فاضل البياتي
هكذا قررتُ إذن…
سأمضي في رحلةٍ ليس بوسعي أن أُحددَ مسافاتها ألآن، ولا أدري ماهي المناطق والمحطات التي سأختارُ التوقف عندها مع جيل السبعينيات ومع حياة الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، أو ملامح من حياة هذا الشاعر الذي عرفتهُ عن قرب لحينٍ من الزمن، والذي تَمرُ في الثالث من شهر أيلول/أغسطس ذكرى رحيله، وليس هنالك مايسعفني في زوادةِ رحلتي هذه سوى ذاكرتي الوَهّاجة وبعضِ لقاءات وصور تنشر لأولِ مرة مع الشاعر المرحوم البياتي، عاشق العراق وعاشق عائشة والفقراء.
ذاكرتي هذهِ التي أجدها دائماً بعيدة عن هموم حياة الإغتراب اليومية، هذه الهموم المتوثبة التي تحاول أن تستهلكني، خاصةً عندما تتوقد وتشتعل وبشدة ذاكرتي الجميلة الرائعة، لتضيف بحلاوتها شعوراً أكثر قسوة لسنين مرارة الغربة، فكأن ذاكرتي الحنينة الطيبة الحلوة للزمن العراقي الجميل، تستيقظ بأقوى نشاط لتنوي تعذيبي.
صافيةٌ وبهيةٌ هذهِ الأيامُ ذاكرتي كصفاءٍ عين الديك، كما يقال.. ومن عين الديك الذاكرة، ومن حوارت وصور، يستمدُ هذا ألإسترجاع تَشييد نفسه، ليُحي من جديد مواقفاً إنسانية وفكرية وأبداعية، محاولاً من جهتي ومن عيني، عين الديك أن لا أقمعُ هذا ألإسترجاع في خرائط كي يتحرك وفقها، حتى لا أقمع بالتالي حرية الإفضاء التلقائي.
كانت سنواتٌ ليست ككلِ السنوات..
وأيام ليست ككلِ الأيام..
تلكَ السنوات التي أعنيها هي المحصورة مابين 1970-1975. ست سنوات، حقبة تاريخية لازال الكثير من شموعها المطفأة تنتظر من يوقدها، حتى يمكن رؤية وتلمس بعض زوايا معتمة تحت فيض نورها. تِلْكَ الأعوام أعتبرها مَثَّلَت حلقة تاريخية إنتقالية مهمة في المناخ الثقاقي العراقي، وكانت من أخصب مراحل الإستقرار الثقافي بعدما تبلورت بعض الإشراقات في إنتظار مستقبل أجمل بعد مرارات الإقتتال والصراع بأشكاله العديدة. ست سنوات تنفست فيها رئة العراق الثقافية حرية نسبية ـ ليبرالية ـ وقد كان هذا طموحاً ليس سهلاً للمبدع والمثقف العراقي. خلال تلك السنوات عاد للعراق أغلب المهاجرين من المبدعين خاصة من كانوا بحوزتهم شهادات وكفاءات علمية، حتى سُنَّ قانوناً خاصاً لهم، قانون عودة الكفاءات. وهدأت حينها كل الفعاليات الحربية في شمال العراق.. ومارست الصحافة شيئاً من حريتها وكل جهة تعبر عن نفسها بطريقة شبه مستقلة، وصار الهاجس الذي يجمع الجميع هو الوطن. خلال تلك الأعوام وصل سعر الدينار العراقي إلى أعلى معدلات إنتعاشه، حتى صار الدينار الواحد يساوي ثلاثة دولارات و125 سنتاً، ومايعادل أكثر من 16 فرنكاً فرنسياً. ولعمري أن ذلك ألإنتعاش الإقتصادي لم يكن إلا دليلاً أكيداً لإنتعاش مفاصل وجوانب أخرى في الحياة في العراق حينذاك.
