سيمون دو بوفوار.. امرأة أيضا

سيمون دي بوفوار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعيد بوخليط

من كان بوسعه الاعتقاد، بأن سيمون دو بوفوار، امرأة كباقي النساء؛ تحب، تعشق، تنتشي، تتغنج، تتحسس جسدها باشتهاء، تتأوه من اللذة، وتغري رجالا يثيرون مشاعرها ورغباتها الحميمة؟.

من كان يظن أن بوفوار، امرأة غير عادية بكل المقاييس، مثلما ترسخت وفق نمذجة تمثلات ذهنية نمطية، في حين تجسد داخل الغرف المضاءة ضوءا خافتا وفوق الأسِرَّة؛ بغض النظر عن هالة حضورها الفكري، امرأة شبقة متصالحة مع جسدها، تبحث عن لحظات استراحة طويلة بين أحضان رجل تعشقه؟.

بوفوار، ذات الكاريزما المهيبة على المستوى القيادي، صاحبة ذهن جبار، واحدة من أهم رموز الفكر الإنساني على امتداد تاريخه، رائدة وملهمة الحركة النسوية خلال القرن العشرين، صاحبة مقولة :”لا تولد المرأة امرأة، بل تصير كذلك”، النواة المفصلية لكتابها الشهير ”الجنس الثاني”، الصادر سنوات الخمسينات، بحيث بلغت نسخ طبعته الفرنسية مليونا ومائتي ألف نسخة كما ترجم إلى سبعة وعشرين لغة.

من بوسعه الاعتقاد؟ أن رفيقة درب سارتر والثنائي النوعي والخالد، الذي أرست معالمه رفقته منذ لقائهما الأول سنة 1929 غاية رحيل عقل فرنسا(توصيف الجنرال ديغول) سنة :1980”في حدود واحد وعشرين عاما، أدركت بوفوار، بأن سارتر سيشكل القضية الكبيرة في حياتها. هكذا، كتبت في الجزء الأول من مذكراتها مايلي، ويشير السياق التاريخي إلى سنة1929 :”بوسعي دائما صحبة سارتر، تقاسم كل شيء. حينما افترقنا بداية شهر غشت، أدركتُ منذ تلك اللحظة بأنه لن يغادر مسرح حياتي قط”. نعلم أشياء كثيرة عن حياتهما المشتركة، والثنائي الأسطوري لمثقفيْن مثلما شكَّلاه”(1)، قد أحبت حبا هائما رجالا آخرين، منساقة كلِّية بمجمل كيانها وأحاسيسها خلف علاقات غرامية سواء داخل فرنسا، كشفت عنها رسائل عديدة صدرت بعد وفاتها ؛تقاسمتها صحبة إليزابيث لاكوان، كلود لانزمان، جاك لوران بوست، ثم جان بول سارتر مع بعض التحفظ، نظرا لخصوصية علاقتها بالأخير، أو خارج بلدها كما الشأن بالنسبة لأشهر غرامياتها على الإطلاق، المتمثلة في حبها الجامح للروائي الأمريكي نيلسون الغرين.

تجارب، كسرت تلك الصورة الجامدة عن زعيمة نظريات، متبلدة الحواس والعواطف، باردة المشاعر، بلا قلب ولا حيوات إيروسية تذكر، يهابها الرجال تاركين نحوها تهيبا مسافات بعيدة. بل أكثر من هذا، وجبت الإشارة والسياق شرط، إلى نزوعها المثلي إبان أولى فترات شبابها، لاسيما وأن والدها وصفها دائما منذ صغرها، بقوله :”تفكر ابنتي مثل رجل”. نزوع جنسي تبلور بجلاء بين طيات علاقتها ب إليزابيث لاكوان أو ”زازا” مثلما كان لقبها :”فتاة التقتها في المدرسة نتيجة إلحاح”اللذة”. منذئذ، لن تبتعد الواحدة عن الثانية. لازالت رسائلهما تنتظر إخراجها إلى العلن مع أن بعضها تضمنته صفحات إحدى الكتب شبه المفقودة. توفيت الصديقة المعشوقة عن سن الثانية والعشرين، خلال فترة بداية انطلاق مسار سيمون دو بوفوار. رحيل صديقتها شَغَل الصفحات الأخيرة من كتاب مذكرات شابة عاقلة (غاليمار) :”تظهر لي غالبا كل ليلة، صفراء تماما مرتدية قبعة وردية، ثم تفحصني بنظرة معاتِبة. لقد واجهنا معا المصير الموحِل الذي ترصد بنا، وظننتُ طويلا بأني أديتُ ثمن حريتي بموتها”(2).

