُ بعدها لينهي أشهُر الجفاف، كان قد صلى قبلها صلاتَين لم تُسفِرا عن شيء، وقِس على ذلك حوادثَ أخرى. لم يُرفَع وليًّا وغيرُهُ رُفِع، وهذه جُملةٌ مفتاحيةٌ في فهم القصة. البطلُ ماتَ وقُيِّضَ له من يورثُ ذِكرَهُ لأحفادِه. وكأنَّ الأخلاقَ هنا تتأسسُ على الشكِّ لا على الإيمان. نحنُ أمامَ ولايةٍ إنسانيّةٍ لا ربّانيّة، أقصى ما تطمحُ إليه أن تظلَّ راغبةً في الرّبّانيّةِ دون تأكُّدِ وصولِها إليها. إنها محاولةٌ لاختراعِ المعنى كما تقولُ المقدّمة، وكفاها شرفًا أنّها محاوَلَة! وهذا المضمونُ مع العنوان (الشفيف) يُذَكّرُني مقطوعةً شعريةً لـ(كريم الصياد) في ديوانه الأول (الأمرُ): “أغرقُ في الماءْ/ ما جاءَ نبيٌّ قبلي إلاّ ومشى فوقَ الماءْ/ لكن معجزتي غَرَقِي/ غَرَقي حتى عُنُقي/ ذَوَباني في عُمقي/ لِيَعودَ الماءُ شفيفًا بنقاءٍ بنقاءٍ بنقاءْ!”. فهنا أيضًا ولايةٌ – أو ربما نبوةٌ – إنسانيةٌ تطرحُ جانبًا إرثَ المعجزاتِ وتحتفي بالانغماسِ في الطبيعة وسلوك درب الإنسانية. ونعرفُ أنّ القاصَّ والشاعرَ زميلان في جماعة (سيميا) الأدبية التي تأسست عام 2006، فلا نستبعدُ أن يكون مُنطَلَقُهما الفكريُّ واحدًا، أو هما منطلَقان متقاربان على الأقلّ.
في القصّة الثانية (حقول الذُّرَة) نجدُ أوصافًا مهولةً لحقولٍ “ابتلعَت خمسة جيوشٍ نظامية/ نموتُ فيها من البردِ ببطونٍ منتفخةٍ من أكل حبّات الذُّرة النيئةِ وقلوبٍ أعطبَها الجَزَع/ في العُمقِ منها ذئابٌ جائعةٌ وجانٌّ يتجسّدون ليلاً“. في تصوُّري أننا إذا تتبّعنا ظواهِرَ هذا النّصّ القصصيّ، إلى عنوانِ المجموعةِ المتّكئِ على تعبيرٍ مصريٍّ (طرح البحر)، فلن نكونَ مخطئين إذا قُلنا إنّ اختيارَ الذُّرَةِ هنا يتكئُ كذلك على تداعياتٍ ولوازمَ لهذا المحصولِ الحقليِّ متجذِّرةٍ في الوعي المصريّ، أهمُّها القدرةُ على الإخفاءِ ومكمنُ الخَطَرِ الدائمِ الذي لا يُؤمَن، فالمصريون يقولون (لَبَد له في الدُّرَة) بمعنى (كَمَنَ له في الخفاء)، وهذا بالطبع راجعٌ إلى طبيعة النباتِ وحقولِه! هنا – في تقديري – ثَمَّةَ إشارةٌ إلى كُلِّ ما هو غيبٌ ومُستَعصٍ على التجربةِ البشريّة الحسّيّة المباشِرة. يحدثُنا القاصُّ عن ضرورةِ هذا الغيب المكنونِ “غيرَ أنَّ الأعوادَ كانت دائمًا سِترًا للعُشّاقِ إذا ما أرادوا خلوةً على ألاّ تُطيلَ المُكثَ“، وعن خطَرِه في الوقت نفسِه “مأوى لعصاباتٍ شتّى وقُطّاعِ طُرقٍ ونصّابين وشيوخ منصر ولغيلان وأشباح غير مرئيةٍ تتسترُ بالليل وتخطفُ عيالَنا” فالغيبُ ميدانُ المتكلمين والمتفلسفين والمؤمنين والملحدين وشِجارِهم الدائبِ الذي يُدّوِّخُ الوعيَ البشريّ ويتخطَّفُ الناس! يحدّثُنا عن طفيليةِ الغيبِ وشيطانيتِه “أعوادُ الذرة