في السبعينات الجواهري وعبد الوهاب البياتي يعودان للعراق
في تلكم السنوات عاد للعراق من الهجرة شعراء ومبدعون.. كان الشاعران محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي هما من أوائل وأشهر المبدعين والسياسين الذين رجعوا للوطن بعد أن أعيدت لهما جنسيتهما العراقية، وقد كتب الشاعران قصائدا صورا فيها ملامح لعودة الأمل للحياة في العراق، واحدةٌ من تلك القصائد وهي للجواهري صارت إنشودة معروفة كانت تبث بين وقتٍ وأخر من إذاعة بغداد.
في تلكَ الأعوام بات بألإمكان أن تجدَ مبدعين ومثقفين كانوا بالأمسِ أنداداً يلتقون من جديد بترحابٍ في جلساتٍ إجتماعية وتجمعاتٍ أدبية وفكرية حتى تنتج إنجازات ثقافية مشتركة.. فهذا هو الشاعر المرحوم شفيق الكمالي ـ كان وزيراً للثقافة ـ تجمعهُ لقاءات مع الشاعر الكبيرأبو فرات، محمد مهدي الجواهري، أو مع الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، أو سعدي يوسف .. وغيرهم، لقاءات وتجمعات لشعراء ومبدعين من أجيال مختلفة يقترب أو لايقترب الواحد عن الآخر بالسن والتجربة الشعرية والإتجاه الفكري والدرجة والموقع الوظيفي، بيد إنهم فتحوا صفحةً للحوار.
نحن جيل المبدعين السبعيني يكاد يعرف بعضه ألآخر بكلِ دقةٍ ووضوح رُؤية، وذلكَ ناجمٌ لتنفس جيلنا لبعضٍ من الهواء الطلق والحر لينابيع ثقافته قد يحسدنا عليها شباب من أجيال جاءت من بعدنا لم تكسب إلا المزيد من الحروب والمحن.. لذلك فجيل السبعينيات كان يَرنُو للأجيالِ التي سبقته بكل إحترام وقدسية، وبتَقْديرٍ لتجاربهم الإبداعية والحياتية، ويندر أن قام أحدٌ ممن هم من الجيل السبعيني بتصرف ثقافي “مراهق أو طائش” ليحاول أن يقلل من قيمة الثمار والمحصلات الإبداعية التي حققتها الأجيال السابقة. وأظن أن ذلك هو الذي عزز لعلائق وشيجة وطيبة بين السبعينين والرواد أنذاك، وإذا كان ثمة تنافس أو موقف رصين وجاد، فهو يعبر عن نفسه على صفحات بيضاء مشرعة لكل العقول والأفكار والإضاءات، فكانت أوراق الإبداع من أي جيل تأتي، تتلقاها وتتأملها كل الأجيال بنقاء سريرة وإعتزاز بالتجربة.
وما إزدهار حديقة الإبداع والثقافة في تلك السنين إلا دليلاً واضحاً وأكيداً لذلك. فكانت المهرجانات والنشاطات الثقافية المحلية والعربية والعالمية تزهو ببغداد والبصرة والموصل، فعند عام 1971 بدأ مهرجان المربد الشعري في البصرة وبالعام نفسه كان مهرجان أبي تمام في الموصل، حيث كان الشاعر عبد الوهاب البياتي حاضراً فيه عام 1971 بعد عودته للعراق. وكان هناك مبدعون عرب وعالميون كرروا زيارتهم لبغداد وصاروا يطلقون حمائم أعمالهم الإبداعية والفكرية من العراق..
