ليدا منصور*
حالةُ إغماء، صداعٌ تنحدر جذوره منذ القدم حتى أسفل الرأس
اللغة كالأرض، تدور كُروية كُروية… لن تهدأ الحركة، أمّا السماء فدعها وشأنها، إنها تستريح
هنا أرسىَ المركب، هنا نجمع كل المفردات كي نركب البحر، أشباه بحّارة لا يملكون إلا موهبة وحيدة:
شنّ الحرب في أعماق المحيط
يلهثون خلف كنزٍ مدفون كمن يزهد كل الليل من أجل دفن جثة واحدة فقط.
البحر من أمامكم والعدو من وراءكم، لكم الخيار قال ذلك الأندلسيّ متناسياً بؤس ما يقول
يغمض عينيه عمّا خُفي بين السطور من كلامٍ مشحون بشرايين العصبيّة
وهذا هو الحال تحت سماء لبنان، صمتٌ ثابت دون أيّ تنازل
***
أمّا أنت أيها الطفل، أية قصة تريدني أن أروي؟
الطفل أخرس لكنه غير بريّ، البريّون هم في أعلى مرتبة إنسانية حيث الصدق لا متناهي
الطفل تعلّم لغة الصم والبكم، لا ينبس بصوتٍ ولا قانون
يمشي نحو الغرق كمن يدرك مسبقاً انه يغرق
الطفل لا يحتاج لمدرسة، لكتاب تاريخ ولا حتى لمُعلم
إنه ليس مولوداً، من ذا الذي يستطيع أن يصنفه بتلميذ! فهو يعرف كل شيء
الطفل سجين كما الحب والحليب، كما الثدي الغير ملموس، لم يُحِب ولم يُحَب
سجين كضوء القنابل تسقط أول لحظات المساء
هنا، تحت سماء لبنان كل شيء يبدو «أول لحظات»
أمّا بعد، لا بعيد يأتي ولا قريب يبقى
***
الطفل يحب الألعاب النارية، مدعواً ابدياً لحفلة دون بطاقة
باب السيرك مفتوحاً له، سيرك بلا حيوان يُروَّض، فلا ترى الشيء يلف حول حلقة النار
حيوان جديدٌ من نوعه: يلف حول أوراكنا التي تلف حول نفسها في نوبةٍ تجبرنا على الرقص رغماً عن القماش الملفوف حول رأسنا المُصدَّع
نخرج من المسرح، نلقي القيء الممزوج بكل الحيوانات الشاردة ذات الأذرع الممدودة
أما أذرعتنا فقد كُسِرت
أمسينا تحفة غير جاهزة للتصليح، نحن هذا الفن الذي لا يتحول كأن شيئاً ما يجهض في داخله
أصبح البطن كروياً كالقبة حتى ضاقت الرئتين
رئتين على بعضها البعض وليس جنباً إلى جنب: لا صداقة حيث الخطوة تتبع الخطوة فنتبادل نظرة جانبية هادئة، لا صداقة حيث تتماسك الأيدي دون التفكير بسحبها
«اسحبوا أياديكم!» يصرخ خلفنا أسدُ سيرك طفولتنا الفاشلة
***
لن يُعاد تنميق القمصان، لن يُعدّل مستوى قصر السراويل أم طولها
نسير بأنسجة مع ثقباتها كمن يزحف مختبئاً من فوهة القنبلة المتوقعة
وما نقدر فعله؟ إطالة البلوزات وبطانات التنانير كي نُكثِّف حسنا بالأناقة
حتى العري لا نملكه فهو فرصة ذهبية ضائعة
الحرب تجعلنا ثوباً عتيقاً يتم ترقيعه مؤبداً
فقدنا الإحساس بآخر صيحات الموضة، فأحدث مصمم لدينا رحل مع آخر صيحة لآخر مجزرة دبرناها
لا نحترم المواعيد، رغبنا بترويض أطفالنا بعد موتهم، بعد فوات الأوان
عندما أطلقنا طلقة الوداع لمحلاتنا الجميلة سألنا: ماذا تعني الأناقة؟
هل الشياكة تظاهر لسروالٍ من الجلد عالقاً بالجسد فيصبح جسد؟
الجسد المُجلّد جاهز للإرتداء، أين هي عروض الأزياء؟
إنها عروض البنادق وبعض التسجيلات: نسجل كي نتذكر ثم نرمي بالكاسيتات على وجه الآخر فإذا كانت حربنا قذرة «إنهم الآخرون»
***
في سماء لبنان الدبابة لها أجنحة، سفينة تحصد الأشباح، لاشيء تستطيع التقاطه لا بالعين المجرودة ولا العارية ولا حتى من غطت نفسها!
