حسن عبدالموجود
حدث ذلك أحد أيام صيف عام 99. أخبرنى عم أنور، عامل أتيليه القاهرة، أنه لن يسمح لى بالدخول، اليوم، واعتذر باقتضاب. لم يكن معى موبايل آنذاك فى ذلك العصر الغابر، أستدعى من خلاله أصدقاء فنانين يجلسون فى الداخل، ورفض عم أنور أن يتحرك من مكانه ليستدعيهم بنفسه، وقال لى إننى لو أردت أن أدخل فلا بد من الحصول على موافقة أحد أعضاء مجلس الإدارة، وبينما أغادر بخيبة رجاء كبيرة سمعت صوتاً أنثوياً رفيعاً وحاداً: «استنى عندك!» والتفتُ فوجدت الأستاذة سلوى بكر تقف بشعرها القصير المميز، وبملامحها الآسيوية الجميلة، ونظرتها الحادة، فشعرت بذعر غير طبيعى، إذ تخيلت للحظة أننى ارتكبت جرماً، وإلا ما أرسلوا الأستاذة سلوى بكر تحديداً فى أعقابى، وللحظة أيضاً فكر الشخص المذعور داخلى فى الهرب، وكنت على وشك الاستدارة تجاه شارع محمود بسيونى مطلقاً ساقىّ للريح، لكننى فكرت فى أننى لم أسرق «طفاية» أو كرسياً أو طاولة أو لوحة من الأتيليه، واستجمعت قواى. كانت تقترب منى خطوات واقتربتُ منها بالكاد خطوة واحدة، أو هكذا تخيلتُ، إذ ضبطت نفسى أسير إلى الوراء، ثم سألتنى: «رايح فين؟!» فتسمرت فى مكانى، وكنت على وشك أن أقسم لها أننى لم أفعل شيئاً، لكنها استكملت بنفس لهجتها: «أنا سمعت صوتك من جوه، وقلت لهم يدخلوك، اتفضل!». شعرت تجاهها بامتنان كبير، غير أن الشخص المرتاب داخلى وشوشنى: «ربما سيعلقونك فى الفلكة بالداخل، وستشرف هى على تعذيبك»، لكننى تذكرت أننى فى القاهرة لا فى قريتى القناوية، فشعرت بالاطمئنان قليلاً!
تبدو سلوى بكر، لمن يشاهدها أول مرة، حازمة. فى عينها نظرة اتهام جاهزة، وفى صوتها صرامة، لكنك حينما تقترب منها، أو حين تسمح لك بالاقتراب منها، وتخترق تلك القشرة، قشرتها الجادة، ستلمس خلفها إنسانة رقيقة وراقية، متحدثة لبقة، ومحبة للناس، لكنها صريحة ربما أكثر مما يجب، إذ أنها تقول رأيها بوضوح، وكما تفكر. احتجت أكثر من عشرين عاماً لأعرف أنها كانت تعمل «مفتش تموين» ورغم دهشتى الشديدة بسبب هذه المعلومة إلا أننى تذكرت نظرتى إليها فى أول مقابلة معها، إذ قررت أن هذه السيدة لا بد أن تكون مفتشاً، مفتشاً غير عادى فى مصلحة حكومية مهمة، مفتشاً يملك الضبطية القضائية، وقد كانت لديها هذه السُلطة فعلاً، وتسبت فى رعب خلال نهاية السبعينيات لتجّار شرق القاهرة، خاصة تجار شارع «مصر والسودان»!