عموما، تجلت معطيات هذا الجانب الشخصي في حياة بوفوار، من خلال مضامين الرسائل الوفيرة المتبادلة طيلة فترات، ارتباطا بسياقات مختلفة مع عشاقها الذين تقاسمت معهم احتياجاتها العاطفية والجنسية بزخم وعنفوان وعبرت عن جوانبها الشخصية بكل شفافية وجرأة: “لا، لم تكن سيمون دو بوفوار مجرد امرأة فاترة مكتفية بصياغة النظريات، أو فقط محض دماغ، منقاد خلف جان بول سارتر. بل، على العكس من ذلك مارست نزوعاتها العاشقة بجنون، حسب ألف طريقة ولم تتردد بخصوص إفصاحها عن ذلك…، بخلاف التصور السائد، عشقت بوفوار بجنون، تبعا لألف طريقة، ولم تتوقف عن توثيق ذلك. مراسلاتها، التي خصصت لها منذ سن العاشرة، حيزا زمانيا ضمن أنشطتها الصباحية، شكَّلت مسارا جوهريا “(3).

في الحقيقة، لم يصدر جانب كبير من هذه الرسائل غاية الآن، لأسباب موضوعية أو شخصية. في هذا الإطار، شهدت الحياة الثقافية الباريسية خاصة والفرنسية عامة سنة 1997، استثناء في غاية الأهمية، أزال اللثام تماما عن جانب شخصي أساسي في حياة بوفوار، بقي مجهولا لدى الرأي العام، غير حضور سارتر المعتاد والمألوف والمعلوم عند القاصي والداني. فقد بادرت سيلفي لوبون، ابنة بوفوار بالتبني، كي تخرج إلى عموم القراء، من خلال دار النشر غاليمار، حزمة رسائل بعثت بها والدتها بين سنوات(1947 -1964)إلى عشيقها الروائي الأمريكي نيلسون ألغرين، قاربت أعدادها ثلاثمائة وأربعة رسالة كتبتها بوفوار باللغة الانجليزية، لأن عشيقها لم يكن مطلعا على الفرنسية.

عام 1947، سافرت بوفوار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لإلقاء سلسلة محاضرات في جامعات أمريكية طيلة فترة خمسة أشهر، بدعوة من جامعات أمريكية عديدة، بحيث مكثت هناك طيلة الفترة الممتدة من شهر يناير غاية ماي.

خلال شهر فبراير، التمست ماري غولدستين من صديقها نيلسون ألغرين، حين زيارة بوفوار مدينة شيكاغو، الذهاب قصد التعرف على الكاتبة. فعلا، اجتمع بها وقضيا معا ليلة، وعند ظهيرة اليوم التالي، اصطحب ألغرين بوفوار البالغة من العمر آنذاك تسعة وثلاثين سنة، في جولة شملت أحياء المدينة المهمشة، وكذا حانات الحي البولوني. ثم بصعقة حب، وقعت في غرام ألغرين، شاب مبدع أشقر، طويل القامة بعينين زرقاوين، روائي يعيش في شيكاغو ويركز كتاباته على مايجري داخل أحياء البؤس وكذا المهمشين والخارجين عن النظام. من أشهر أعماله روايتي”صحراء النيون”و”والرجل صاحب الذراع الذهبية”التي توجته بأول جائزة قومية للرواية عام1950، ثم تحولت إلى فيلم أمريكي من بطولة فرانك سيناترا.

أصدرت سيلفي لوبون رسائل أمها بوفوار، دون تمكنها في المقابل من انتزاع ترخيص بخصوص إصدار رسائل ألغرين. تقول :”ضدا على مختلف التطلعات، وبعد صمت طويل الأمد – طيلة سنة تقريبا- أنهى وكلاء نيلسون ألغرين الأمريكيين أملنا بإصدارهم اعتراض على طلباتنا المتكررة وتأكيدهم لرفض دون استئناف. رفض الكشف عن رسائل ألغرين، دون تفسير ولاتبرير. طبعا، وجب الامتثال لهذا القرار الجائر. للأسف، لاسيما بالنسبة لألغرين، سيقدم إصدار من هذا القبيل خدمة وافرة، لأن الشخص كما الشأن مع الكاتب، على امتداد سبعة عشر سنة من المراسلات الحميمة غير مسبوقة في حياته، مستضيئا بضوء غير مترقب، ودافئ، سيبدو ربما أكثر مماثلة لحقيقته، ترمِّم بشكل أفضل غموض شخصيته مقارنة مع بعض أعماله الروائية أو سيرة ذاتية عادية”(4).

هكذا، صادفنا بوفوار ثانية، مختلفة تماما، عن أيقونة النزوع الفلسفي الوجودي المتحرر، والشخصية المتوقدة ذهنيا، لكنها باردة العواطف على المستوى الشخصي.

