سيدي برغوط أو بركة “الأخ الأكبر”.. قراءة في رواية “تل الخزامى” لعبد الوهاب الرامي – المغرب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. الطيب بياض*

حين يداعب نسيم الإبداع الأدبي عالم الخوارق والكرامات، وتتحلل المنحنيات الإثنوغرافية بين ثنايا لوحة المتخيل مُشكلة نصا روائيا بديعا، فمعنى ذلك تعالق الشكل والمضمون، لإنتاج نص سردي يغري بالقراءة، ويلقي إضاءة متبصّرة على عوالم من الأقنعة الزائفة. ذاك هو شأن المنجز الأدبي الأخير للكاتب عبد الوهاب الرامي الموسوم بـ" تل الخزامى"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017.

هالة  “الأخ الأكبر واهب الكرامات”.

داخل فضاء حاضن لتجمع بشري تجري فيه إعادة  السيطرة باسم المصلحة العامة، وتسلل المنفعة الخاصة والنزوعات البرغماتية بين المسام الدقيقة واللامرئية لواجهة براقة اسمها الصالح العام، تدور أحداث ” تل الخزامى”. ثم ما تلبث الروابط القائمة على أساطير مؤسسة، مشرعنة لتحقيق المآرب والانتفاع الفردي والجماعي أن تتفتت، وتتفسخ معها النظم والهيئات التي تمارس عبرها السلط بمسميات منتقاة بعناية، من قبيل البركة، ووحدة الكلمة، ودرء الفتنة، وغضب “واهب الكرامات”، فتتساقط الأقنعة سريعا، ويموج “العقلاء الأتقياء والحكماء” بعضهم  في بعض، بعد انقلاب السحر على الساحر، وانفراط عقيق سبحة “جماعة الخير والوصاية”.

هي رواية الأسماء الغريبة، غرابة سريرة الإنسان وإبهام طوية بني البشر في تقمص الأدوار، وصنع الحقائق على المقاس، وتغيير الأقنعة كما تغير الحيات جلدها. فـها هي أيقونة  القبيلة ، الـ “حنيشة” الاسم والمسمى، القادمة إلى الوجود بشعر أخضر زائف، مصطنع ومصمم بعناية للإبهار والإعجاز، وإضفاء الكرامات وإسباغ الخوارق، ونسج الأساطير لتعمية البصائر،  قد لاحت مع نهاية المشوار في طيف حية صغيرة حنشت المنتفعين باسمها، بعد أن نفثت سمها الزعاف في ثنايا بنية قائمة على الزيف وصناعة الوهم  لتأبيد السيطرة، وإعادة انتاج آليات الإخضاع في لعبة تقاسم المهام والوظائف، وإجلال المواقع والمراتب. فبين مرتبة “الشيخ الأكبر”، أكان اسمه سنّوم أو فوالة، ومرتبة “العارف الأكبر” صاحب المقام الأعلى مولاي هلام، تحضر مرتبة “واهب الكرامات” سيدي برغوط، الذي يتقاطع مع “الأخ الأكبر” عند جورج أورويل في تحفته الأدبية الموسومة بـ 1984، على مستوى أبعاد ودلالات العين الساهرة بأساليب ماكرة وقوة قاهرة، ضمانا لإبقاء الوضع على ما هو عليه،  وتكريس الأمر الواقع، وقطع دابر الانفلات، بل ووأد مجرد التفكير فيه.

ارتهن أعضاء القبيلة، انسجاما والخطاطة الناظمة لحياتهم، إلى حياة جد منمّطة، فتسمرت الأعناق مشرئبة لنيل رضا “واهب الكرامات”، ضمن نسق اجتماعي كفل لجزء فقط من الرجال حق الزواج، وأخرس الألسنة عن البوح العاطفي قبل انصرام ربع قرن من المعاشرة الزوجية. فيما قضى نفس الناموس بتأجيل بوح النساء إلى لحظات احتضارهن، مما يخلق تماهيا بين سكرات الحب وسكرات الموت. ضمن وعاء ذهني مشحون وموجّه، كانت فيه عين “الأخ الأكبر”، مثبتة في اللاوعي الجماعي، المستبطن لهاجس الخوف من لعنة “واهب الكرامات”، المتسلل بعين الرقيب إلى خصوصيات الأفراد وحميمياتهم، المنتقم من كل نشاز وخرق للقواعد، رغم أنخاب “ليالي التحصّن”، والتحطيم الجماعي لكؤوس الصلصال.