كنبتِ شيطانيٍّ بزغت في حقول القمح وبين أشجار الفاكهة، أزاحت بلاطات المنزل وأقامت ساقها وسطَ البيت وفي الفِناء” فهو عالَمٌ لا يمكنُ إثباتُ وجودِهِ بالتجربةِ الحسّيّةِ كما لو كان يفتقرُ إلى الأصالة الوجوديّة للوهلةِ الأولى! كما يتحدثُ عن الحَلّ الجِذريِّ الذي يقضي على حقولِ الذرةِ/ الغيب “جذوة لهب وكيروسين تُنهي كلَّ شيءٍ وتنقذُنا” فهو العِلمُ التجريبيُّ، وربّما هو الوضعيّةُ المنطقيّةُ إن تابَعنا شَطَطَنا المُبَرَّرَ! القصةُ تَطرحُ الحَيرةَ الوجوديّةَ بين الاستسلامِ للغيبِ والرغبةِ في تمزيقِه “أخشى حقلَ الذُّرَةِ ومخلوقاتِه ووحوشَه، وتُرعِبُني نباتاتُه الشيطانية، وأخافُ الموتَ محروقًا أو مخنوقا”، وتُسَلِّمُ في النهايةِ بأنَّ العلمَ التجريبيَّ براديكاليتِه موشِكٌ على الانتصارِ فيما بدأه، وعمّا قليلٍ سيُعاني الجنسُ البشريُّ تكاليفَ انتصارِه “ألسنةُ اللهبِ الوليدةُ لن تلبثَ أن تتكاثَرَ وتنمو وتناطحَ السحابَ، الدخانُ يَملأُ كُلَّ الكونِ ويَفيضُ، يَصرَعُ نباتاتِ الذُّرةِ ويخنُقُنا“. هو إذَن مَثَلٌ يتجاوبُ مع محاولةِ اختراعِ معنى، ومحاولةِ الوصولِ المحكومةِ بالفَشَل!
المقدمةُ الثالثةُ تقدمُ أرضًا “سألَت سموًّا ورفعةً لكنّها قُدّت من ذاتِ مادّة الأرض: معجونَ طينٍ وخطايا وحديدٍ ولهَب”، وبعد أن تسامَت “سقطَت هي وسقطتُ أنا” .. نستمرُّ في شططِنا المُبَرَّر ونقولُ هو تقديمٌ للنصِّ الطامحِ في امتلاكِ سُلطةِ اليقين وطُمأنينتِه، والمحكومِ عليهِ بالبقاءِ في الحَيرَة. القصةُ الأولى (الابنة) تقدّمُ أبًا يحاولُ حمايةَ ابنتِه بمنحِها الحكمةَ والبصيرةَ لكنّه يُدرِكُ أنه لم يملك اليقينَ يومًا، بل “احترقت عيناهُ منذُ بدأ النظرَ إلى أبعدَ مِن قدمَيه”. هو صدى الحيرةِ الأصيلةِ التي تحملها إلينا المقدمةُ الثالثة. القصةُ الثانية (البلاء) تبدأ بوصفِ طربوشٍ مكويٍّ لوالد البطلِ يُخفي تحته الديدان، والمشهدُ يؤرّقُ وَعيَ البطل بعد وفاةِ أبيه .. نتصورُ أنَّ الأمرَ قاصِرٌ على انهيارِ السُّلطةِ الأبويّة وأنّه البلاءُ المقصودُ، لاسِيَّما أنّ الأُمَّ أيضًا لها “ذلك الفأر الرمادي بفمه المقزز وشواربه الطويلة يعتلي رأسَها ويدسُّ ذيلَه في فُتحةِ أذُنها ليَعبُرَ إلى الأخرى“. لكن نكتشفُ مع البطل شُيوعَ هذه البَلوى فَـ”خلالَ أسبوعٍ واحدٍ رأى رءوسًا يسكنُها البَقُّ وأخرى الجَرادُ….