عاشت علاقة غرامية في غاية الولع والشغف طيلة خمسة عشر سنة، صحبة الروائي الأمريكي، الذي قضى حياته منعزلا داخل شيكاغو، كما مات وحيدا في إطار لامبالاة مطلقة، إلى درجة عدم التماس أيّ شخص لجثته. اهتمامه بالجانب القاتم داخل المجتمع الأمريكي، أرغمت البوليس الفدرالي(إف. بِ. أي)، كي يوثق عن مساره، ملفا قارب خمسمائة صفحة قصد ترصد ممكنات السمات المدمرة لكتابات مبدع شيكاغو.

رسائل انتقلت بنا إلى الجانب الحميم، في فكر وتطلعات وأحزان بوفوار، ثم أساسا هذا التمزق الوجداني بين وفائها المبدئي المطلق وتقديرها لسارتر، ثم غرامها بألغرين المتمتع ب”جسد ساخن ومريح”، وقد نعتته ب”تمساحي المحبوب”لكن أساسا”زوجي العزيز”، “حبيبي”، ”الشاب الأنيق”، ”الشاب الظريف والنيئ”، ”المرح”، ”البشوش والودود”…

بيد أنه، وللمفارقة !رغم عشقها لم تقبل قط التخلي عن سارتر، مؤكدة بأنه يحتاج إليها. هكذا كتبت سنة 1948 مايلي:” كما تعلمون، بوسعي من أجلكم التخلي عن الكثير أبعد من وجود شاب فاتن، بل التنازل عن أشياء عدة. في المقابل، لن أحافظ على سيمون التي تروق لكم، إن نزع تفكيري نحو الانفصال عن سارتر، حينها سأغدو مجرد امرأة حقيرة، خائنة، أنانية. يلزمكم إدراك هذه الحقيقة، كيفما جاءت طبيعة القرار الذي ستتخذونه مستقبلا :ليس انعدام الشعور بالحب من يفسح لي المجال كي أبتعد عنكم. بل أنا متأكدة، بأن وقْع انفصال من هذا القبيل إن حدث، سيكون أثره الشخصي علي أكثر قسوة من ارتداداته عليكم، لأني سأفتقدكم بكيفية مؤلمة قياسا لتأثير غيابي عنكم، فلا يمكنني سوى أن أعشقكم أكثر، والتشوق إليكم على نحو أكبر، بالتالي لايمكن لغيابكم غير اتصافه بوقع جلل. ربما تدركون ذلك. لكن، وجب التنصيص في ذات الوقت، على مسألة وإن أظهرتني متبجحة : إلى أي حد يظل سارتر محتاجا لحضوري بجانبه. يتميز سارتر بعزلته الشديدة، فيما يتعلق بحياته الخارجية، ثم ممزقا جدا ذاتيا وفي غاية الاضطراب، وأنا بمثابة صديقته الحقيقية، رفيقته الوحيدة التي تستوعبه حقا، أساعده فعلا، أعمل معه، وأمنحه السكينة والتوازن.

منذ عشرين سنة، فَعَل كل شيء بالنسبة إلي، ساعدني كي أحيا وأعثر على ذاتي، وضحى من أجلي بعدة أمور. حاليا، ومنذ أربع أو خمس سنوات، حان موعد ردِّ الجميل نظير مواقفه معي، فمن واجبي أن أساعده، وقد مد لي يد العون باستمرار، لذلك لايمكنني قط التخلي عنه. ربما أبتعد عنه لفترات طويلة تقريبا، لكن يستحيل ربط حياتي بأكملها مع شخص آخر غيره”. (5)

عاش سارتر وسيمون دو بوفوار، في إطار علاقة أشبه ماتكون بالزواج، غير أنه لم يتوج أبدا بعقد قانوني، بحيث اتسمت علاقتهما بكونها حرة ومفتوحة بين الطرفين، يحق لأي طرف منهما معاشرة شركاء آخرين دون تذمر واستياء، يلزم فقط الالتزام بالشفافية. ثم حينما ماتت بوفوار سنة 1986، دفنت بجوار سارتر الذي اعتبرته دائما عائلتها الوحيدة، في مقبرة مونبارناس.

 تمثل في هذا الصدد :”رسائل إلى سارتر”(1990)، وثيقة مهمة للغاية تروي طويلا حيثيات خصوصية مغامرات هذا الثنائي المذهل تبعا لجميع المقاييس.

……………

*هوامش :

(1) Vanity Fair France ;numéro57. Mai 2018.  

(2)ibid.                                

(3)ibid.                                 

(4) Lettres a Nelson Algren:un amour transatlantique(1947- 1964) ;Gallimard ;page 9.

(5)ibid ; page 316.        

مقالات من نفس القسم