عبير إسبر
في صباح يوم حار قتلتُ أبي….
قد يبدو هذا مجرد هذيان فرويدي، لكنه حصل بعد صراع فضائحي على مقبرة. كنا نصعد درج البيت بعد عودتنا من معاينات طبية التهمت صباح يوم الأربعاء كله، الحرّ في الشام لا يطاق، الشوارع المكدّسة بالحواجز، السباب المتطاير من نوافذ السيارات، صفارات عربات الإسعاف، أصوات القذائف البعيدة، الضجيج الزاعق لعساكر الجيش، كلها تحثّك على ارتكاب جريمة كبرى، علّها تطغى على صخب مدينة تذوي مختنقة بصيفها الدبق، وكي أوقف هذا الطنين، كان علي أن أقتل أحداً وقد فعلت، قتلت أبي..
مدّ يده الخرفة إلي، وبنظرات تائهة لمريض آلزهايمر، انتظر أن أشده لينتقل إلى الدرجة التاسعة من السلّم الحجري لمنزلنا ذي الطابقين، لكني لم أفعل، بقرار صاف، سحبت يدي قبل أن يمسكها، التقط أبي الهواء، ثم هوى على ظهره بثقل رجل سبعيني، نزفت أذنه اليمنى دماً قاتماً، وبقى في غيبوبة أربعين يوماً مثل شهداء الكنيسة، ثم مات دون أن يستطيع الإفصاح عن قاتله، أو قاتلته..
أنا ياسمينا ابنة خليل داغر، قتلت دون ندم الطبيب الخرف خليل الياس داغر صباح يوم الأربعاء في 13 من شهر آب عام 2012، بعد أن علمت أنه باع بيت العائلة لقريب أجهله..
عندما قُبض عليّ في مطار بيروت، حصل ذلك للأسباب الخاطئة، ظننت لوهلة أنه آن الأوان كي أسدد حساباتي تجاه العدالة، وأن أبي بطريقة ما، أرسل من عالمه الآخر دليلاً يشير إلى قاتله، يشير إلي مباشرة، لكن هذ لم يحدث. فقد احتجزت كما أخبرت لاحقاً لحملي بعنجهية ولامبالاة خمسين ألف دولار في حقيبة يدي باهظة الثمن، القطعة الوحيدة التي احتفظت بها من ميراث أمي. وصلتها حقيبة اليد تلك هدية من ابن خال لها مقيم في باريس، لطالما تحدثت أمي عن الحقيبة بمناسبة وبغيرها، كانت ترمي اسم بيركن في أي حديث لها عن الموضة، وتوضح أنها من أوائل من حمل هذه الحقيبة التي بدأت دار إيرميس بصناعتها في العام 1984، وهو ذات العام الذي قرر فيه أبي أنه سيطلّق الجميلة زوجته التي طالما أحبها وأحبته..
عندما بدأتُ بكراهية أبي بشكل جاد، كنت أنا بدوري أرمي في أحاديثي معه مفردات تتعلق بباريس والأناقة، بالغنى ومعنى الرفاهية، وكوارث الزواج من الرجل الخطأ، الرجل الجلف، الريفي، وأتحدث باستفاضة عن أبناء الأخوال الوسيمين، ويغيب أبي بذاكرته، وأراقب بتشفٍ ملامحه المتوجعة، وأرى نظراته الحاقدة تجاهي، عندما يرنّ في أذنيه وفي روحه المنهكة صوت أمي متحدثة عن ابن خال لها، باريسي الذوق، بهدايا غالية ووسامة أخاذة وكرم فاقع، سمحت له براحة ضمير أن يغوي ابنة خالته، بوعود وسفرات لا تنتهي، مستنكراً زواجها من ريفي متبجح بتفوق دراسي لامعنى له، فالطبيب الفذ خليل داغر أربكه الزواج المبكر، فاختصر طريق الطب الطويل، تغاضى عن الاختصاص، إلى أن قررت مارلا هجره لافتقاره الطموح والحضور الاجتماعي والنجومية. عندها وبصدفة إسعافية، أجرى أولى جراحاته التجميلة لأنف هُشّم في حادث سير، والسيدة الدمشقية التي رأت أنفها الفرنسي لأول مرة، بكت دموع امتنان وفرح..
في نهاية الثمانينيات، سَكِر الدكتور خليل بنجاحه ذاك، سَكِر بالأجر المجزي ليس لأنه بحاجة لذاك الأجر، بل لأن المبالغ الخيالية التي تقاضاها وضعته على خارطة معارف جدد نصبّوه نجماً..
مع سريان التفاهة والسطحية في طرقات المدينة تعاظم عمله التجميلي، تدفق المال في شرايين الشام التي كان قد خنقها التقشف والعزلة السياسية لسنوات. لكن التسعينات حملت رشاقة إلى جسد المدينة وبدأ ايقاعها بالاختلاف، تعلمت الشام السهر، بدأت تشاهد ما يحدث في العالم، بخوف وبأناة تسللت مواضيع التلفزة الفضائية إلى أدبيات الحديث في السهرات، أسطح الأبنية بدت كأنها وحش فضائي بهوائيات وصحون مشرئبة وآلاف الرؤوس المعلقة، تسللت مفردات جديدة في صبحيات النساء، التحدث بالديمقراطية وبالعلمانية وبالأسلمة، وبأوبرا وينفري، تشدق الجميع بـ”البلاستيك سيرجيري” والبوتوكس، وخليل كان من الأوائل الذين حقنوا البوتكس، وأجروا عمليات “البلاستيك” تلك بأمان وسرية..