سنواتُ السبعينات الحلوة المُرة
خلال تلكم السنين إلتقيت ولأول مرة وعن طريق الصدفة بالبياتي وفي قاعة اتحاد الأدباء، كنت وقتذاك معجباً بقصيدته التي بعنوان “أولد وأحترق” أخبرته بذلك وشكرني بتواضع. في تلك القصيدة وجدتُ المعاناة التي فيها مع إمرأةٍ تدعى “لارا” هي ذات المعاناة التي كنت أكابدها في تلك الفترة مع عشقي القوي والعميق لإمراءة رائعة، حتى أنني يوماً دخلت استوديو قسم التمثيليات ومعي نص القصيدة وسجلتها بصوتي بإسلوب تمثيلي درامي، ثم قمت بعمل مونتاج لها وإضافة مؤثرات صوتية طبيعية وفواصل موسيقية وكورولات سيمفونية، حتى غَدت القصيدة بصوتي لوحة سمعيّة فنية شعرية أعجبت كل من سمعها وقد بثت مرات في بعض البرامج الإذاعية، وهذا مقطع البداية من هذه القصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي
“تستيقظ (لارا) في ذاكرتي
قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم”
في السبعينات وخلال تلك السنين الست وعند فاصلةٍ، فرصةٍ، صدفةٍ تاريخيةٍ من الزمن لن تنسى، أحتضن العراق ولأول مرةٍ كل وأروع شعرائه في العصر الحديث، حيث تواجدوا جميعاً في العراق في تلك الأعوام قبل أن تشردهم بعد ذلك ومن جديد موجات الغربة والهجرة، إذ لم تتواصل سنين أخرى من الإِطْمِئْنانِ والإسْتِقْرَار للأسف..
وهذه باقةٌ وأمثلةٌ لأسماءِ شعراءٍ عراقيين عايشوا التجربة وجمعت بينهم الأُلفةِ والمودةِ وكانوا معاً تحت سماءٍ عراقيةٍ واحدةٍ في زمنٍ واحدٍ رغم إختلاف الرؤى آنذاك.
وتسلسل الإسماء هنا جاء تلقائياً ودون قصد، ومعذرة إن فاتتني أسماء أخرى.
أعود للحديث عن جيلي، السبعينيات… إنه جيل ذاق حلاوة وفرات الإبداع وجمال الحياة بِضْعَ سِنين غير أنه مالبثَ أن هَضَمَ العلقم. إنه جيلٌ طموحٌ مسالمٌ وحالم، مثل أسماك جميلة ملونة كانت تعيش وتسبح في مياهٍ عذبة، سرعانما أفزعتها وعلى حين فجأة الصدمات من كل حدب صوب فأختلطت لديها الرؤيا… فسبح البعض بعيداً ومسرعاً ليرتطم بالجرف أوفي القاع، أو بقى يتخبط.. أو بعضه مات، أو من إستطاع أن يواصل. صورة مأساوية كان أصلها لوحة جميلة لجيل جديد شاب وواعد. لوحة من الأمل لإبداع وحياة أجمل للعراق وللعراقيين، يوم كنت ترى شباب هذا الجيل ذو العطاء الخصِب يتجمعون في كلِ مساءٍ صيفيٍ أوشتويٍ مع جنائن وضفاف دجلة، عشاقاً لكلمة الحق واللحن الأصيل واللون المُعبِّر بصدق. كنتَ تراهم منتشين بحبهم لإبداعهم ولحدِ البكاء. كانت لوحة سبعينية متفردة.. وكان يشارك في تلك اللقاءات مبدعون من أجيال سابقة، أمثال الشاعر العراقي الستيني فوزي كريم الذي كان قد عاد في ذلك الوقت الى بغداد وتحديداً عام 1972 عندما كان يعيش في بيروت.
في منتصف ذلك العام 1972 بدأت العمل كمساعد مخرج وممثل في إذاعة بغداد بقسم التمثيليات، حينها كان الفنان الكبير كريم عواد رئيساً للقسم والفنان الكبير الراحل حسن الجنابي معاوناً لرئاسة القسم، في مبنى إذاعة بغداد والمشترك مع إذاعة صوت الجماهير التي كان مديرها آنذاك عبد الغني عبد الغفور، كان حضور الشعراء والأدباء واضح جداُ في إذاعة بغداد. في عام 1973 وأثناء حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول نُقلت للعمل كمخرج ومُعد برامج في القسم السياسي في الإذاعة وكان يرأس القسم الشاعر الفلسطيني الكبير أديب ناصر، ومعاونه في إدارة القسم الإعلامي الناجح عبد الجبار يوسف “أبو يعرب”، وكان يعمل معي مخرجاً في القسم الفنان سمير القاضي، والمذيعة الرائدة السيدة أمل حسين، والسيد المذيع عامر رشيد، والسيدة المذيعة سهام حداد. والسيدة المذيعة سهام محمود..