إلخ”، والجميعُ عاجزٌ عن رؤيةِ ما حَلَّ به “فأبوه لم يرَ الديدان حين نظرَ إلى المرآة” و”لم يرفع أحدُهم يومًا يده ليتحسسَ رأسَه“. ونلمحُ ما يشبهُ الخوفَ المرَضِيَّ لدى بطلِنا من أن يكون البلاءُ قد طالَه “لا يكفُّ عن تحسُسِ رأسه في جنونٍ وجزَع”. اختيارُ الرأسِ بما هو مسكنُ الأفكارِ وبما هو مجازٌ مُرسَلٌ محتمَلٌ عنها يُرَجِّحُ لدينا أن ثَمّ إلحاحًا على مسألة فُقدانِ الاتَساقِ في المنظوماتِ الفكريّة التي تبدو “مكويّةً” وأنيقةً ومُهَندَمَة! بل إننا نلمحُ احتشادَ السَّلفيّاتِ الفكريةِ المختلفةِ في صراعٍ عبثيٍّ: “الرءوسُ المسكونةُ بالغِربانِ تنضَمُّ معًا وتُفارِقُ الباقين/ كُلٌّ يقصِدُ شَبيهَهُ ولا أحدَ سَليم/ ينتظمون في معارِكَ وتدافُعٍ لا يَنتَهي ولا يَصِلُ لنتيجةٍ أو دَليل”. بلاءٌ شاعَ حتى إننا لَنَكتشِفُ أنَّ بطلَنا لم يَنجُ منهُ حين ماتَ ووُورِيَ التُّرابَ “لم يُلاحِظ أحدُهم صفَّ الصراصير الذي غادرَ رأسَه عبرَ عينيه...”. الأرؤسُ نصوصٌ فكريّةٌ مَعيبةٌ، كُلُّها سألَ الرفعةَ ولم يَنَلها، تجاوبًا مع مقدمتِنا. أما الثالثةُ (الموت) ففيها الموتُ يتجسّدُ ويتجرّدُ في مراوَغَةٍ تتّسِقُ ودورَه الطبيعيَّ في العالَم، فهو “تارةً يأتي كرائحةٍ محمولةٍ على النسيم” وتارةً “كفارسٍ يلتحفُ الظلامَ والسوادَ“، وسُكّانُ المدينةِ يحاولون صَدَّهُ بتعيين الحراسات حول المدينة، وأشجعُهم يرُدُّه عن المدينةِ لكنَّه يموتُ، فكأنَّهُ لم يَصُدّه فقد نالَ الموتُ منه! إذا مضَينا في تأويلِنا المحتمَل، نكونُ أمامَ النصوصِ التي تحاولُ الخُلودَ وتَدَّعيهِ ويَطالُها الموتُ في النهاية .. الخلودُ بعضُ الرفعةِ المشتهاةِ في المقدمة، وهو مُحَرَّمٌ على النصِّ كحُرمتِه على النّاصّ!
المقدمةُ الرابعةُ تقدّمُ لنا أرضًا واعيةً بذاتِها، مرّت برِحلةٍ نُضجٍ تشبِهُ في بِنيتِها الثلاثيّةِ جَدَلَ (هيغِل)، فهي أوّلاً “مسّها الغُرورُ فظنّت أنَّ كلَّ أرضٍ تلمسُها أو تُبحِرُ عبرَها تتغيرُ عناصِرُها ويُعادُ بناؤها لتصيرَ نسخةً واعيةً منها” كحالِ مثاليّة (فِشتَه Fichte) الذاتيّة، حيثُ الوعيُ الشخصِيُّ هو الذي يُشَكِّلُ العالَم، وثانيًا “ضربَها الاكتئابُ واليأسُ فرأت في باطنِها زَبَدًا يَذهَبُ جُفاءً، تمُرُّ سلامًا على كلِّ أرضٍ بلا ذكرى أو بلاغٍ أو أثَر” فيما يشبهُ من بعيدٍ مثاليّةَ (شِلِنغ Schilling) الموضوعيّةُ حيثُ لا دخلَ للوعي الشخصيِّ في تشكيلِ العالَم بل الأشياءُ في ذاتِها ناطِقةٌ عن نفسِها، وإن كان يشوبُ هذا الشَّبَهَ حالٌ من اليأسِ لا يوجَدُ عند (شلنغ) بنزعتِه التصوُّفِيّةِ المُحِبّة للعالَم، فهو يأسٌ مبعثُهُ أنَّ حديثَنا عن النصوصِ باعتبارِها أراضِيَ وعن الأشياءِ باعتبارِها نصوصًا، فهنا وعيٌ بعجزِ القارئِ أمامَ انغلاقِ النصوصِ/ الأشياءِ على ذواتِها دون أملٍ في معرفتِها على حقائقِها .. وثالثًا وأخيرًا “فطِنَت إلى أنَّ الأرضَ تتغيرُ فقط بتغيُّرِ وعيِها بها فتبسّمت وانتشت وأزهرَت حكاياتٍ وعوالِم“، فهي المرحلةُ الأخيرةُ، مرحلةُ التركيبِ synthesis