حسنًا، دعني أسلي خاطرك بواحدة، – شريطة ألَّا تسخر –
كثيرًا ما يراودني حلم ضبابي تُحرق فيه جثتي بلا طقوس ويذر رمادها فوق مصنع للنسيج على أطراف قرية نائية، هناك، تحديدًا حيث أتيت من رحم نول يبلغ عرضه ثمانين سنتيمترًا تغزل عليه سيدة خمسينية تنصهر حزنًا على ابنها الشهيد في الحرب، “ربما يفسر ذلك بعض نوبات الكآبة والشجن التي تجتاحني بلا سبب”.
بالمناسبة، محسوبك أمضى شطرًا من حياته خاضعًا لوهم أن أصوله تعود إلى رالف لورين، “عائلة أرستقراطية مؤكد قد سمعت بها من قبل.”
للأمانة لم يكن هناك ما يدحض أوهامي إبتداءً من التيكت المثبت بإتقان على الياقة وإنتهاءً بشعور التفرد الذي يحل بي وسط أقراني في تباهٍ، كنت متأهبًا تمامًا للحصول على كافة امتيازات ذلك النسب، حتى باغتني أحدهم ذات ثرثرة بأننا محض صناعة محلية وأن الأمر لا يعدو عن كونه مسألة احتيال تجاري معتاد، لا أخفيك بأن المفاجأة قصفت مخزوني من الزهو والطموح إلى النصف.
كل ما كان يتعلق بفكرة فردوس أرضي في أحلامي: “خزانة مشرقة بإضاءة داخلية / تجفيف بالبخار / علّاقات قطن ” ذهب حينها أدراج الرياح.
وبحسبة بسيطة يتضح أنه لم يتبق لي سوى القليل جدًا من شؤون الرفاهية كـ “كمفورت” و”مرييتو” وخلافه.
في فترات لاحقة، وتحت الضغط النفسي المكثف جَرَّاء الصدمة، أقدمت على محاولات انتحارية عديدة باءت كلها بالفشل، كون الجانب التكتيكي فيها ضعيف جدًا ويتكىء على خيال ضحل بهذا الخصوص.
على سبيل المثال تعمدت في إحدى المرات إسقاط الزر الخامس المقابل لمنطقة السرة تمامًا، بإعتمادي أن من يرتديني له كرش بارزة ولا يمكنه تلافي عيب شاخص هكذا، دون أن أضع في حسابي الزر الإحتياطي الموجود على التيكت الداخلي.
أعي الآن أنها لا تعدو محاولة رديئة للتعبير عن غريزة حب الذات، إضافة لكونها المحاولة الأكثر غباءً على الإطلاق في إطار لفت الانتباه.
بانقضاء هذه المرحلة كنت قد تجاوزت تلك النقطة الحرجة في منحنى حياتي، هذا إذا استثنينا بالطبع حادثة الأربعاء الأسود، والذي أوشكت فيه أن أحال للتقاعد في سن أبكر بكثير من المتوقع، ونجوت بأعجوبة من أحقاد مكواة عجوز خرفة، وخرجت بوحمة لا تكاد تذكر.
لست بصدد إخبارك أنني من يومها بدأت أمارس عملي خلال دوام مسائي، وتم نقلي نهائيًا من قسم العلّاقات إلى قسم الطي. ما يعادل الإحالة إلى الأرشيف بلغة مكتبية.
لا شك في أنني بدأت أثير حنقك.
يفترض بي أن أكون أكثر لباقة وحرصًا كونك في مقتبل حياتك المهنية، هيا سأشرع في استحضار تفاصيل مبهجة كي أخفف حدة غضبك من سلوكي.
اللحظات الأكثر حميمية لي كقميص كانت تأتي عبر سلة الغسيل، نعم هو ما قرأته بالحرف، قد تخالفني الرأي وتعتبر حبل الغسيل الأفضل والأكثر حرية، كما هو مشاع، بالمناسبة أتمنى أن تقضي حياتك بعيدًا عن التورط مع منشر غسيل داخلي كل ما يجلبه صداع مزمن، ورفقة مزعجة لأجهزة تعمل بصخب.
لن نختلف، لكن لدي أسبابي الوجيهة، كما أعتقد، خذ مثلًا، سلة الغسيل هي المكان الوحيد الذي يمكنك أن تجتمع فيه مع شتى الطبقات والأعراق دون أي تفريق عنصري، أعرف هذا كوني أبيض وأتعرض في كل عملية غسيل إلى عملية فصل حازمة لا يقبل فيها لأي ملوّن الدخول إلى معسكرنا. هذا الإجراء متبع في مرحلة النشر كذلك.
أيضًا في سلة الغسيل أنت على موعد مع احتفال صاخب بعد أن تكون قد قضيت وقتًا رتيبًا طوال اليوم.
ربما تكون قذرًا بشكل مزرٍ لكن لا يهم طالما أن الجميع كذلك، ثم إنك تكون حقيقيًا جدًا في تلك اللحظة.
في سلة الغسيل تعرفت إلى أكثر أصدقائي وفاءً، بنطال كحلي مقلم كان يعاني عقدة نقص كونه طراز منقرض يصارع كي يظل على رأس العمل، لكنه كان يملك أنصع قلب على الإطلاق.
قميص كاروهات يتمتع بحكمة هائلة ويبدو بمثابة الأب الروحي للجميع، جاكيت جينز يحظى بشعبية هائلة كونه قادرًا على أن يجعلنا نكركر في أشد أوقاتنا حلكة.
وبالطبع لا أنسى سيدة الحضور الأنثوي، البلوزة الوردية التي كانت تأتي دائمًا مجللة بعطر باذخ كافٍ لأن يثير مخيلة أكثرنا بلادة.
بالرغم من ذلك كان طابع البراءة يطغى على محافلنا بتأثير من ملائكية بيجامات لطفل رضيع، ربما هو الآن في طور الدخول للمدرسة.
أجزم أنك الآن بصدد تغيير رأيك، بعد أن أثرت حفيظتك.
ولكن، بقي أن أخبرك شيئًا.
أنا الآن مجرد خرقة ممزقة تقطن الدرج الأخير من مطبخ، برفقة قطع أخرى جار عليها الزمن.
فانيلة علّاقي، قطعة من شرشف، منشفة قديمة، نزاول مهن محرجة، قد لا تخطر لك على بال.
ومع ذلك أنا مستعد تمامًا لأن أبصم لك كل صباح بأن الحياة حلوة.
وجديرة بأن تُعاش .
“استقرت الرسالة في جيب قميص أبيض وجديد”.
……………
*إحدى قصص المجموعة القصصية “فسحة بويكا” الصادرة عن دار “فصلة” بالقاهرة