بعد ذلك بدأت العمل لأشهر مخرجاً في القسم الثقافي في الإذاعة الذي كان يرأسه الزميل القاص والإعلامي القَدِير سعد البزاز، ثم تواصلتُ في عملي بقسم التمثيليات، وهناك كان الزميل الأديب الفلسطيني نصر محمد راغب، والأديب حسام الساموك، والقاص أحمد خلف، ومن الطريف أن الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر عمل لسنوات كثيرة كمصحح لغوي للنصوص في قسم التشكيل اللغوي وليس كثيراً في القسم الثقافي. في عام 1972 كان يومها الشاعر حسين مردان معاونا لمدير إذاعة بغداد، وفي شهر تشرين الثاني من ذالك العام توفي حسين مردان الذي كان لفوزي كريم صداقة قويةً معه، وتم تعيين المذيع والشاعر إبراهيم الزبيدي مديراً لإذاعةِ بغداد. وجاء من بعده الأديب عبد الجبار الشطب ثم الشاعر أرشد توفيق عام 1974 ومن ثم الأستاذ جواد العلي ومن بعد ذلك عاد الفنان مهند الأنصاري للعراق بعد أحداث الكويت ليصبح مديراً للإذاعة عام 1991.
حزنَ فوزي كريم حزناً شديداً لفقدانه حسين مردان، وقد كان قد كتب له قصيدة أسمعه أياها قبل أن يتوفي، هذا هو جزء من بداية القصيدة التي كان فوزي يرنمها ويغنيها لنا في لقاءات أماسي أتحاد الأدباء في ساحة الأندلس ببغداد.
“ياحسين مردان
كيف تركت الباب مفتوحا
والليل لم يهدأ، وكان السر مفضوحاً
وانت قد تجهل ان الخمر في الندمان
مازال يستحلف كل ظلمة
في ساحة الميدان
ان تستريح الان
وان يظل القلب مجروحاً.”
وينتقل ليشدو بلَوْعَةٍ من فمٍ وفكين تكسوهما لحية كثة، مقاطع غائية عراقية قديمة موجِعة للمطربة زكية جورج أو صديقه الملاية أو زهور حسين، وقد يترنم بأبياتٍ من قصائد لعبد الوهاب البياتي أو لسعدي يوسف أو لبلند الحيدري. يغني بكل شجو وبإحتراق ونشوة فنتفاعل جميعنا مع صدق الأحساس الذي كان يفيض بشجن مع صوت فوزي كريم، وذلك كان يحدث أحياناً بعد جلسة كانت حافلة بالنقاشات في قضايا أبداعية مهمة في الثقافة والفنون وكذلك في السياسة.
“من غير امل حبيت انا
وأصبح دليلي بكيف
ادري الوصل بعده هجر
وابقى بكدر ياحيف
حكم الغرام ما يظل دوام
بعد الصفا لابد جفا
وتكون أنواره ظلام”
ولم تكن تلك الجلسات تضم شباب السبعينيات وحدهم، وإنما يشاركهم أحياناً إياها شخصيات مهمة ورائدة في حركة الإبداع عموماً فمقر ومبنى إتحاد الأدباء كان حافلاً بإستمرار بالنشاطات الثقافية، وكان يتجمع ويلتقي فيه كل من يهتم ويعمل في مجالات الإبداع المعرفي والفني، لذلك فإن زيارة شاعر كبير ومهم للإتحاد إنما كان أمراً مألوفاً.
كانت تتجمع الأتعاب والهموم فيها كل أمسيةٍ لتَصبَّ أنينها.. وبوهيميتها.. وتمردها الواعي.. كانت تتشاحن الصراعات الثقافية والسياسية على ضفاف المحبة. بطريقةٍ شبيهةٍ بأساليبِ وأخلاقِ الفرسان المتهادنين من أجل غايةٍ أسمى مشتركة بينهم.. حُب الوطن، ورِفْعَة العراق وعِزّتِه.