من الموضوع ونقيضِه كما جاءا في المرحلتين الأولَيَين، فيما يُشبِهُ تَجَلِّيًا لمثاليةِ (هيغل) المُطلَقَة الناشئةِ عن تفاعُل الذاتِ والموضوع، وهي مرحلةٌ تُحيلُنا مضمونيًّا إلى مفهومِ تعدّدِ القراءاتِ بتعدّدِ القُرّاء للنصّ الواحدِ في النزعةِ التفكيكيّة، حيثُ كلُّ قراءةٍ مُصيبةٌ ومُخطئةٌ في آنٍ، كما تُشيرُ الجُملةُ الأخيرةُ في هذه المقدمة “وعاشت على هذا الخيالِ والمُعتقَد”، هما هنالك إلا خيالٌ ومعتقدٌ في النهاية، وكلُّ خيالٍ مُصيبٌ ومُخطئٌ في آن! القصّةُ الأولى (تطوُّر) ترصُدُ مصيرَ كائنٍ لم يستطع أن يخوضَ مثلَ رحلةِ النُّضجِ المذكورةِ في المقدمة، والتي تتجسّدُ هنا رحلةَ تطوُّرٍ بيولوچيٍّ للكائنات تحت ضغط الحاجة، فآلَ أمرُ سلالتِهِ إلى الفَناء في قسوةٍ كونيّةٍ لا ترحمُ مَن يتحجَّرُ وعيُه .. القصةُ الثانيةُ (اغتيال) هي خصومةٌ مع الموتِ نخالُها صدىً شائِهًا عَمدًا لقصة (الموت)، فهنا لا يطمحُ البطلُ إلى الخلودِ والانتصارِ على الموتِ ابتداءً لكنَّه فقط يريدُ معركةً عادلةً مع الموتِ وهو يعرفُ أنه مهزومٌ لا محالة، وينهزِمُ بالفعلِ أمامَ الموتِ المُصِرِّ على النذالةِ حتى مع النصوصِ/ الأشخاص المُصِرَّةِ على النُّبل، لكنّه حينَ يسقطُ ميتًا يسقطُ منتشيًا وهو يقولُ الشِّعر من قلبِهِ الملَّوثِ بالشِّعر، فكأنه ظفرَ بنصيبٍ من النُّبلِ وحظٍّ من الخُلُودِ حينَ أدركَ يقينيّةَ هزيمتِه وتواضعَ أمامَ حقائقِ العالَم القطعيّة. ولذا فإنّ العنوان هنا (اغتيالٌ)، فالبطلُ لم يَمُت إلا غيلةً إذا نظَرنا إلى حِدّةِ وعيِهِ وإصراره على النُّبل، كما أنه أدركَ نصيبًا من اغتيالِ الموتِ في الحقيقةِ حين انتزعَ لنفسِهِ بعضَ الخلودِ وهو يقولُ الشِّعر. القصةُ الثالثةُ (كابوس) تقدمُ لنا وعيًا لا يستطيعُ مقاومةَ توحُّشِ ذاتِه، فهو يُصَوِّرُ العالَمَ كيفما يتراءى له، ويدَعُ العالَمَ المُتَصَوَّرَ يَقتُلُهُ في لُغزٍ من ألغازِ الوُجود! تبدأُ القصةُ ببطلٍ يعاني كابوسًا يوميًّا تهاجمُهُ فيه الثعابين وتكادُ تقتلُه، ونعرفُ أنَّ البلدةَ كلّها “أصابَها ذاتُ البلاء، كلٌّ تجسَّدَ له أسوأُ مخاوفِه، غير أنّ هناك زوجين قتلتهما العقارب، رجُلاً قضكَ عنقَه ذِئبٌ ….إلخ”. نحنُ أمامَ (شيُوع بَلوى) كذلك الذي في قصة (البلاء) وكأنّ هذه صدًى شائهٌ عَمدًا لها كذلك! لكنّ البلوى هنا ليست في انعدامِ اتّساقِ المنظومات الفكرية الذي لا يبدو لصاحبِ المنظومةِ نفسِه، بل هي في مخاوفَ ونقائصَ يتصورُها المرءُ نفسُهُ تتضخمُ من حولِهِ حتى تكاد تقتله، وهذا لا يحدثُ إلاّ مع وعيٍ متوحّشٍ بالضرورةِ، ينعكسُ على ذاتِهِ حتى يقتُلَها، وفي هذا رَجعٌ لرحلةِ النضجِ التي خاضها الوعيُ في المقدّمة الرابعة.