لكن حظ صاحبة «حكاية بسيطة» و«عجين الفلاحة» و«الصفصاف والآس» كان عاثراً فى بعض المواقف. فى إحدى المرات فوجئت ببائع «عنب بناتى» يبالغ فى السعر. كان يبيع بـ15 قرشاً بينما التسعيرة 11 قرشاً، وهكذا توقفت أمامه، وصاحت فى وجهه: «أنا هعملك محضر»، لكنه على عكس كثير من الآخرين لم يتوسل إليها، ولم يُقسم ولو كذباً بأنه سيصحح الأمور، وبدلاً من هذا.. نهض، ونظر فى عينيها بغضب، وصاح فيها بصوت أجش: «طب ورينى كده، لو عملتيلى محضر، والنعمة الشريفة لرشّك بمية النار، واشوّه وشّك». لم تكن قلقة حتى قابلت مديرها فى المصلحة. حكت له ما دار مع البائع، ويبدو أنه كان يعرفه، إذ قال لها: «لازم تاخدى 15 يوم أجازة فوراً!»، وسألته باندهاش وربما بخوف: «ليه؟!» ورد عليها: «ده مسجل خطر، ولسه خارج من السجن حالاً، ومش بيهزر، وهيتعرضلك فعلاً لو شافك». تعقب: «كان هذا لسوء حظه وحظى. خلال الأيام الخمسة عشر، مدفوعة الأجر، التى مكثتها فى بيتى كنت أفكر فى الأمر، وشعرت بندم شديد. كنت نادمة فعلاً على أننى حررت له محضراً، ليس خوفاً منه، لكن بسبب اكتشافى أنه خرج تواً من السجن. صحيح أنه رفع التسعيرة، لكنه على الأقل كان قد بدأ يضع قدميه على الطريق، وعلى الأقل لم يعد إلى حياة الإجرام، وربما كان سيصحح سلوكه. أعدت النظر فى أمور كثيرة فى هذا التوقيت، وكنت أسأل نفسى: من هو المجرم ومن هو الجانى؟ كنت حزينة للغاية وأفكر: يا ليتنى منحته فرصة ثانية»!
فى نفس الشارع حررت سلوى بكر محضراً لفكهانى كان يتلاعب فى التسعيرة كذلك، وفوجئت، كما تحكى، بأنه لا يبالى، واندهشت من رد فعله، لكنها فهمت الأمر بعد ذلك، إذ اكتشفت أنه الفكهانى الخاص بأحد أشقاء الرئيس السادات!
تخرجت سلوى بكر فى كلية تجارة، قسم إدارة أعمال، جامعة عين شمس، عام 1972، وجاءها التعيين بعدها بشهور، فى مصلحة «الموازين والدمغة» فى «بيت القاضى»، ولأنها كانت تسكن قبل زواجها فى الزيتون كان من الصعب عليها خلال هذا التوقيت التنقل من بيتها إلى منطقة الجمالية كل يوم، وهكذا طلبت نقلها إلى منطقة أخرى، وجاءها الخبر السعيد فعلاً، إذ قبلوا نقلها إلى شرق القاهرة. تقول: «كنا بالكاد خارجين من حرب التحرير، وكانت الدولة تتعامل مع الغش بحزم شديد، وتعتبره قضية أمن دولة، وكانت العقوبات مغلظة فيما يتعلق بالجرائم التموينية، وكنا نحن مفتشى التموين نملك صلاحيات ضخمة، وعلى رأسها الضبطية القضائية. كانت معظم السلع خاضعة لمراقبة الوزارة، بما فى ذلك الحديد، والأسمنت، وحتى القماش الكستور»، وتضيف: «أرادت الدولة إظهار العين الحمراء للتجار الجشعين، خاصة من يتلاعبون فى أسعار السلع الأساسية، كالسكر والزيت والأرز. لم تكن سياسة الانفتاح الاقتصادى قد بدأت، وبالتالى كان بالإمكان السيطرة على الأمور إن أردنا. أتاح لى هذا العمل التعامل مع نوعيات من البشر ينتمون إلى طبقات مختلفة، ومعرفة الطريقة التى يفكرون بها. كانوا مادة رائعة لأعمال كتبتها بعد ذلك»..