ولعل تلك اللقاءات والحوارات والزيارات لهذا المبدع أوذاك من الرواد، إنما كانت تعبيراً عن مدى الشعور والحرص على التواصل بين الأجيال، رغم التباين في السن والتجربة وأحياناُ المواقف والرؤى الفكرية. والشاعر عبد الوهاب البياتي هو واحدٌ من الشعراء الكبار الذين كانوا يحرصون على إكثشاف نبض الحياة الثقافية بأنفسهم، لا أن تكون منقولة من أحد. وبما أن البياتي عاش بتواضعٍ رائع قَلَّ نظيره، وبصدرٍ رحبٍ لتلقي سهام من يكيدون له، وقدرةٍ لاتنازع بمواجهة أصعب المآزِق التي قد ينوي أحدهم إيقاعه بها، لذلك فهو لم يكن يتردد في الحوار مع أجيال الشباب أو الذين بدأوا آنذاك يخطون أولى الخطوات، وهذا لعمري أبلغ دليل لمكانته كإنسان وكشاعر لاينظم شعراً فحسب وإنما يحترم جميع من ينتمون إلى الشعر والعمل الإبداعي الفكري أينما كانوا،.لذلك فقد كان البياتي يحلُ ضيفاً ويستمع ويتناقش في تواضع مع إيٍ كان من جيل الشباب.
أجل كانت أياماً ليست ككلِ الأيام.. عاشت وتمتعت فيها حوارتنا الثقافية بروح مكابرة وألقٍ إنسانيٍ بهيج.. ولم تكن تخلو أحياناً من رفضٍ حبيس يطفو على سطح النقاشات. كان جيلنا في السبعينيات يختزن في آنٍ واحد قوة الرفض وقوة الموافقة، ولكن لم نكن أتباع أوبقايا وإنما كنا الكل، كنا فقراء ونحن في منتهى الغنى والثراء بإعتدادنا بأنفسنا وبأفكارنا وتطلعاتنا ومشاريعنا. شباب عراقي سبعيني مبدع يؤمن بالحياة، يوم لم تكن هنالك حروب أو حصار أو هجرات جماعية ولاإحتلالات ولا فايروس كورونا..
منذ عقد السبعينات، أنا الذي أردتُ وأخترتُ إن أكون مستقلاً، فكان لي ومازال علاقات طيبة مع أخوة وأصدقاء رائعون من كل الأحزاب، وكان ومازال مبدئي وإيماني هو أن كل العراقيين أهلي، وكان ومازال حبي لبلدي ولعملي الإبداعي هما إنتمائي.
الأب الروحي لجيل من المبدعين الشباب
قبل أن أقول إنه شاعر كبير، أقول عنهُ وأوصفهُ بألأخ الكبير أو ألأب الروحي لجيل من المبدعين الشباب. كان متواضعاً مع الأجيال المبدعة الجديدة ومسانداً لها، حتى أنه يوما أصدر وعلى نفقته أحد دواوين الشعراء الشباب، بَيدَ أنه كان حاداً مع أغلب شعراء جيله.
شاعرٌ مثل عبد الوهاب البياتي لن يكون أبداً في تصالحٍ مع الوظيفة، فالسأم هو الرابط الدائم بينهما، لذلك فلم تستقر نفسه معها لهذا السبب أو ذاك، فكان آخر مطاف يجمعه مع الوظيفة حينما شغل في سنة 1982 منصب مدير المركز الثقافي العراقي في مدريد، لكنه في عام1991 ترك هذه الوظيفة وأستقال منها وأختار أن ينتقل ويقيم في العاصمة الأردنية عمان، ليرحل مع ماتبقى له من العمر برفقة مشاريعه الشعرية كشاعر وإنسان، مثل نهر دائم الجريان يمتدُ مع الزمن ولايلتفت إلى الوراء، وهو القائل في إحدى قصائده:
“ألنهرُ للمنبعِ لايعود
ألنهرُ في غربتهِ
يكتسحُ السُدود”
ومن مثل الوظيفة الروتينية التقليدية تمسك بتلابيب المبدع! كي لايمضي قُدماً إلى أقصى مايتمنى من إنجازات إبداعية في رحيلٍ دون سدود أو حدود…من؟
لذلك فالبياتي وغيره من الشعراء العراقيين الكبار في تلك المرحلة، عاشوا حياتهم مثلما أرادوها هم لا مثلما كان يُراد لها أن تُبرمج وتعاش.