المقدمةُ الخامسةُ والأخيرةُ تقدّمُ أرضًا “سألت تفرُّدًا، غير أنها بعد أن دارت الحياةُ على سطحِها وشهِدت نباتاتِها الجديدةَ كُلَّ الجِدَّة، أردكت أنها مهما اجتهدت وأبدعَت حبيسةُ ذاتِ الكيمياء والمعادلة، بلا أيِّ قدرةٍ على النفاذ من حدود السماواتِ والأرض”. هنا ختامُ رحلةِ استكشافِ ما (يَطرَحُهُ) الخَيالُ من أراضٍ/ نُصوص .. يتناصُّ القاصُّ مع آيةِ سورةِ الرحمن لفظيًّا “إن استطعتم أن تنفذوا من أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذُوا، لا تنفُذُون إلاّ بسُلطان”، ليُعلِنَ مضمونيًّا وشكليًّا في آنٍ نهايةَ الرِّحلةِ الدائريةِ بالعودةِ إلى نقطةِ البدءِ، فلا أصالةَ مطلقةً لإبداعٍ وليسَ ثَمَّ إلاّ إعادةُ تشكيل .. القصةُ الأولى (الحكمة) تحتفي بهذا الفَهمِ فتقدّمُ بطلاً تحطُّ الحكمةُ على صدرِهِ في صورة ذبابةٍ زرقاءَ كما أُخبِرَ عنها صغيرًا، أو هكذا تصوَّرَ! نشهدُ تَرَقِّيَهُ من جنديٍّ محاربٍ إلى سرير الإمارة، وجزَعَه حين رأى الذبابةَ الزرقاءَ تحطُّ على كتف صبيٍّ في حاشيتِه، وهو ما دفعَه إلى مطاردتِه حتى قفزَ من الشُّرفة! نحنُ أمامَ (مَثَلٍ) كلاسيكيٍّ ساخرٍ تُفلِتُ فيه الحكمةُ من يَدَي مَن يدَّعي امتلاكَها، ولو أمامَ نفسِهِ فقط .. إنه يدّعي تفرُّدًا ليسقُطَ في شرَكِ تهكُّمِ القطيع، ويقولُ بلسانِ حالِهِ إنَّ كُلَّ أصالةٍ تقليدٌ وكُلَّ إبداعٍ رَكاكة! القصةُ الثانية (الذِّكرَى) تقدِّمُ لنا بلدًا افتراضيًّا يفاجأ فيه المُهمَّشُون المغلوبون يومًا بأنهم أصبحوا السادةَ وقد خلَت لهم البلدة، ليكتشفوا في النهايةِ أنهم كانوا يؤدُّون أدوارَهم كـ(كومپارس) في نفس المسرحيّة الجَمعيّةِ التي تُمَثَّلُ كُلَّ سنةٍ في ذِكرى تولّي (الكبير) حُكمَ البلدة. ربّما يبدو التأويلُ السياسيُّ لهذه القصّةَ هو الأقربَ للذائقةِ العامّة، لأنَّ بعضَ الظواهر اللُّغَويّةِ في هذا النصِّ قد تدفعُنا إلى ذلك، كتجاور “الكنائس قرعَت أجراسَها” و”ميكروفونات المساجد هللت وكبَّرَت” وهو التجاور الشائعُ في تصوير تواطؤ السلطة الدينية مع السياسيّة في تكريس الاستبداد .. كذلك مفرداتُ المعركة والانتصار وأوصاف المهمَّشين وما إلى ذلك، فضلاً عن الخلفيّة الواضحةِ لأحداثِ القصّة .. كلُّها تدفعُنا إلى تبنّي التأويل السياسيّ القريب .. لكن ثَمَّةَ ما يشدُّنا إلى تأويلٍ أكثرَ تجريدًا يتعلّقُ بنَقد السَّعي الإنسانيِّ في جُملتِه، وسعي المُبدِعِ إلى الأصالةِ الفنّيّةِ والفكريّةِ على وجهِ الخصوص، ونعني بذلك المنظومةَ السياقيّةَ التي تشكَّلَت من مجملِ نصوصِ المجموعة، والتي لا أستطيعُ بشكلٍ شخصيٍّ الفكاكَ من إغرائها .. الأبطالُ المُعيَّنون بأسمائهم هنا “لايستطيعون النفاذَ من حدود السماواتِ والأرض” كما أسلَفَت المقدِّمة .. وكما أسلَفنا الحديثَ عن جدوى تعيين الأسماءِ هنا تحديدًا، نضيفُ إلى أنَّ ذلك جاءَ في القصّة الختاميّة لهذا القسم من الكتابِ، ربّما كشكلٍ من الرِّثاءِ لِحالِ هؤلاء الذين لا يمثّلون إلا كُلَّ السعي الإنساني نحوَ الأصالة .. إنهم أنا وأنتَ وهِيَ والجميع.
