عزيز ستراوي
عجبا! ما باله لم يرحب بى كعادته دائما، ولم يبادلني تحية الصباح. بل لم يكلف نفسه حتى النظر إلي. كيف يتجاهلني وآْنا زبونه المفضل؟ هل نسي بانني كنت من اْبناء حومته؟ وكنت جاره وصديق طفولته؟ لكن لابأس، لن أتأخر في معرفة السبب. فأنا أعرفه جيدا. هو إنسان طيب، مرح، ودود وقلبه على لسانه، فكما اعتاد اْن يفتح بطون الاْسماك وينظفها اعتاد أيضا اْن يفتح قلبه لي، لا يخفي عني شيئا. يحكي لي وبعفويته المعهودة عن كل صغيرة وكبيرة، عن أحوال الطقس، واْسعار السمك، واْخبار كرة القدم، وعن حياة الناس، وحتى وهو يحكي عن همومه عن تعبه اليومي وعراكه مع الزمن، تراه يضحك، يسخر، ينكت ويرمي بالقفشات ويكرر على مسامعي دائما: هموم الحياة مثل بقايا اْحشاء السمك تخلص منها ولا تتركها تتعفن في داخلك. لكن ما الذي حدث له؟ لم يسبق لي ان راْيته في مثل هذه الحالة. وجهه ذابل مظلم، واْجفانه منتفخة، وعيناه حمراوان، يبدو كمتشرد قضى ليلته يتسكع في شوارع المدينة. تجرأت وساْلته: ماذا جرى لك؟ لم يجبني. ربما يرفض اْن يكلمني، اْواْنه لم يسمعني بالمرة. لكن لا أعرف بالضبط لماذا ظل يحدق في سمكة التونة التي اشتريتها، يحدق فيها بنوع من الاشمئزاز والقرف. اْيشك في طرواتها؟ وهو يعرف جيدا اْنني شاطر، ولا مرة واحدة انخدعت، فاشتريت سمكا كريها تعافه النفس والعين. – قل لي هل من مشكلة؟ . تمتد يده الى سمكة التونة، يزم شفتيه وهو يسحبها من الكيس ثم يطرحها على لوح المسلخ، وبقوة يحكم قبضته على ذيلها. لكن لم هذه القسوة؟ هل يخاف اْن تهرب من بين يديه؟ يرفع السمكة قليلا بحيث تبدو وكاْنها ستغطس في الماء، وبسكينه الحاد يزحف على حراشفها الشوكية التي تنزرع على امتداد الظهر. ثم يقلبها على الجنبين ليتخلص من كل الزعانف العالقة بها. من جديد يطرح السمكة على اللوح وبضربة سريعة يطيح برأسها، ثم يركله براْس سكينه فيتدحرج داميا نحو صندوق القمامة. اْوه! لم يكن يفعل ذلك من قبل. اْقصد لم يكن يزيل الراْس تماما، كان يكتفي فقط بإزالة الخيشومين العالقين بالراْس تفاديا لإتلاف لحم السمكة. أيقنت الآن أن صديقي في محنة. في محنة حقيقية. ما في ذلك شك. اضطراب حركات يديه تقول ذلك، اهتزاز ثبات عينيه، زفراته، شهقاته، قميصه الرياضي المضمخ بالعرق، همهماته المحمومة وكلها قذائف من السباب والشتائم البذيئة، وكاْن في داخله بركان على أهبة الانفجار يمخضه بدون رحمة، اْو زوبعة أفعوانيه تبحث عن منفذ للخلاص من تحت جلده. ليتني اْعرف سر غضبه؟ اْهو غاضب من مشغله؟ غاضب لاْن فريقه الكروي انهزم ليلة البارحة؟ غاضب لأنه استيقظ هذا الصباح طاوي البطن و الجيب ولم يدخن بعد سيجارته الأولى؟ اْم هو غاضب مني اْنا؟ لا أتذكر في آخر زيارة اْنني أسأت اليه، اأو قلت كلمة تجرح مشاعره. ولا اأتذكر أني قصرت يوما ما في تأدية واجب خدماته، فاْنا اْعطيه وزيادة. وإذا كان بالفعل غاضبا مني، فليواجهني، ولاداعي لاْن ينكل بسمكتي ويعذبها. أْتشكو من شيء؟