تفتقت عبقرية المختبئين خلف “واهب الكرامات” على خيار نهج توليتاري يقنن النسل، ويتحكم في التوازن الديمغرافي، ويصادر الفرد في أبسط حقوقه، ليس أقلها اختيار أسماء البنين. ضمن نسق تصمم فيه الأحلام على المقاس، بل ربما جرى استحضارها تحت الطلب، لتؤول إشاراتها وعباراتها، على إيقاع مضبوط، يتماهى وأهواء ” أوليغارشية” مجلس الشيوخ، من موقع الزعم أن تفكيك الرموز وتفسير الأحلام وقراءة الإشارات التي يبعثها الرمز الجامع أو الأسطورة المؤسسة، تتم على قاعدة التقاط الإشارة وتدبير الإمارة. خاصة أن سيدي برغوط يحضر في الحلم وفق طقوس خاصة، معتليا صهوة حصان أبيض، يتعاقب صندر وفوالة على بسط سرج أحلامه بين جماعة أهل الحل والعقد داخل القبيلة. إذ يحرص سدنة المجلس على خلخلة اليقينيات، وتحويلها إلى مجرد استيهامات، وغسل الأدمغة باسم “واهب الكرامات”، قبل حشوها بحقائق مفكر فيها بشكل جيد، تشرعن ممارسات وقرارات مرتبة وفق مصالح خاصة. ألم يقل مرقوب، في لحظة بوح، بعد فك عقدة من لسانه: “إن كل الذين يتحدثون باسم سيدي برغوط يسيئون إليه، ويسيئون إليه أكثر حين يحاولون تجريم ما يحلو لهم تجريمه باسمه”. تلك قراءة من اكتوى بنار آليات التصفية والإقصاء، من تحايل وإيحاء ومحو للذاكرة، أو على الأقل تحريفها وشحنها بمزاعم جديدة عبارة عن تمثلات لأبوة مصطنعة، جرى استنباتها بهتانا مع شعر أخضر زائف، بعد سحق الأبوة الحقيقية طردا وإخراسا للسان، فيما يشبه الاغتيال المزدوج الرمزي والمادي.

شهلب ” المثقف العضوي”.

بيد أن المرء ربما احتاج إلى إدغار موران لفك كومة تعقيد طلاسم الإيحاءات والتمثلات الثاوية في كهنوت سعالة، حين تتقمص شخصية “واهب الكرامات”، فتُغمي وتُدمي حين ترمي بحبالها، متصيدة في شباكها كل من انطلت عليه حيلها، مادام وعاء الاستقبال أعزل من سلاح النقد، مفتقرا لغربال التمييز وفرز الصالح من الطالح. فيما يحضر شلهب مغردا خارج السرب، فتى وسيما مشاكسا، رافضا للمسلمات مزحزحا لليقينيات، متصديا للبلاهات والتفاهات، متمردا على النمطي والجاهز، مما أهله، “بحسه النقدي”، لكسر التوازنات وإحداث التصدعات. أليس هو القائل مخاطبا سعالة: ” فأنا أعرف ما تقصدين بالضبط من كلامك، وأختزله في أنه على المرء ألا يخضع للقهر، ولو استدعى منه الأمر أن يقهر هو غيره، خاصة إذا كانت الوسيلة التي يمارس بها غيره القهر هي الغباء الجماعي”. إذ كان الوحيد الذي قادته فراسته إلى التساؤل  عن ” كل الأحلام التي كانت تستعمل للحسم في قناعات مسبقة، والتي كان المجلس يعتمدها من أجل إقرار فتاواه، ألم تكن فقط من صنع خيال بعضهم من أجل مآرب معينة؟”. لقد جسد شهلب دورا شبيها بدور “المثقف العضوي”، أو على الأقل نابغة القبيلة، الذي لا يستسلم بسهولة للجاهز، صاحب إعمال العقل قبل النقل، العاشق للسؤال، المسكون بهاجس التمحيص دفعا للتدليس، الجاثم على الرقاب، الرافض لثقافة القطيع، التي أحالته إلى متهم بالعته والسفه والخبل المبرر لتكميم فمه ومصادرة رأيه. بيد أن السحر انقلب على الساحر؛ إذ أسهم في إنضاج شروط تشظي المكونات المصونة بكرامات الرمز الجامع، فانفلتت المطايا من عقالها نذيرا للنفير، وتدحرجت كرة الثلج مكتسحة في طريقها مقومات التوازن، حين كشف تضارب المصالح، عن هشاشة التحالفات اللاحمة للبناء، فتهاوت الأسس وهُدت الدعامات في المركز، وانطلقت دينامية جديدة من الهامش فيما يشبه الدورة الخلدونية، بين تل الخزامى (البراغيط) وتل الزعتر (المراقيب). اذ احتكم الصراع على الحكم ولعبة السلطة، إلى منطق خلدوني شارح لتبادل الأدوار وعلائق القوة، بين هامش متأهب في مرحلة وثوب، ومركز متآكل منخور من الداخل في حالة اضمحلال. يشكل “العهد الأكبر” الممهور بالدم  في هذه المعادلة  أداة لاحمة جامعة في الشكل، ومنطلق المناورة والدسيسة ومبعث التفسخ وانفراط العقد، بعد افتضاح الألاعيب، وتساقط الأقنعة، وتهاوي الرموز في الجوهر والمضمون.

