حاوره: صبري الموجي
تلفتُك إليه إنسانيتُه الطاغية التي نَسجَ فيها علي منوال عَمنا الراحل سعيد الكفراوي، فتبهرك ابتسامةُ ثغره، ودفء حديثه. وأبدا لم تأتِ إنسانيتُه علي حساب موهبته التي جمعتْ بين الشعر والرواية والفن القصصي والكتابة للمسرح، والعمل الصحفي، والنقد الأدبي، وقبل ذلك عمله بالتدريس، حيث تخرجت علي يديه أجيالٌ مُحبة للثقافة والإبداع .
بدءا من قصة ” في البدء كانت طيبة” وديوانه “الخيول”، مرورا برواية “رجال وشظايا، و” ريحة الحنة”، و” خوذة ونورس وحيد” وغيرها توالت أعمالُه التي أبهرت القارئ ولجان التحكيم .. مع الشاعر والروائي والكاتب المسرحي سمير الفيل، الذي تميز بغزارة الإنتاج وجودته كان هذا الحوار .
بدأتَ بشعر العامية حامًلا لواء بيرم وحداد والأبنودي وحققتَ فيه نجاحا لافتا ثم انصرفتَ عنه للسرد الروائي والقصصي .. سبب التحول؟
لا يوجد سببٌ مُعين للتحول، أنا نفسي في حيرة من أمري، فقد بدأتُ الكتابة في أجواء حرب الاستنزاف ( 1969 ـ 1970) حين قدمني الأبنودي في كفر البطيخ، وقبلها قدمني محمد النبوي سلامة في مقهى بالمدينة.
أنتجتُ خمسة دواوين شعرية تحول أولها إلى عرض مسرحي على يد محمد الشربيني “غِنوة للكاكي” ، إخراج شوقي بكر، ألحان توفيق فودة، ثم فازتْ أول قصة كتبتُها عن الحرب، وهي بعنوان” في البدء كانت طيبة” عام 1974، ومن يومها جمعتُ بين الشعر والسرد، كما كانت لي تجاربُ لافتة في المسرح وبداية من عام 2001 قررتُ التفرغ للقصة القصيرة، فقد لمستُ داخلي نزعة للاغتراف من حكايات الحارة الشعبية التي أسكنها، فهي مشحونة بالصدق والتنوع والجمال.
يتميز سمير الفيل بغزارة الإنتاج وتنوعه.. ألم يأتِ ذلك علي حساب الصَنعة؟
يبدو أن غزارة الإنتاج شيء من الطبع، ولا يد للكاتب فيه، فحين أنصتُ لصرير القلم، أستسلم تماما لموجات الحدس والرقة والشجن الذي تمنحني إياه النصوص الأدبية، فإذا ما قبضتُ على الفكرة انطلقتُ أكتب دون أن أضع حسابا للزمن ولا المكان؛ فهناك قوة طاغية تدفعني للاستمرار طالما هناك إحساسٌ بإيقاع يسري داخلي فهو أمر سيتسلل للنص ذاته دون قصدٍ أو تعمد.
مهارةُ الكتابة تسندها على الدوام رؤية محددة للواقع، وموقفٌ من الحياة، وفلسفةٌ تشف من خلف الجمل والعبارات.
أستطيع القول إن الله قد حباني بموهبة تعلو الكتابة، وهي استبصارُ ما وراء المادة السردية، وهو ما يجعل النص حيا ومرنا وقابلا لتأويلات عدة، ظهر هذا واضحا في ثلاث مجموعات :” جبل النرجس ” ، ” حمام يطير” ، ” الأستاذ مراد” .
وأيُّ الأوصاف تُفضل.. الشاعر أم الروائي أم القاص أم غيرها؟
أنا الشاعرُ الضليل الذي سحبته أمواجُ السرد من لُجة الشعر لكنه حاول قدر استطاعته أن يكون نصُه الأدبي لا يخلو من رؤية جمالية، وعمق فكري، فالكتابةُ بلا موقف تنتهي إلى فراغ أو ثرثرة مجانية.
لكنني سأعترفُ بأن سكان محافظة دمياط ما زالوا يلقبونني بالشاعر، ويعتقدون أنه لقبٌ عزيز على نفس كل من أمسك بالقلم!
لُقبت بـ”كاتب المُقاومة” رغم تنوع أغراضك وتعدد ميادينك ؟
كنت في الصف الثالث الإعدادي حين وقعتْ هزيمة الخامس من يونيو 1967، وتركت النكسةُ في قلبي جُرحا لا يندمل، وحين وقعتْ حربُ أكتوبر 1973 كتبتُ مجموعة من النصوص القصصية كانت تنتصف للمقاتل المصري، لم تهمني وقائعُ الحرب ذاتها بقدر ما اهتممت بالمحارب المصري وتعاملت مع مرجعيته الاجتماعية بقدر من الحنو والاستبصار خاصة أنني جُندتُ في السنة التالية للحرب، وزاملتُ مُحاربين في القطاع الأوسط من الجبهة كما قابلتُ محاربين أشداء، وسجلت بطولاتهم ومنهم : محمد عبد العاطي صائد الدبابات، ومصطفى العايدي وحسني المتبولي ، وسعد الخولاني وعادل زقزوق، وغيرهم.