القسمُ الثّاني من المجموعة (طرحٌ لم يشكّل يابسةً) نجدُ فيه صدىً لكلِّ الأفكارِ المحتشدةِ في القسم الأوّل، فيما يشبهُ تأريخًا للوعي الشخصيّ لكاتبِنا .. نكتفي بمثالٍ واحدٍ يتعلّقُ بصدى المقدمةِ الرابعةِ من القسم الأوّل .. هنا يقولُ الكاتب: “أولُ ما سقطَت عليه عيني كان صورتي. كانت كافيةً لتملأ كلَّ الكادر. كافيةً لأعبُدَ المعجزةَ فيها”. ثُمَّ يقول: “غير أنَّ العالَمَ اتسعَ وتضاءلتُ ثُمّ اتسع أكثرَ حتى تلاشَيتُ”. ثم يقول: “غير أني اكتشفتُ أني مازلتُ ساذجًا ذكيّا وبسيطًا” وصولاً إلى قولِه “ساعتَها أكبرتُ كُلَّ الأرضِ وأكبرتُ صورتي التي عادت لتملأ كلَّ الكادر على اتساعِه”. هو هنا يجمعُ في صعيدٍ واحدٍ من التحدُّث بصيغةِ المتكلّم عن سيرته الذاتيةِ ما كان قد فرّقَه أمثالاً في القسم الأوّل ..
ختامًا، نحنُ أمامَ مغامرةٍ سرديّةٍ على أكثرَ من صَعيد .. فهذه مجموعةٌ لا قَصَصيّةٌ إن شئنا الدّقّةَ، لكنَّها سِفرُ أمثالٍ بالِغُ التَّجريدِ من ناحيةِ أفكارِهِ، بالِغُ التَّجَسُّدِ من ناحيةِ أحداثِهِ المتلاحِقَةِ وعنايةِ مُبدِعِه بالتفاصيل .. وبهذا الصَّدَدِ يَحضُرُني جامعو ومقدِّمو قَصَصِ (فرانز كافكا) حين يبدأون كتابَ الأعمال القصصية الكاملة بـ(مَثَلَين افتتاحيين Two Introductory Parables) هما (أمامَ القانون Before the Law) و(رسالةٌ إمپراطورية An Imperial Message) .. بالتأكيد سيَجِدُ سِفرُ أمثالِ (أحمد سمير) ما يستحقُّ الانتباهَ والاحتفاءَ لديهِم! وعلى صعيدٍ آخرَ هذا قصَصٌ يجعلُ من الإبداعِ نفسِهِ موضوعًا له، لكنّه موضوعٌ غيرُ مباشِرٍ في كثيرٍ من الأحيان، فهو أقربُ إلى أن يكون الطبقةَ الأعمقَ من التأويلاتِ المُحتَمَلة للنصوص .. وعلى صعيدٍ ثالثٍ لا يخشى الكاتبُ أن يُدرِجَ في كتابِهِ هذا نَصًّا مستعصِيًا على التصنيفِ المبدئيِّ، وهو القِسمُ الثاني، ليُجمِلَ فيه ما فصَّلَه في القسم الأوّل، ويُسقِطَ على سيرتِهِ فيه ما أسقطَه منها على العالَمِ في الأوّل .. نَصٌّ ثَرِيٌّ يستحقُّ دراسةً أكثرَ تفصيليّةً وتعمُّقًا من هذه الإلمامةِ السريعةِ بالتأكيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وروائي وناقد مصري
نُشرت الدارسة في مجلة عالم الكتاب