في مجتمع لا أسرار فيه، حقق أبي نجومية متألقة، في تجمع ضيق يعبد التقليد ويكرّس المكرّر تنقل خليل داغر في دوائر أضيق ومعارف شديدي الخصوصية، وتبادل خبراته على موائد التجّار وضبّاط الأمن والمسؤولين. مسك خليل خيوط حياته وحاكها بمهارة وبقوة الشهرة والمال والعلاقات..
وأنا ابنة أبي فهمت كل هذا، اعتنقته كدين..
في مطار بيروت، عند نقطة التفتيش الأخيرة، وموظف المطار يهم بختم جواز سفري، سائلاً بلطف عن عملي، وهل أنا مشهورة، ضحكت بزهو وغموض متكلفين، كي أضفي أهمية على ما أفعل، وأنا أهمس بخفة كاذبة أني لست ممثلة كما يظن، لدي فقط شركة إنتاج تلفزيوني، وأعمل حالياً على مسلسل رمضاني من ذاك النوع السوري “الغنوّج” الذي فتن المشاهدين العرب في السنوات الأخيرة، لم أخبره عن روايات نشرت باسمي، فذكر الكتابة الرصينة قد يثير الكآبة، أردت إثارة اهتمامه بشيء حداثي فقد كان وسيماً بشكل لافت وأنا كنت أزحف بثقل غريب في روحي تجاه الأربعين..
بينما هممت بسحب جواز سفري من يد موظف المطار الذي غمرني بأسئلته ووسامته الموجعة، اقترب ضابط بلباس عسكري وأخبرني بهدوء أني لن أستطيع الصعود إلى الطائرة، فلديهم بضعة أسئلة عليّ أن أجيب عنها أولاً. امتثلت لطلبه وذهبت لاجلس في غرفة باردة شديدة الاتساع، خالية من الأثاث إلا كرسي مخلّع رمي في زاويتها المعتمة..
كنت عندها في طريقي إلى دبي، بعد أن قضيت عدة أشهر في فندق بيروتي يطل على خليج جونية، فقد تركت الشام بعد ما بدأ كل ما فيها يطردني. كنت أخوض صراعاً غريبا حول بيت العائلة وبالأخص مقبرة بيت العائلة. التركة التي انتقلت بشكل مريب من ملكية مارلا إلى ملكية الدكتور خليل لم تجلب لي سوى الخراب، إنه بيتنا في حارة الزيتون، البيت الذي جذب خليل وأوقعه في حب مارلا ابنة عمه، حتى نهاية حياتها وحياته، قريبته التي عاش والدها معظم حياته مسافراً، أنجب ابنة وحيدة لطالما سمع عنها خليل ولم يرها لكنه عندما وصل الشام لم تفتح له المدينة أبواب دهشتها فقط، بل عمارتها ووجوه نسائها وبيتاً دمشقياً احتلته معشوقته.
البيت الذي طالما أعلنت مارلا أنه بمركزيته يمثل ذكورية مضاعفة، فهو بالنسبة لفلسفتها والسفسطة الهذرة للثقافة المستوردة، أشبه بسجن، صحيح أنه متسع ولا نهائي الجمال، لكنه بالنهاية سجن، ابتلع حيوات بأكملها، أجيال وأجيال مرت في خيالاته، في برده وحره، في وروده ودفقات المياه في بحراته الثلاث، سجن لا يقوى على هندسته غير الرجال، فعمارة المدينة لم تناسب ذوق مارلا أوروبي الصنع، فهي ليست عمارة متسيبة، سهلة ناعمة أو أنثوية، فبيوت الشام بيوت تفتح على داخلها، نوافذها كوى ضوء وشبابيكها مثقبة كي يراك من في الداخل دون أن تراه، نظرة الله تلك، هي نظرة صاحب المكان إلى غريب سيقتحمه، الشام المنهوبة للغزاة، فهمت معنى إخفاء الغنى والجمال ودفنهما في الأزقة المغمّة، في الانعطفات الملتوية للطرقات الضيقية، في حارات “السد” حيث الطريق يودي إلى اللاشيء، تصل فقط إلى الشهقة المفاجأة ، تصل جمال القصور المخبأة بعناية وراء مدخل بيت محشور الزوايا، مدخل للمؤمنين، كأنه جحيم تطهيري، يقودك بعد الاطمئنان على العفة إلى الجنة، حيث بإمكانك أن تحيا عمرك بأكمله دون أن تضطر لمغادرة ذاك البيت، فمن يغادر الجنة؟
…………………………………………
*مقطع من رواية “سقوط حر” للكاتبة السورية عبير إسبر، والصادرة عن دار نوفل، هاشيت أنطوان، 2019