في هذا المجال أنتجت روايتين :”رجال وشظايا”، ” وميض تلك الجبهة “، كما أصدرت مجموعات قصصية، هي :” كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟ “، ” خوذة ونورس وحيد”، “شمال .. يمين” ، وكان لجمال الغيطاني فضلُ التعريف بنا حين عَرفَ بكُتاب المقاومة وأعمالهم، ومنها كتاباتي وكتابات سمير عبدالفتاح وفؤاد حجازي، ومحمد الراوي، ومحمد الهادي، وغيرهم.
لم تحُل قسوةُ الظروف بينك وبين الإبداع والذيوع .. السر وراء هذه الطاقة الإبداعية التي صنعت سمير الفيل ؟
ربما هذه الظروف الضاغطة أكثر من غيرها هي التي دفعتني لكي أكتبَ، وأستمرَ في الكتابة دون توقف لمدة 53 عاما، وهو مجهودٌ يحتاجُ لطاقة عالية، وقدرة على ضبط النفس وجعل الكتابة مشروعا متناميا .
أتصور أن الكتابة هي التي انتشلتني من نوازع الضعف والاستكانة وحققتْ داخلي هذا التوازن المدهش، إضافة إلى سرٍ سأبوح به حالا: أجدُ في كتاباتي متعة تشملني حَالَما انتهيتُ من النص .
وهي متعة لا تُشترى ولا تُباع .
ما سر تمسكك بموطن رأسك وعدم استجابتك لنداهة القاهرة بحثا عن الشهرة والذيوع؟
أعتقدُ أن هذا هو الشيء الطبيعي أن أظل في المحيط الاجتماعي الذي أنتمي إليه، فهو يمنحُني فرصة أكيدة للنهل من معين الواقع دون أن أخضع للظروف المؤلمة التي يتعرضُ لها أبطالُ قصصي. في نفس الوقت لا ألوم الكتاب الذين نزحوا للقاهرة فبدون ذلك لظلوا في العَتمة خاصة من ولجَ منهم من بوابة المسرح.
رغم تميز إنتاج الفيل الإبداعي إلا أننا لم نر له عملا سينمائيا .. هل هي غفلةُ صناع السينما أم زهد المبدع؟
لا هذا ولا ذاك، لم تتيسر لي الفرصة للتوجه إلى السينما، فضلتُ دائما أن أُخلصَ للكتابة دون غيرها، وكان هناك مشروعٌ لإنتاج فيلم سينمائي عن ” رجال وشظايا”، وصادفتْ كاتب السيناريو مشاكل الميزانية، غير أنني شديدُ الرضا عن توجهي وغير نادم عليه.
كان للنوادي الأدبية دورٌ بارز في تفريخ المبدعين .. فهل مازالت تُمارس دورها الآن؟
أرجو ألا يكون جوابي صادما، تخلتْ أغلب التجمعات الأدبية عن طموحها في تقديم كتاب جدد، كما أن ظهور الميديا بكل هذا التغول جعل الأمر صعبا، انتهت فكرة ” الأستاذية” وصار كل كاتب يعتمد على نفسه في التعلم وتطوير ذاته وتطوير أدواته.
تشيع في أعمالك الصورة والحركة والموسيقي والرسم.. السر في ذلك ؟
وهل الحياة إلا حركة مستمرة، وتحولات تخضع للظروف والملابسات والوقائع ؟!
لقد استوعبتُ الدرس مبكرا، وكان عليَّ أن أنصت للمعلمين الكبار: تشيخوف، كازنتزاكس، وليم فوكنر، نجيب محفوظ ، محمد ديب ، يحيى حقي، وغيرهم.
النص الذي يعيش هو الذي يبنى على الوعي وصدق البصيرة، لا معنى لكتابات ممجوجة تُرسخ الطاعة العمياء وتستنيم السائد والمكرر.
كل مشروع في الكتابة هو مشروعٌ للثورة بالمعنى المجازي، ما قدمه فؤاد حداد، وصلاح جاهين وسيد حجاب والأبنودي في شعر العامية هو الإمساك بالخيط السحري للإبداع، وتعميق المجرى العام لكتابة صاعدة تحمل الجمال والرقة والمعرفة في آصرة واحدة.
حين قرأتُ ديستوفيسكي لأول مرة مسني مثلُ هذا السحر، قلتُ في نفسي كيف يمكنك أن تتجاوز هذا الجبل الشامخ، ثم جاءتني فكرةٌ بدت كانبثاق ضوء من بعيد، قلت في نفسي : النملة تعيش والفيل ، والنسر والسنونو في غابة واحدة كل منها يُدبر حياته بالشكل الذي يجيب على شروط الحياة .
في الفن شيء من هذا القبس الروحي العجيب.
بمناسبة انتهاء رمضان كانت هناك صلةٌ وثيقة بين رمضان بلياليه الدينية وحفلات الإنشاد والإبداع.. فما هي ذكرياتك مع رمضان؟
دمياط مدينةٌ حِرفية للعمل والكدح اليومي، وكنتُ من الطلاب الذين يعملون طول العام في الورش والمحال، وهذا لم يمنعنا من الاستمتاع بشهر رمضان، وبكل ما فيه من سهرات تستمر حتى الصباح.
في الورشة كان العملُ يبدأ بعد الإفطار بحوالي ساعة، ويستمر حتى السحور، تأتي صينية من النحاس من بيت المعلم فنستدير حولها، كما عرفتُ مدفع رمضان المواجه لجامع البحر، والتمتع بإطلاق أسراب الحمام في “غِية” على السطوح، وكنا نقضي اليوم بطوله في ” المالح” ثم نعود بـ”اللنش” كل يوم جمعة.
رمضان كان نسمة هواء عليلة تُرطب أيام القيظ .