- قلت لم يجبني وكأني اْكلم تمثالا. علي اْن اتصرف. ما عدت اْطيق مزاجه العكر، ولا تماديه في صمته الاْخرس. الحل الأنسب اْن أخلص سمكتي بسرعة من بين يديه واْذهب. لكن هيهات! فات الأوان. سكينه كان اْسرع مني. وقد صوبه نحو بطن التونة ففتقه. من بطنها تندلق الاحشاء ومعها كيس البيض. يكشط بالسكين ما تبقى من الأنشجة العالقة ببطنها. وفي الأخير واْمام دهشتي يدفع الخلطة برمتها: الاْحشاء، وكيس البيض، والاْنسجة لتنزلق نحو صندوق القمامة. – ترمي بكيس البيض؟ قلت مستاء يتطلع نحوي في حياد تام. لا يبدو اْنه سمع وفهم ما قلت، وكاْنه يراني من وراء زجاج سميك. من يدري! ربما لا يراني اْصلا. بسرعة يطلق زخة من الماء لغسل التونة، وتنظيف بطنها، وبيسراه يرفعها من ذيلها. من تحت يده تتدلى السمكة بكل طولها عارية تلمع بلونها الفضي وهي تودع آخر خيط من دمها. يحدجها بعينيه بدءا من ذيلها حتى راْسها المقطوع، وتظل نظراته تتعقب بإصرار خيط الدم وهو ينزلق منحدرا من بطنها المبقور، ثم وهو يسقط على اللوح قطرة قطرة قطرة. من جديد يطرح التونة على اللوح وبضربة قاطعة يتخلص من ذيلها، ثم يشطرها اْفقيا الى نصفين. وكالمعتاد ينهي لمسته الأخيرة بانتزاع عمودها الفقري. اْمامي تتحول التونة الى شريحتين كبيرتين من اللحم. جميل! أشعر الآن بالارتياح، على الرغم من انْه عنف السمكة، فقد وضبها بالطريقة التي اْحب، وساْكتفي فقط اثناء وصولي الى المنزل بان اْتبلها، واْرفقها بشرائح من الفلفل والحامض وبعض المنسمات العطرية واسلمها الى الفرن. تلك وجبة سمك شهية أتطوع لإعدادها لاْسرتي في مواسم الصيف رغبة مني في خلق جو من الاْنس والفرحة على مائدة الطعام. لكن ماباله يحتجز سمكتي؟ اْلم ينته منها بعد؟ عيناه على السمكة دائما، نظراته تقدح شررا. وكأنها تقول: هذا لا يكفي ! أصابع يده الخشنة تتقلص حول مقبض السكين. ما الذي يدور في راْسه؟ يحتقن وجهه، يتنمر مكشرا عن اْسنانه، وعلى شفتيه المحروقتين بالتبغ تنطبع ابتسامة، متوحشة، ابتسامة مخيفة، تكاد تحاكي تلك الابتسامة السادية الشهيرة لجاك نيكلسون في فيلم شاينينك” لكن ماذا يفعل هذا المجنون؟ ضربات السكين الهائجة تنهال على شريحتي التونة. تتوالى الضربات، تتوالى ولاتتوقف. . . اللعنة! هل يريد هذا المعتوه اْن يفرم السمكة؟ حفاظا على سلامتي اْتنحى عنه قليلا، اْصيح فيه: ماذا تفعل؟ توقف ! وكاْنه خرج لتوه من حرب ضارية يتطلع نحوي لاهثا، عرقانا، زائغ العينين، ثم يغرس راْس السكين بقوة في صدر اللوح. – والله لو وقعت بين يدي ساْذبحها واْقطعها، واْرمي بلحمها الى الكلاب من؟ – قلت
– تلك ال. . . . الاْفعى !
ـ الافعى! من؟
ـ زوجتي. اْطلقت على ليلة البارحة اْخاها الكبير وابن عمها. . . واْمها، واْختها أيضا، الاوغاد تكالبوا علي. اْشبعوني ضربا وسبا، وطردوني من منزلهم. . .