سلم – Inferno

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 55
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عزة عبد المنعم

   سلم طويل للغاية، ممتد في السماء، لا أرى نهايته ولا أدرك بدايته، متفكك في بعض أجزائه كأصابع بيانو قديم، معلق في السماء أو بين السماء والأرض بزاوية ميل 90 درجة أو أقل قليلاً. أجري على درجاته بين السحابات وقمم البنايات. أوشك على التعثر في كل لحظة، ولكن ما ألبث أن أتجاوزها بنجاح. لا أصل لمنتهى درجات السلم، ولا أقع ليدق عنقي مرة واحدة وللأبد فاستريح.

  هذا الحلم يتكرر كثيراً، حلم أعي وأنا بداخله أنني أحلم، لكن هذا لا يغير شيئا من القلق والعرق البارد واضطراب النبضات في قلبي. أستيقظ متعكر المزاج متقطع الانفاس، لأبدأ روتينية يومي التي أستحسنها رغم كل شيء، تناسبني وأتماهى معها. الروتين مطمئن.. لا مفاجآت.. لا شموس صغيرة تتسلط على وجهي فيراني الناس.. فقط أريد أن يمضي اليوم بسلام وهدوء.

 

  مازلت مضطرباً، لا أعرف مصدر هذا الهواء البارد على جسدي؛ لابد أنني نسيت شباك غرفتي مفتوحاً، مع العرق البارد الذي بلل منامتى. أفتح عيناي فلا أرى أيا من محتويات غرفتي.. أرى سحابات وسُلّما.. إنه ليس حلما!

 

  أحاول أن أصرخ.. يخرج صوتي هذه المرة على غير العادة فى الأحلام.. أتفوه بالكثير من الكلام الذي لا أعي معناه، أسمع فقط صوت الهواء.. العصافير.. ضجيج أصوات الطلبة والمحاضرين.. كولاجاً صوتياً ثخيناً، أعي أنني في ثورة شديدة، وجهي مبلل بدموع غزيرة.. أحاول أن أعرف أين أنا. أنا أطير فوق المبني القديم بكلية طب الاسنان.. كليتي.

  صمت.. كل الأصوات توقفت فجأة، بتزامن عجيب مع توقفي على الحركة.

 

  جلست على درجة سلم وقدماي معلقتان في الهواء.. بجواري كتاب مادة (أنسجة الفم)، أرمقه بغل وأمسكه.. أشعر بألم مثل الكهرباء في أسناني: مشروع طبيب أسنان يجز على أسنانه كعرض جانبي للضغط العصبي خوفا من امتحانات كلية طب الأسنان.. مشروع كاتب أيضا.. ربما تكون روايتي القادمة عن حصار شاب داخل تجويف السوس في ضرس عملاق، أو محاولته للهروب من فك عملاق يطارده.. ينفتح وينغلق بصوت مقبض رتيب. يضيق نفَسي من تخيل كل هذا.. أفتح الكتاب وأنتزع أوراق ملازمه.. ورقة.. ورقة، أرقبها تطير في الهواء حولي.

 

  بدأ كل شيء صباح هذا اليوم.. يوم الامتحان الشفهي لمادة (الأنسجة).. مادة سخيفة. لا.. بدأ الأمر حينما التحقت بكلية طب الأسنان. لا لا.. بدأ الأمر حينما جئت مجبرا للحياة.. حياة لا أرى نهايتها ولا أدرك بدايتها.. فقط أجري على السلم.. وأنتظر.. وأجري مرة أخرى.. أتمنى تارة أن أصل وتارة أن أسقط بهدوء.. التركيز عسير بشدة الآن.. موسم الامتحانات.. أثنى عشرة يوما بلا نوم تقريبا.

   منذ قليل كنت بغرفة بيضاء، يتوسطها مكتب خشبي عملاق يجلس ورائه رجل في منتصف الخمسينيات، رمادي شعر وجهه ورأسه.. يرتدي قميصا أسود ونظارة طبية بلا إطار.. ويسألني عن المادة التي أكرهها، كان معي ثلاثة طلاب آخرين واقفين في الظلال في زوايا الغرفة، لم أتذكر وجوههم رغم التزامي بالحضور.. كانوا صامتين ومضطربين.. مثلي.

  كرر الرجل أسئلته مرة ثانية.. وثالثة.. بلا جدوى. لا إجابة مني ولا من الظلال.. ارتفع صوت الرجل متحدثا عن العار الذي يجب أن نشعر به، عن فشلنا وعن خيبة هذا الجيل، اتبعها بتهديدات بالويل وسواد الليل، وأنباء مؤكدة أننا لن نغادر جدران هذه الكلية طالما هو حي، وخرج وترك الباب مفتوحا.

   نظرت للظلال، خرجنا نحن الأربعة، كنت أرتعش وأبكي ويدي تقبض على كتاب (الأنسجة)، وأجري بين الطرقات وأشاهد الظلال يركضون حولي بين الطرقات والسلالم المتكسرة.

أحاول الوصول لباب الخروج، لا أذكر مكانه أو شكله.. أجلس على السلم مرهقا.. أفتح الكتاب وأنتزع أوراق ملازمه.. ورقة.. ورقة، أوراق بيضاء من غير سوء، أرقبها تطير في الهواء حولي بخفة.

 

يوليو 2019

مقالات من نفس القسم