إغمض عينيك أيها الطفل فلا ترى الأسلحة الصامتة
أسلحتنا الغير مرئية تضرب بقوة. تثقب ثغراتها في قلب جدران المباني
دخل جزء من السفينة الى داخل الحديقة في ذلك المنزل المحترق
البيت الذهبي فقد حالة المجاز الجميلة، تشبيه واستعاره في نبض هذه الحرب التي تقتلع الأعين وتسيل الدموع
الكاميرا تعود الى الدار: صور بالأبيض والأسود، نحن لا نستحق الألوان
في ميناء صيدا المراكب تنقل الأموات كالماء
تمر السيارة من هنا، يلمح الطفل قارب الجنود، الجميع يؤكد الإشاعات «الأسماك مسمومة»
ماذا نفعل، أنتذوق زواحف المحيط؟ الأسطورة أسرع من البرق «سمك صيدا لا يُؤكل» فيرحل نحو مصيره، سمك صيدا لا يُخرِج اي طفل من فمه، عندما تجوع الأسماك فهي تأكل صغارها
لا تزال السيارة هنا وسوق السمك مغلق مرتين: مرة لشن الحرب ومرة ثانية لفعل كل شيء كي لا تنتهي الحرب
اليوم نأكل الأسماك، القوارب تأتي من اليونان وقبرص: ينقلون لنا كل ما يموت على ضفاف شواطئهم
نمررها من ضفة لأخرى، نبدأ في الساعة الخامسة بعد الظه، كل يوم لمدة أسبوع
ننقلكم إلى العالم الآخر حتى لو اضطررنا لرميكم في البحر
«تعلموا السباحة، جهزوا أدوات الغرق، فنحن غير مسؤولون، ارحلوا صامتين دون سؤال، خطوة نحو الأمام خلف الحطام، لا تخافوا فكل الأسلحة غير مرئية تسقط من السماء لكن لا نعرف كيف ومتى»
***
في أعماق لبنان حتى النصوص خاوية، رواياتنا مضللة، كلمات انيقة دون معنى
الجمال يذهلنا والمضمون أطرش، الصوت يسيطر علينا
مهرجان للزينة كصور الحرب المأخوذة من أعلى سطح لأعلى بناية من وراء شباكٍ أزرق
ربحنا الجائزة، أفضل مصور بارع التقط الرعب فأصبح أقوى من الرعب نفسه
الحرب مجرد حالة قابعة في زاوية المعارض إن كُتِبَ لتلك المعارض الحياة!
لم تعد الصورة تُنمِّل ذراعنا، النمل توارى في جحره أمّا عن جحرنا فهو ثقوب ضيقة كي لا يخبئ الطفل رأسه في التراب كجزرةٍ فاسدة تجهل أنها فاسدة!
هذا الجزر الفاسد نستخدمه لتلوين البشرة «فنحن أيضاً نحب الحياة»
والحرب؟ إنها بعيدة، في مكانٍ ما، أما هنا فنحن نسبح، اتركونا بسلام
هل سمعتم عن حب الشعب للحياة؟
حبٌ ممزوج بالعرق الاصيل بطعم العنب المزروع في سهول البقاع
وفي المدينة نسمع يوماً بعد يوم صدى الساطور الغريب المُقطِّع في الأنوف والشفاه والخدود
والمرأة تصبح امرأة ذاك أنها لم تكن قبل الجراحة
***
تحت سماء لبنان، يبدو العالم معكوساً الطفل لا يخرج من الرأس بل من ذراعٍ ملتوٍ ومن قدمٍ تَركُل ومن عضوٍ مُجلِّس للأخطاء
نحن ثقافة كرة السلة، نفوز بكأس العالم رغماً عنكم
نقذف حيواناتنا المنوية ستة مرات في اليوم!
حول المائدة اللبنانية الطفل ينمو كما يشاء «أطيب الطعام أمامك ولا تكبر! كل هذه المقبلات اللذيذة! كم من الخلق يحلم أن يتذوق هذا الشواء وأنت ايها الطفل اين عضلاتك؟ إذهب امام الجميع ودعهم يشاهدون سيارة السباق، آخر صرخة، صنع في ألمانيا! ألم تفهم أن ألمانيا بأكملها تصنع كل السيارات فقط لسواد عينيك؟ لا، لا، سيارة السباق ليست شبحاً، انها مثل حيواناتك المنوية حقيقية، لا شيء وهمي عندنا»
الخيال لم يتعدى ابداً على حياتنا فليذهب إلى الجحيم، فلتُحرق كل الروايات قبل أن يأتي أحداً ليلقننا درساً في الحياة
نحن من نحب الحياة رغم الحرب، نحن نغني دوماً لإسكات صوت القذيفة
أحياناً، لا نعرف ما العمل، كيف الخروج من المأزق لكننا ندرك اختراع المرح عندما يعج العالم بالشكوك وعندما تطول ليالي الشتاء
هذا البلد الصغير يصبح نرويج الشرق حيث النور لا يظهر!
