حاوره: أحمد العكيدي
س- بداية ماذا يمثل فعل الكتابة بالنسبة إليك؟
ج– يمثل ما أكتبه بالنسبة إلي،رافدا ثانيا؛كي أدرك العالم وأستوعبه ثم أعيشه على ضوء ذلك.بمعنى،أسعى باستمرار؛كي أجعل من هويتي الفكرية مرجعية حياتية في ذات الآن،فلا انفصام ولاتفاوت ولاتباين بين الفكري والشخصي.إنها،الوضعية الأصيلة والمبدئية، لكل من التجأ إلى مضمار الكتابة ووجد نفسه،ضمن سياقاتها؛الصعبة والفسيحة جدا.حاولت باستمرار،اختبار أفكاري على محك الواقع،بالكيفية التي تبدو لي تعبيرا عن انسجام تام؛ دون مرايا مهشمة،بيني وبين أفكاري،وقد كانت لي مجازفات بالتأكيد؛ من ثمة تقويض كل أنواع وأنماط تلك الازدواجية السيكوباتية،التي تسقط الشخص تحت وطأة براثنها المرضية،إذا حاول اعتبار الكتابة؛مجرد نشاط هامشي يمارس من باب الترويح على النفوس المتعبة كلما دعت الضرورة إلى ذلك.بالتالي،هي مجرد تفاصيل حياة توضع جانبا في قاعة الانتظار،تؤخذ أو تترك؛ تبعا لدواعي ظرفية،في إطار رغبات من يريد أن يكتب،ولاعلاقة لتلك المنظومة،بوقائع الحياة الشخصية لصاحبها.بناء عليه؛أحاول كل يوم،التمرس بكيفية صوفية على أن أصبح عين ما أكتبه، بتلك الشفافية المطلقة المفترض توفرها لدى من يسمح لنفسه،بخط علامات يود تقاسمها مع آخر مفترض.حتما،العملية ليست سهلة المنال؛ ولا الاختبار بوسعه بلورة نتائج إيجابية بالمفهوم المطلق للكلمة،بل السعي يتقلص أو يتمدد؛قد يكون شحيحا أو سخيا،حسب مستويات علاقتك بالكتابة،ثم الحمولة المعرفية والمفهومية و الإيتيقية لما تتوخى تحويله إلى كتابة.إجمالا، أنا من المعتقدين صدقا،بضرورة أن يكون الكاتب صاحب هوية واحدة، يلتئم في إطارها الشخصي والكتابة، دون تمزق وجداني أو وعي شقي،ثم من جهة ثانية،يلزمها أن تظل هوية منفتحة ومتعددة،حتى لاتسقط في الجمود والشلل ثم العقم والموت.
س-يلاحظ المتتبع لمسيرتك الأكاديمية،اهتمامك الكبير بأعمال الفيلسوف غاستون باشلار، ما سر هذا الاهتمام؟
ج-اهتمام يتأتى أساسا،من طبيعة جوابي عن سؤالكم بخصوص مفهومي للكتابة؛التي تبقى حسب تقديري الشخصي،مشروعا حياتيا لصاحبها،فلايمكن لعملية من هذا القبيل؛ الديمومة دون عنصر الشغف، وجلّ ماينطوي عليه من معاني الولع والحب والاستئناس إلخ.بدأت علاقتي بكتابات باشلار الشعرية،رسمية في البداية متكلفة،محترسة ومتحفظة،تحت دافع”إداري”؛يقنن زمانيا ومنهجيا المجال المسموح به لإنجاز بحث للدكتوراه في موضوع يهم النقد الحديث أواسط سنوات التسعينات؛في كلية الآداب بمراكش،حول موضوع العناصر الكونية الأربعة(الماء، الأرض، النار، الهواء)،وأبعادها البلاغية والشعرية،غير أن الأمر أخذ بعدا أكثر عمقا وترسخا؛مع مرور الأيام،وقررت أن أجعل من فكر باشلار،على مستوى هذا الجانب أساسا،مجالا لأبحاث وترجمات وكتابات؛وهذا ما أحاوله قدر ما أستطيع.لازال الطريق بعيدا،فلم أنجز سوى القليل جدا؛مجرد مقدمات وعتبات،أقولها صدقا وليس رياء،لأن مشروع الانتقال بباشلار في شقه الأدبي إلى اللغة العربية،ينتظره الكثير.ترجمة وتأليفا.