في الشهر الرابع من عام 1991 تم تسريحي من الجيش وعدتُ لعملي في ألإذاعة، والتي رغم ظروفي القاسية في الجيش كنت أعود وأواصل عملي فيها من خلال كتابة المسلسلات أو إخراجها عندما أمنح إجازات من وحداتي العسكرية. تسلمتُ رئاسة قسم الثمثيليات في إذاعة بغداد بعد تسريحي بأشهر، ولكني كنت قد قررت الهجرة وإحالة نفسي للتقاعد. وخلال فترة إنتظاري لذلك بين عامي 1991 و 1992 وريثما أحصل على الموافقة على تقاعدي ومن ثم إكمال كل الأوراق فيما يتعلق بهذا الشأن في دائرة التقاعد ببغداد، قمت خلال هذين العامين بزيارات للعاصمة الأردنية عمان من أجل مشروع إذاعي مع مجموعة من الفنانين والزملاء في الإذاعة الأردنية. وكنتُ التقي بالأستاذ عبد الوهاب البياتي في كل مرة أعود فيها من بغداد إلى عمان..
في أحد الأيام من شتاء 1991 كنتُ ومجموعة من الزملاء المثقفين ومعنا الشاعر البياتي قد غادرنا قاعة “الشومان” التي كان يديرها الفنان شاكر حسن آل سعيد، وإستقر بنا الحال في مقهى “الهورس شوز” حيث كنا قد حضرنا ندوة عن الفنان الرسام العراقي الرائد فائق حسن. شاركتً فيها بطرح بعض الثساؤلات عن هذا الفنان الأصيل المتميّز.
كانت المجموعة تضم الشاعر والصحفي والقاص الأردني أحمد المصلح، والقاص محمود الريماوي، وبعض النقاد والفنانين العراقين، كالفنان التشكيلي علي رضا وعلي شلاه والناقد محسن أطيمش الذي كان يومها مبتهجاً بصدور ديوانه «محمد عفيفي مطر.. الأناشيد” وكان يستعد للرحيل إلى اليمن للعمل هناك.
وفي المقهى إستذكر البياتي الفنان فائق حسن الذي يعرفه عن قرب، وتحدث عنه بإعتزاز ومحبة؛ حيث تطرق بحديثه عن تاثيرات رسومه على ماكان يرسمه طلابه، وكان الفنان علي رضا الحاضر في الجلسة واحداً من طلابه. لقد أثيرت قضية في منتهى الأهمية، إنها “التأثير والتأثر” التي قال كل منا رأيهُ فيها.. ولكن خلال ماكان يطرح كنتُ أفكر وأتأمل بالتأثير والتأثر بين أعمال البياتي الشعرية وشعراء آخرون عرفهم البياتي عن قرب، إذ كما أرى تأثروا بتجربة البياتي الشعرية، أمثال الشاعر التركي ناظم حكمت والإسباني رافائيل ألبرتي. في تلك الجلسة أهداني البياتي مجموعته الشعرية “بستان عائشة” التي كانت قد صدرت عام 1989، وكتب لي عليها بخط يده الأنيق سطور إهداءٍ لطيفة، أخذتُ “بستان عائشة” معي عندما عدتُ إلى بغداد، وبقيت “بستان عائشة” هناك في العراق.