«يا أيها الناقد المنتقد، هل عشت هنا بضع ليالٍ دون أشعة الشمس؟ كلاّ. إذاً، اصمتوا ولا تعلمونا أن نبقى عفويين: أنوفنا يُعاد جراحتها، صدورنا أيضاً، لكننا ننظر في المرآة فنرى البهاء، حتى لو التقينا بالفراغ أمام أعيننا فنحن نلمس نعمة الجمال. ماذا تقول؟ نعمة اصطناعية! ومن قال أن الجراحة التجميلية تخلق كائنات مصطنعة؟ إقترب والمس قليلاً الجبين، المس للحظة واحدة الأنف والثديين، والخدين إن أردت، اقترب، المس وبعدها قل لنا إن كنت تملك جسداً!»
***
في قلب هذا الجسد، كل شيء سلس وواثق الخطوة، فأنت لاتفهم شيئاً عن قوانين الجمال،
أنت لم تشهد اية حرب قادرة على تشويهك كمن يعيش وحشاً في هيئة إنسان،
وبعد هذا تقترب منّي لتهذي فوق أذني فتُردد انك تريد ابتكار العالم من جديد، تغيير معايير الجمال، صياغة اساليب جديدة للأناقة رغبةً منك بنشوة التبديل!
أتجهل أن الوحش لا يتحول وإن دفع كل ثروته لقطع جزء من أنفه فلن يرى أبعد من أنفه بعد اليوم!
اتُدرك ما هو بُعد النظر؟
أنا اعرف متى يَبعُد العالم ويختفي عندما لا يميز الإنسان بين العدو والصديق
أنا أرى يومياً ابعد نقطة في ذلك المخيم لمّا طلب الصديق من صاحبه اللاجئ بأن يرفع ذراعيه مستسلماً
الطلب ذريعة،
فسحق الصديق نديمه برصاصة لم تضع الهدف انكسر معها قلب الصداقة كاملاً
«لكنك صديقي يا كابتن»
فقد الكابتن سمعه، سقط الصديق تحت ظل خيمة المخيم
رفضت الأم المرور من تلك الطريق، تجتاز كل المخيم وتلف لفاً كما لفت حول عينيها ألف مرة كي تفهم سبب الدموع المنهارة: هل مات الولد؟ لا، قُتِل الولد.
تلك هي الحرب، سفرٌ إلى الجحيم نلتقي صدفةً بصديق ما ونرسله معنا إلى نفس الجحيم
فليمت أحدهم علّنا نستطيع الصعود ثانيةً، من قال أن الصديق وقت الضيق
***
تحت سماء لبنان، حالة الانتقام أقوى من كل شيء ووضح النهار يبدو مخفياً كالمحرمات حينما تدق ساعة سرقة المنازل «على عينك يا تاجر»
تُسرق مايوهات البحر في البيوت المحطمة أمام الكنيسة المهدمة حيث أُلقِيت دمية على الأرض
لم يُسرق المنزل مرة واحدة بل كل يوم حتى الثمالة: السرير، الخزائن، الملابس
إن كنت لا تملك شاحنة فما العمل؟
طال انتظار البيت، أصبح شاهداً بل مقهى نلتقي فيه، ذاك أن اللصوص كثر!
«ألم أقل لك أيها الطفل ان ترتدي المايوه؟ لا مجال للهروب، تلبسه أم تبقى في البيت عقاباً، مايوه الحرب يحرر من الخجل بل يُعلم السباحة!»
فلنسرق كي نتحرر في هذا الجنوب: حرية منطوية في زاوية على الرصيف حيث عثرنا على الدمية فسرقناها هي ايضاً. ماذا نفعل بها؟
نلعب حتى سحقها تحت الأقدام
نلعب حتى يسقط شعرها الأشقر
نلعب حتى يُمزَّق النسيج من جسدها البلاستيكي…
أما الآن فلنرميها… أين هي سلة المهملات؟ بل أين كيس الزبالة؟
***
في أيام الآحاد اللبنانية يلتهم الجنود فطائر الجبن والزعتر
بيتلعونها أمام آهات صدورنا الساكنة
نطعمهم كي يتركونا وشأننا
يأكلون كل هذا العجين المُعد في الصباح الباكر لهؤلاء الصغار
عندما يغيب الآباء، يأتي الجندي ليستلقي على سقف المنزل
يستريح والأطفال من خوفهم يركضون إلى بيت الجارة
يتجه الجندي نحوهم فيقدم الحلوى
«هم يقاتلونك لكنهم لطفاء! لا توجد ذئاب شريرة في حربنا، أنه يهديك الحلوى! أتعاني من ضعف النظر؟»
ذئب، حلوى، رئيس، وزير، مجرم … سواسية كأسنان المشط
***
شجرة الصنوبر اللبنانية تبعث بأطيب العطور
إستلقي تحت الصنوبر
تَبادل ما تريد من القبلات لكن لا تطلب ما أبعد من ذلك
الزواج!!!
