د. رضا عطية
ربما لم ترتبط مجلة ثقافية أو أدبية عربية باسم مثقف في العقود الثلاثة الأخيرة مثلما ارتبطت مجلة “نزوى” التي صدر العدد الأول منها في خريف العام 1994، بالشاعر العماني سيف الرحبي، المثقف صاحب الوعي الطليعي والشاعر صاحب الاسم المميز بين شعراء قصيدة النثر العربية. يعتبر سيف الرحبي هو مؤسس كيان مجلة “نزوى” التي تكاد تكون المجلة العربية الوحيدة، أو على الأقل، الأكثر محافظة على مستواها ثابتًا، دونما اهتزاز أو تراجع، مع تنامي في أرصدة القيمة، طوال ستة وعشرين عامًا، منذ تأسيسها، حتى الآن، بفضل القيادة الواعية والرؤية الناضجة والأفق الثقافي المنفتح لسيف الرحبي.
استطاع سيف الرحبي أن يشكِّل شخصية خاصة ويصنع هوية مائزة لمجلة “نزوى” الفصلية، صاحبة الغلاف الأميز بين أغلفة المجلات الثقافية العربية، بلا عناوين مختارة من موضوعات العدد، فيكفي الاسم، “نزوى” ورقم العدد، ليكون علامة لاستحقاق الثقة، لكي ينتظرها قراؤها بمحبة واشتياق كل ثلاثة أشهر كزهرة تتفتح وتجدد الفصول الثقافية، لتجمع “نزوى” بفضل قيادة سيف الرحبي بين الأصالة والرصانة من ناحية والطليعية والمجاوزة من ناحية أخرى.
امتازت مجلة “نزوى” بكمياء خاصة تميزها، جامعة في موادها بين المؤلَّف بالعربية والمترجَّم عن لغات أخرى أجنبية، وبين نشر نصوص إبداعية كالشعر والقصة والمواد المقالية كالدراسات الرصينة والمقالات السهلة والقيمة في آن، كذلك تعددت في تناولها للتجارب الإبداعية بين تناول المشاريع الرصينة المكرَّسة والتجارب الطليعية والأصوات الجديدة التي كان لها النصيب الأكبر من مواد المجلة بفضل وعي سيف الرحبي الذي ينتمي لتيار الكتابة الجديدة في قصيدة النثر العربية، في الوقت الذي يحمل فيه احترامًا للتجارب الأخرى الكبيرة للمبدعين الكبار والمدارس الكلاسيكية أو التيارات السابقة، فهذا التنوع والتوازن وقى نزوى خطر النمطية والجمود، كما أتاح انحيازها النسبي للإبداع الطليعي ملامح خاصة وتميزًا نوعيًّا للمجلة التي اكتسبت سمت العراقة وصك التقدير واستحوزت على الاعتراف بالقيمة من أوساط المثقفين العرب، لا سيما النخبة.
انفتحت “نزوى” إلى جانب الخط الرئيسي لاهتماماتها بالأدب، على الأنواع الفنية الأخرى، كالسينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من الفنون في وعي بتلاقي الفنون وتلاقحها الجمالي وتفاعلها الخلاق وتجاورها المثري للوجدان الجمالي، كذلك لم تترك المجلة الرصينة الفكر فكانت عنايتها الملحوظة بنشر دراسات مهمة في حقول الفلسفة، في بناء تكاملي شامل للمعارف الثقافية والأنواع الأدبية والأجناس الفنية، بامتلاك وعي حداثي مستنير وانفتاح معتدل على آفاق ما بعد الحداثة الجمالية والفكرية، ما كفل لها سمة التعددية الرؤيوية في الطرح والانضباط المساري في الحركة.
وإذا كنا قد شهدنا في العقود الثلاثة الأخيرة صعود بعد المجلات الثقافية العربية وغياب مجلات أخرى عن الساحة كالمجلات العراقية بأثر حرب الخليج الثانية وكذلك أفول مجلة لبنانية عريقية كالآداب البيروتية، فإنَّنا نكاد لا نجد مجلة ثقافية عربية واحدة احتفظت بتوهجها ونجت من التذبذبات في مستواها، في الوقت الذي صمدت فيها “نزوى” لأكثر من ربع قرن أمام احتمالات الاهتزاز في المستوى، بل ازدادت ترسخًا في أرض الواقع الثقافي العربي وتنامت علوًا في سماء الصحافة العربية والثقافية بخاصة، ما يشير بوضوح لا تخطئه عين ناقد أو قارئ للمشهد الثقافي العربي إلى الدور بالغ الأهمية لسيف الرحبي في قيادة سفينة “نزوى” كربان ماهر وفي بناء فنار المعرفة الثقافية وحراسته بأمانة واقتدار هيأه له شخصية سيف الرحبي كمبدع له تجربته الخاص والمختلفة حيث العيش في القاهرة، عاصمة الثقافة العربية، في طفولته وصباه، وكذلك الانتقال إلى بيروت، مركز الإبداع الطليعي والتجارب المتمردة، فضلاً عن شخصية سيف كمثقف له خياراته وانحيازاته واتزانه الموقفي بما يضبط في يده موازين الأمور ويتيح له أداءً رشيدًا يجدد دماء المجلة الأنيقة شكلاً وموضوعًا ويحافظ على تقدمها الواضح في صف الصحافة الثقافية العربية.