كرم الصباغ
حارات الموقف الواسعة تودع سيارات، وتستقبل أخرى وصلت للتو من أسفارها. الصخب يرج المكان، الأبواق زاعقة، والمنادون يهتفون بأسماء المدن والبلاد. تسمع من حين إلى آخر ألفاظ نابية تنفلت من حناجر السائقين، والنساء، والبنات العابرات يسرعن في سيرهن دون التفات. يلقى المارة حقائبهم الثقيلة على الأسفلت، ويلتمسون شرب المياه الغازية المثلجة من الأكشاك الخشبية المتخمة بالبضائع والحلويات. حر يوليو نار موقدة يتحاشاها الناس؛ فيستظلون بمظلات الصاج، حيث تصطف السيارات الرابضة في صفوف متجاورة.
يستل سائق قضيبا حديديا من سيارته، سيكون سلاحه في الشجار الذي لاحت نيرانه في الأفق. أنف السائق يطلق أصواتا منكرة، ولا يتورع لسانه عن كيل السباب؛ فيجيبه خصمه بأبشع مما فعل، وقال، ويرفع كل منهما قضيبه الحديدي، ويهم بضرب صاحبه، لولا تدخل زملاؤهما الذين غادروا سياراتهم، واندفعوا لصنع حاجز بينهما، بينما تجمهر المارة، واكتفوا بالمشاهدة دون تدخل لفض تلك المعركة الحامية، التي عادة ما تنشب بسبب الخلاف على أحقية الدور. ربما كان الخاسر الأكبر هو بائع العرقسوس، الذي لم ينتبه أحد إلى رنين صاجاته، والذي راحت نداءاته على الشفاء والخمير سدى. يطلق البائع زفرة طويلة، ويرمق إبريقه الفضي الممتلئ عن آخره، ويهز رأسه بأسى، ويقرر الابتعاد عن تلك النقطة الملتهبة، ويمضى في طريقه إلى مكان آخر؛ لعل من فيه يقبلون على شرابه البارد؛ فاليوم قائظ، والشمس في السماء نمر شرس، يلتهم الرءوس والأبدان.
(٢)
تنشق الأرض، فجأة، وتظهر (سماح)، تحمل بين يديها صينية الشاي. وما إن تشق الزحام، حتى ينصرف السائقون عن الفصل بين المتشاحنين، وحتى يزهد المارة عن مشاهدة الشجار؛ فيلتفت الجميع إلى تلك الغزالة المتريثة، التي سارت بدلال، واهتز جسدها بإيقاع منتظم، وعزفت مفاتنها موسيقى صاخبة تسمع، وترى.
توهم البعض أن حضور سماح مرهم، لطف حرقة الشجار، ولكن سرعان ما خاب ظنهم؛ إذ جذب ثوبها الفسفوري، وتضاريسها المرتجة الأعين، بينما انهمكت سماح في جمع أكواب الشاي الفارغة غير آبهة بما اشعلته من حروق، وحرائق في العروق، والأبدان، والصدور.
تخرج الفتاة ورقة الحساب التي دستها بعناية بين نهديها، تمر لحظات من المماطلة. تتجرد من ثوب أنوثتها مؤقتا، تعمد إلى وجه خشبي خشن، ولغة أشد خشونة، تحصل على حقها كاملا، وتعود سريعا إلى منافسة حر (يوليو) في نفخ ألسنة اللهب.
( ٣)
حل الليل، وجثم الظلام على الشوارع الجانبية المحيطة بموقف السيارات. جمعت سماح أشياءها، وشدت الجنازير، وأحكمت إغلاق الأقفال على نصبة الشاي. شعرت بأن الوقت قد حان؛ فارتجف جسدها بشدة، وشعرت بالتوتر والارتباك. كان السائق ينتظر على أحر من الجمر داخل سيارته، التي أوقفها في الشارع المعتم المجاور للموقف. اتجهت الفتاة إلى بوابة المرور بخطوات مرتعشة؛ تذكرت أول يوم وقفت فيه خلف نصبة الشاي، التي ورثتها عن أبيها. كانت لم تتجاوز العشرين بعد، راعها في البداية طمع السائقين، وسماجة المسافرين، ونباح الأرصفة. تركها أبوها بلا أخ أو أخت، كانت أمها مريضة غير قادرة على العمل؛ فكان لزاما عليها أن تخرج من البيت، وأن تكسب لقمة عيشها وسط هذا السعير. مرت عشر سنوات، أجادت خلالها القفز عبر حلقات النار دون أن تحترق. ربما ترخصت في الكلام، ربما أسرفت في إطلاق ضحكاتها الرنانة، ربما سكبت الزيت على النار، لكنها لم تفرط بتاتا في شمعها المختوم، ولم تسمح لأي منهم بمس جسدها الذي أضنته مرارة العنوسة، وألم الانتظار.
أطلت جارتها البدينة من الشباك، وجعلتها فرجة لجميع سكان الشارع، فبعد أن صارح ابن الجيران أمه برغبته في خطبة بائعة الشاي، قررت الجارة أن تعلن عن رأيها بطريقتها الخاصة، وبعد فاصل من الإهانات، طلبت إليها أن تبتعد عن طريق ابنها، وأن تصطاد سائقا ممن أحاطوا بها صباح مساء.
لم تكن سماح تعلم من قبل أن سمعة الفتاة أوهن من خيوط العنكبوت؛ أصغى سكان الشارع إلى الجارة؛ فوصموا الفتاة بما لم تفعله قط. ربما راقت في أعين الكثير، ولكن أحدا منهم لم يقدم على خطبتها على أية حال. واليوم جاوزت الثلاثين من عمرها، اليوم ضاقت ذرعا بوصية أمها، وقررت الرضوخ لغواية هذا السائق المتحرق شوقا إلى قطف ثمرتها الفائرة، ذلك السائق الذي رآها قطعة حلوى شهية أراد قضمها، والتلذذ بعسالتها كما فعل بأخريات مثلها من قبل، عادة ما يتباهى وسط زملائه بذكر أسمائهن، ووصف مفاتن أجسادهن، وما حملته من علامات مميزة، اطلع عليها حينما تعرين أمامه. اليوم ضاقت ذرعا بعنوستها، ولم تطق مزيدا من آلام الانتظار، اليوم عشش الضعف في قلبها؛ فقررت كسر شمعها المختوم لأول مرة في عمرها.
( ٤)
ربما خرجت سماح من البوابة بقدمين مرتجفتين، وسعار محموم، وبمجرد وصولها إلى السيارة انطلق السائق في الشارع المعتم فارا بفريسته الثمينة. وربما انقبض قلب أمها، فجأة؛ فاعتدلت في فراشها، وأرسلت طائرا، ظل يلطم وجه ابنتها بجناحيه، حتى استفاقت من سكرتها؛ فمضت إلى الشوارع المضيئة، وبعد أن عبرت الميادين والحارات الضيقة دخلت بيتها، وشمعها المختوم ظل سالما، لم ينهشه صياد الغزالان، بينما قررت سماح أن تكابد مزيدا من آلام الانتظار، ريثما يطرق بابها حبيب حان؛ ليستل ما بصدرها من مرارة، وجع، وليروي ما بجسدها من ظمأ. وربما دهست سيارة مسرعة سماح بمجرد خروجها من البوابة؛ فأغرقتها الدماء، وغابت عن الوعي في نوم يشبه الموت، أو موت يشبه النوم. ماذا حدث لبائعة الشاي؟! في الحقيقة، لم أتبين بعد.