تنتمى سلوى بكر إلى جيل السبعينيات، وكانت مثل كثير من أبناء هذا الجيل ناشطة سياسية داخل أسوار الجامعة، لكنها حين خرجت إلى الواقع وجدته مختلفاً بالكامل، كما أن أحلامها بدت لها ضخمة للغاية، بعد التحاقها بالتموين أمام كل هذه القسوة والبشاعة والفساد حولها: «شهدتُ التفاصيل الأولى لثورة الجياع 77، ورأيت النساء الفقيرات، تحديداً، يتجمعن أمام مكاتب التموين، ليعلن احتجاجهن على زيادة أسعار السكر والزيت والأرز، وتفاصيل أخرى ألهمتنى كتابة بعض قصصى القصيرة وكذلك روايتى: العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء. فترة عملى بالتموين جعلتنى كذلك أعيد النظر فى العلاقة بين النخب السياسية اليسارية صاحبة الشعارات الكبيرة، وبين سلوكها العملى، خاصة فى علاقتها بالجماهير. تلك الفترة أيضاً عرفتنى على آليات فساد مجتمعية تستند إلى جُملة من التفاصيل الدقيقة جداً التى يصعب رصدها. وأظن أن هذه الفترة كانت غنية جداً ورسخت لدىّ مفهوماً يتعلق بالكتابة، إذ اقتنعت بأنها لا تكون حقيقية وصادقة إلا إذا استندت إلى هموم الناس فى المجتمع».
لم تكن صاحبة «مقام عطية» و«وصف البلبل» و«أرانب» مقتنعة بأن هذه المهنة، مهنة مفتش التموين تلائمها، رغم أنها كانت مجدة فيها. كان عملاً بعيداً عن اهتماماتها، وهكذا قررت تقديم استقالتها فى عام 80، أى أنها قضت ستة أعوام تقريباً فى المصلحة: «بدأ العمل يضغط على أعصابى، خاصة وأنا أرى كثيرين يفتحون أدراجهم للفاسدين. كانت مهنة مفتش التموين تفتح أبواب فساد كبيرة، خاصة فى سوق الحديد والأسمنت المسلح، وقد أصبح بعض من يعملون معى أصحاب ملايين فى لمح البصر. كان أمراً مؤلماً جداً لروحى، وهكذا قررت الاستقالة غير آسفة».
ما أبرز شىء تتذكرينه من هذه المهنة؟ تقول: «هناك مفارقة ضخمة جرت بعد أن أجرينا حصراً، وقتها، لتعداد من يحق لهم الحصول على الحصص التموينية، ووجدناهم 48 مليوناً، مع أن التعداد الرسمى للشعب المصرى آنذاك كان 40 مليوناً فقط. كانت الحقيقة الغريبة تقول لنا إن هناك ثمانية ملايين يحصلون على حصص تموينية دون وجه حق، وهذا يرجع إلى فهم الناس لعلاقتهم بالمال العام، وهذا الفهم ما زال موجوداً إلى الآن، أن المال العام قابل للاستباحة، وسرقته لا توخز أى ضمير. هذا أمر يتعلق بثقافة الناس فى مجتمعنا. يموت أحد أفراد الأسرة ولا يتم الإبلاغ عن ذلك، لكى تحصل الأسرة على حصته، وهكذا يموت الناس عندنا فى شهادات الوفاة، لكنهم يعيشون فى بطاقات التموين». وتضحك: «ليس هذا فقط. كان بمقدور الناس أن يطلبوا للشغالة حصة تموينية. كانوا يستعينون بها، ثم يطردونها، لكى يحصلوا على حصتها. هذا حكاية تبدو كوميدية من السطح، لكنها فى عمقها سوداء»..
وأسألها أخيراً: «فيه حكايات تانية عايزة تذكريها؟!» فتقول بسخرية: «لما اقولك كل الحكايات اللى عندى هجيب مادة لقصصصى منين؟!»، وتضحك، فأضحك!