.. فما كان حقيقيّاً في البداية يسفِرُ عن التوهّم. “أكرم” الوجه الأول الذي نطالعُهُ في أوّل الرواية يستعدُّ في شقّته للحب العائد “نادية” بعد أكثر من عقد جرت خلالها مياهٌ تحت جسر هذا الحب من زواجٍ وأنجاب، وفي الوقتِ نفسِهِ اشتغاله بكتابة رواية على نحوٍ متقطّع يتنفّسُ عبرها عن مأزقه الحياتي في شخصيّتِهِ الروائية الخياليّة “مازن”. هذا الحقيقي الذي أرادَ لنا محمد خير تصديقه عندما وضعَ لنا ضمير المتكلم حاملاً لـ”أكرم” ليشِيَ بنظرةٍ محدودةٍ وليحيلَ على عالمٍ ذاتيٍّ مُسوَّر الأفق، فيما الرواية المتوهّمة التي بطلها “مازن” تنهل من اتّساع الضمير الغائب وعوالمه المنفتحة والممكنة وذلك تأكيداً للصبغةِ وللصيغةِ الروائيّة. ثمّ ما يمرّ بنا، وفي تعاقب مدهش، مِن توازن بين الحياتين وأحداثهما ومِن شخصيّاتٍ تتناظر في الفعل حول “أكرم” و”مازن” لتمضي الخدعة في مجراها لنتعرّف أو نقتربَ من الأول في حياةِ الثاني، ليُحكِم صاحب “سماء أقرب” طوقَهُ على عين القارئ وذهنه ويستدرجَهُ إلى فخاخِهِ التي نضجت تماماً في الفصل الما قبل الأخير؛ الرابع عشر، حيث ينكشفُ غطاءُ التوهّم ونلفي أنفسَنا نعود القهقري فما كنّا نظنُّهُ حقيقةً لم يعد كذلك، وما كان خيالاً وتوهّماً لم يكن إلا الحقيقة ولو إلى حين.
.. فشخصيّة “مازن” الواقع خارج نطاق التواصل الإنساني، والذي أرادَ الخروج من مأزقه، بتشجيع من الفتاة الصغيرة فاتن التي التقى بها في المدينة السياحية البحريّة التي قصدها ابتعاداً عن العالم وطلباً للصفاء الذي شوّشتْهُ الحادثة بإعطاب عينه وتشويهها في سيرك انتخابي وابتعاد صديقته “لمى” عنه بعد ليلةٍ عانى فيها العجز الجسدي معها ونالَهُ الإذلال من الشرطة ومن الصيدلي. هناك في المدينة البحرية الصغيرة، ومع فاتن التي يسّرتْ له طريق الخروج والتحرّر من الحادثة بحكاية ما حصل له كتابةً؛ اقترحتْ عليه أن يأخذ مسافة بينه وبين نفسه ويتموضَع في شخصيّات خياليّة ولكنها تحملً أنفاسَهُ ومنها يتعالى صَهْدُ وجيعته وتفوحُ رائحة جُرحه بكلِّ ما فيه من صديد؛ فكان اجتراح شخصيّة “أكرم” الخياليّة.. معبره إلى التحرّر والعودة إلى الحياة، وفي الوقت عينِهِ ينزلق “أكرم” إلى الظلام الذي قَدِمَ منه. يغادر بلا أوراق الرواية وبلا نادية التي طواها حادثُ سيرٍ مروّع مع زوجها وطفلتها. فناءٌ تام. يتقشّرُ “أكرم” من المرآة ويذوب في غياهب السفر.
نقرأ لرامون غوميز دولا سيرا هذه الفلذة الدّالة (في الصقيع البعيد، ثمّة صدى مرايا مشروخة). هذه المرايا المتقاطبة والمتناظرة والمتشظيّة أيضاً، تطلقُ دلالاتٍ متضاربة وتعيّنُ إشاراتٍ مضطربة. حولها تحوم الشخوص وظلالُها وأشباحُها، ومِن تكاثرِ المرايا تستبدُّ الحيرة ويهيمن الارتباك. ترقُّ الحدود وتنعدمُ الفواصل بينَ المرئيّ واللامرئيّ.. بين ما هو محسوس وما هو مُجرّد.. بين ما هو صلب يملك وجودَهُ بأسباب الحقيقة وبين ما هو غيميٌّ نازح يعومُ في التوهّم. المرايا المشروخة التي تناوبتْ حياتَيْ “أكرم” و”مازن” أليست إعلاناً متكرّراً ويتبدَّى أبديّةً من العذاب الذي لا نخلص معه إلى شيءٍ ناجزٍ نطمئنُّ إليه ومعه؟ أليس في هذا التبادل المرآوي جمودٌ خادعٌ نتلهّى عنه بما نحسبُهُ حياةً وهي أقربُ ما تكون إلى السراب؟.. تتركُ “سماء أقرب” قارئَها في ظمأٍ وفي دهشةٍ، وتجعلُهُ لعبةُ مراياها داخلَ دائرةٍ يتردّدُ كثيراً ومليّاً في الجزم بحقيقةٍ مراوغةٍ وسيّالة شأنها شأن ما يحدثُ الآن في مصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سعودي