في صيفِ عام 1992 وفي عمان تعرض البياتي لوعكةٍ صحيةٍ نجمت عنها ألآم في إحدى ساقيه، ولم يكن يتمكن من السير إلا بعصا لازمتهُ أشهراً، وحينما تلاشى الوجع من ساقه وإستطاع أن يستغني تدريجياً عن عصاه التي رافقته أشهراً، إقترح عليه الشاعر أحمد المصلح وبطريقته الفكهة أن يهديه تلك العصا حينما يفرغ حاجته منها تماما، إلا أن البياتي إجابه وبسرعة…
ـ لا.. إنها ليست للإهداء، وستبقى معي ذكرى فلقد ساعدتني في وقت الشدة ولابد أن أكون أميناً على رفقتها لي.
علق حينها القاص محمود الريماوي وبلطف..
ـ تكون أحياناً خيالي رومانتيكي النزعة يا أبا علي.
ـ لا، إنه الوفاء وليس الخيال ياصديقي.
هكذا أجابهُ البياتي، وبلطفٍ كذلك..
في نهايات شهر تشرين الأول/أكتوبر 1992 وقبل أن أسافر بيومٍ واحدٍ راحلٌ ومهاجرٌ إلى ليبيا، جئتُ في المساء إلى المقهى لإودع البياتي والأصدقاء الذين كنت التقيهم تلك الأيام. كانت حينها تلازمني مشاعر قوية مختلطة، الحزن لهجرتي من العراق والتفائل بحياةٍ وعملٍ في ليبيا.. لقد كنتُ متعبا ذلك المساء. حينما رأني البياتي بادر هو بالتحية.
ـ أهلاً ياولدي يازين الشباب..
أخذت مكاني في الجلسة وأنا أقول له..
ـ سأسافر غداً صباحاً وأتيتُ لأودعك.. وأودعكم، ربما لن أراكُم إلا بعد سنوات..
أجابني لائماً..
ـ ولكن أنتبه لتذكرة الطائرة.. فقد تسقط من جيب قميصك وأنت تضعها فيه بهذه الطريقة، فلن تسافر غداً.
ـ أريدُ أن أراها دائماً أمام ناظري يا أبا علي..
وجه كلامه لي وللحاضرين.
ـ لقد أخذ مكافأة تقاعده وباع مكتبته ليشتري هذه التذكرة ونفقات رحلته، لقد جمع المبلغ بدمع العين وماجرى.
نهضتً وحييت البياتي والأصدقاء مودعاً، وقبل أن أبتعد ناداني قائلاً..
ـ حينما تصل ليبيا أكتب لي رسالة.
ـ أهلاً بكَ في بلدك.
عبارة ٌرائعةٌ جميلة لن أنساها قالها لي حينها أحد موظفي الحدود الليبيين.
هكذا إذن.. لقد دافع الشعر عن أسماء، مثلما أنقذ الشعر أباها زمناً في عدةِ مواقفٍ صعبة، وهو القائل في أحدى قصائده التي أهداها إلى إبنته نادية التي كانت قد توفيت في أمريكا.
“وقف الشعر ببابي
حارسا يدفع عني القتلة
فلماذا اخطأ الموت
وأودى بك
يا نجمة صبح الغابة المحترقة”
ذلك هو المتواضع النبيل والعراقي لحَدِ العظم والنخاع، شاعرٌ أَبِيّ عانى وقاوم أكثر من نصفِ قرن، يسأل عن بغداد التي ولد وعاش فيها، يسأل عن عائشة وبستان عائشة وقتلة عائشة، يرثيها ويغازلها، يهجرها ويعود إليها، حارَت معه وحار معها..
إنني أسألك اليوم وأنتَ هناك في الغياب.. هل سننتظر أكثر لمجيء المستقبل الجميل السعيد لكلِ أهلنا الرائعين في العراق وللوطن! أم أننا سنبقى في إنتظار “الذي يأتي ولايأتي” ؟
هل تَودُّ سماع أخبار عائشة التي نحن جميعاُ مسكونون بحبها وبضوئها؟
أعلمُ أنكَ ستجيبني الآن وتقول وأنتَ تبتسم..
ـ عائشة… مازالت عائشة. إنها هناك مازالت في العراق.
ثم تودعنا مرةً أخرى وتغيب ثانية يا أبا علي.