هل أصبت بالهذيان؟ شيعة، سنة، دروز و أبناء المسيح؟
عند غروب الشمس، عندما يغدو الصنوبر ظلاماً فليرجع كلٌ إلى داره في حال سبيله
لا خلط للخلايا هنا، لدينا ما يكفي من المونغول!
بالحق، نحن نتخلص من منغولينا فنلقيهم في الشوارع تماماً كما الكلاب
نشرب بشوق، نشتعل رقصاً، نميل يميناً ويساراً قبل أن نخبط على الأرض، خُطانا تتحلى بغرورٍ لا يتكلم سوى لغة الضاد
غرورٌ متناقض كونه ينسى أنه مغرور فواثق الخطوة لدينا يمشي ملكاً
***
الطفل لا يذكر شيئاً
الذاكرة خطيئة
نُحَوِّل المقاهي الى محلات ملابس، أنيقة بلا شك
جَمِّعوا ذكرياتكم وضعوها في متاحفكم الخاضعة للأبدية، نحن بالكاد نستطيع الحفاظ على الأطلال التي توقفنا عن البكاء أمامها
من يحفظ تاريخه بصماً عن ظهر قلب فلا عتاب عليه إن استيقظ يوما غائباً عن الوعي
«كفى،
كفى عتاب
نريد أن ننام ليلة واحدة هانئة تحت سماء لبنان
كفى، كان لنا من العمر ستة عشره عاما، كنا نحلم بعيش حياة هادئة داخل المنزل
لم نكن نعرف من الخارج سوى شراء البيتزا اللذيذة
كنا فقط نريد أن يسلم ذهننا، أن تسلم عقولنا، أن نتحرر من الحرب،
من ذلك المجتمع الذي كان يعاني
لم نكن نعرف مم يعاني
شيءٌ ما كان يهمس لنا أننا جميعاً نعاني …
اليوم، الكل يكتب فينا القصص: لبنان في النهار، لبنان في الليل كأنكم في ألف ليلة وليلة
أنتم لم تجربوا نهاراً واحداً تحت القصف
من لديه اعتراض فليفتح فمه وإلا فليصمت إلى الأبد»
***
حان وقت ركوب البحر، نحن لا نسافر سوى ليلاً، سندريللا لواقعنا المشوه
شجرة أرز؟ لا، ظلال السرو في مقبرة الحيّ
احزم حقيبتك، اترك مفاتيحك، البحر لا يبتلع سوى قطع اللحم، الباقي مجرد باقي …
على حافة الميناء، نتقدم ببطء، دون ضجيج، نتوجه إلى البحر نصف عراة
أكلنا وشبعنا ثم قطعنا ألسنتنا: إنه الشرط الوحيد للإبحار
لامكان لغناء البحارة، الصراخ محظور
ندير ظهورنا للجميع، ما عساعم يثرثرون؟ بماذا يهمسون؟
«عندما تنظر إليهم، ترى الجزع في أرواحهم، تبحث عن الحياة في قلوبهم. عبث
إرحل بعيداً، انقذ نفسك من برودهم: يغرقون في المياه المتوحشة
تتوه أرواحهم
لا يقدموا لك إلا الفراغ هدية
طاقة عمياء، وَقَّعوا ذلك العقد، ذلك القرار فركبوا السفينة »
***
سندخل إلى بطن المحيط، على استعداد لقذف غضبنا في حطام السفينة كي نقول لها أكثر من مليون مرة كم أننا لا نخشاها
يا بحر الجنوب، تستطيع أن تبصق علينا كل أخطارك فلن نستسلم ولن نغطس خارج الخشب الذي
بأيادينا بنيناه
• كل السفن جاهزة؟
• نعم ايها القبطان
البحر هائج والكل حاضر
ها نحن نركب البحر
حقاً
فعلاً
إنه المحيط، نراه من بعيد، يا لهول المعركة، طوبى لمن ملك الكون فأبحرَ!
أيها الخوف… اركب معنا
…………………….
*كاتبة وباحثة من فرنسا