الحقيقة بصيغة الجمع.

تأتي الحقيقة في “تل الخزامى” حمّالة أوجه، ولكل حقيقته التي يراها من موقعه. وقد يجري التمهيد التدريجي لقلب الحقائق، ومصادرة الحقوق، ولو بشعارات موغلة في الدجل، تنتزع الولدان من الأحضان، ليصيروا مشاع قبيلة، أو بالأحرى جماعة متنفذة، نطاقة باسمها. تغتال الفرح الأبوي، وتصادر حق الأمومة قسرا، فبعد تحلل حبل التحايل، جرى المرور إلى العقاب، بعد طول مراقبة. فكانت “حنيشة” نعمة في طياتها نقمة للأبوين حالا، ولظلال “واهب الكرامات” في الأرض مآلا. غير أن الحقيقة التي تقفز ساطعة في أعين قراء متن الأسماء الغريبة، هي أن الرواية تأنقت وتزينت وتدثرت بكل ما هو زاه وبهيج إكراما لهؤلاء القراء. إذ جرى تطريز جملها وتدبيج تعابيرها وترصيع صياغاتها وتوشية مفاصلها بالمحسنات البديعية والصور البلاغية. فحضر الجناس والطباق والمقابلة والتورية والكلام المسجوع، الذي حول العمل إلى عصير أدبي شهي، يعب القارئ أنخابه دفعة واحدة.  فنقاء اللغة وصفاء الأسلوب وبهاء الحكي واتساع وعاء المتخيل، تتكامل في ما يشبه التوابل الضامنة للذة طبق روائي منسّم بطعم الخزامى. رغم كثافة الألغاز والمعاني المشفرة في النص، التي تحيل على قالب روائي خاص تتماوج فيه  المعاني والأبعاد الدلالية للنص السردي. إذ حين  تصير المطايا مثلا رمزا لوضع اعتباري، أو مؤشرا لتموقع داخل النظيمة أو خارجها، يكون لاستبدال سعالة لحمارها ببغل ضخم دلالة، ولاستمرار شهلب وحماره معا في المشاكسة معنى، في رواية يموت أبطالها أو بالأحرى يتجمدون في لحظات الاشتعال، كما حصل مع سنّوم وشوّال وفوالة، وفي كل الأحوال فما الموت فيها إلا انتقال “للفضاء الأكبر”.

بين أبطال “تل الخزامى” تمرين التصفيات تحت مختلف المسميات متداول ومألوف، إذ يتم التحايل بشتى السبل لإزاحة الخصوم، والتنكيل بالواقفين في وجه المصالح، لينبلج صبح النزوات، ويكون الليل ملاذ الملتحفين بالمقدس، المتحصنين بأقنعته، المطلقين العنان آناءه للبوح والحميميات خلسة، ضمن لعبة البحث عن الإشباع والمؤانسة والإمتاع، يتحول معها “واهب الكرامات” إلى مجرد قناع. كما لو أننا نستعير عنوانا من لوسيان فيبر، وهو يلج عالم الأدب، لفك طلاسم القرن السادس عشر، بين حب مقدس وحب دنيوي. كذلك الذي نزل من علياء برغوط إلى حضن سعالة ، ليفتح باب الغواية والمكر والغيرة والدسيسة، فتتداعى ركائز البناء متهاوية، قبل هدّ المعبد على رؤوس الجميع.

ألفي رواية تل الخزامى عملا إبداعيا محكم البناء، مفعما بالتخيل والمشاهد المتعاقبة بسلاسة حسن التخلّص، والسفر بالقارئ في عالم يشد تلابيبه إلى حكي موزون وسرد يترجم أفعال وسلوكات بني البشر. مما يوفر نصا قويا ومفتوحا للاستثمار أكثر، ينتظر تفاعلا منتجا من طرف مخرج مبدع يحوّله إلى عمل تلفزيوني، يمر عبر سيناريو يضع هيكله الثابت في إطار عمل فني، يرتقي بشخوصه وأبطاله من مجرد كائنات مدادية على أوراق بيضاء إلى صور وأصوات تضج  حرارة وحيوية.

……………………..

* كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق الدار البيضاء

 

   

مقالات من نفس القسم