س- في فلسفة غاستون باشلار،كيف يمكنك تبسيط هذه الفلسفة للقارئ غير المتخصص،خصوصا فلسفته الجمالية وأفكاره حول القصيدة والعلم؟
ج-عرف باشلار لدينا أكثر،ضمن الوسط الفكري والثقافي،من خلال مفاهيمه الابستمولوجية المنصبة على قراءة تاريخ العلم؛ وتأسيس فلسفة منفتحة تستجيب لتطورات العلوم،بالتالي تجنب كل نزوع لخلق هوة عميقة بين العلم والفلسفة.أيضا،اختزلت معرفتنا أكثر بخصوص باشلار عند مفهوميه،القطيعة والعائق،اللذين اكتسبا شهرتهما الواسعة،مع توظيفها إجرائيا من طرف الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه نحن والتراث، بداية سنوات الثمانينات،ثم فيما بعد كتابات الأستاذ محمد وقيدي.وبقي جانب ثان من فكر باشلار،غير مطروق؛ إلا فيما نذر،مع أنه يقف عند ذات زخم مستوى الرافد الأول،بل باشلار نفسه أكد في مواقع عدة،عن المعاني التي توضح بأن الذكاء والجمال أو بلغة مباشرة الرياضيات والشعر،يتكلمان نفس اللغة عبر إشارات متباينة،لكن مصدرهما يبقى واحدا؛يتمثل في الخيال الإنساني. لقد تأسس المشروع الباشلاري،على رافدين أساسيين: العلم والقصيدة. ومن أجل فهم حقيقي لتصور باشلار، يجدر في حقيقة الأمر الربط داخل سياق واحد بين صياغة العالم بمقولة المفهوم (العلم)، وكذا تمثل الذات الإنسانية للأشياء،والمكونات الكوسمولوجية بنوع من الحُلُمية الشاعرية.انطلاقا بطبيعة الحال،من الألفة والحميمة،ثم خاصة الدهشة التي تؤسس علاقة هذه الذات بالهنا والهناك.لاشك أن نظرية الخيال، تجسد اللحظة المفهومية التي بإمكانها إعطاء وحدة لنظرية باشلار،سواء في مقاربتها لنصوص الكيميائيين والفيزيائيين،أو حينما تستلهم المناخ الحلُمي لنصوص شعرية كبيرة كتلك التي نسجها: لوتريامون/ شيلي/ رامبو/ نوڤاليس/ بودلير/ إدغار آلان بو/ نيتشه/ هيغو/ بروتون/ أراغون/ غيوم…. باشلار، دائما نفسه . فإذا كانت المادة الفيزيائية، تعطي إمكانية الكشف عن الماهيات الممكنة للوجود، فالمادة اللغوية الإبداعية،تضع الكائن الحالم داخل أفق فكري؛وجمالي دائمي الانسياب.باشلار،حينما يؤسس لمبحث جديد للخيال، يسعى للبحث في الحقول والنظريات المعرفية التي تقدم له مجالا مفهوميا يعطي لنظريته صياغة متكاملة.تميز باشلار،بخصلته الموسوعية الكبيرة؛وقدرة على ولوج فضاءات معرفية متعددة، توزعت بين حقول مختلفة. مسألة تأتت له، من عقلانيته الحالمة والمنفتحة ثم شغفه اليومي بالقراءة والدأب عليها.
س- تعتبر الترجمة من أهم وسائل التواصل الثقافي والانفتاح على الإنتاج المعرفي الإنساني لكنها لاتخلو من صعوبة وخطورة أيضا،كمترجم كيف تستطيع تجنب الإضرار بالنص الأصلي،خصوصا النصوص الأدبية التي تتميز بأساليب فنية وجمالية تختلف باختلاف كتابها؟
ج-مثلما أجبت سابقا في مناسبة أخرى،غير هذه؛فأنا لاأقرأ ولاأكتب ولا أترجم سوى ما يستهويني، لا أراعي بهذا الخصوص، سلطة أخرى سوى لذة النص، بالتماهي مع ذاتي، وعشق ما أفعله، ولايهمني في هذا الإطار شيئا ثانيا، وأظن بأن هذا الوازع يعتبر مقوما أساسيا بخصوص خلق جسور الألفة والاستئناس والود؛مع النص المتوخى ترجمته،وتفادي الصعوبة والخطورة،المشار إليهما بين طيات السؤال. بدون هذا المعطى النفسي الأساسي،يصعب تماما التحلي بخصلة الإصغاء الودود واليقظ لتضاريس،خطاب ما؛كيفما جاءت بنيته اللسانية والتركيبية والدلالية.طبعا،تختلف مستويات النصوص وكيفيات مقاربتها.لاشك في ذلك،ولاتكون دائما المهمة ميسرة؛ في المتناول من الوهلة الأولى،بل تأتي لحظات تشعر فعلا بالعجز تماما؛أمام معنى أو جملة بل وأحيانا كلمة،لاسيما إذا كانت لغة الكاتب صعبة تنهض على مرجعية غير تقليدية،وقد استفاض في الاشتقاقات والمجازات والتضمينات،وإثراء نصه بصور تنهل من روافد معرفية. لذلك، قيل بأن الترجمة الجيدة،هي تلك الزاخرة؛ بالهوامش والحواشي والتعريفات والاستطرادات وفتح الأقواس ووضع الجمل الاعتراضية،إلخ.تقنيات،تتوخى تقريب النص بشتى الوسائل الممكنة.أيضا،الترجمة التي يشتغل عليها المترجم مع صاحب النص،بحيث يعود إليه باستمرار حتى لا يجنح بالمعنى المقصود أصلا، نحو وجهات غير مقصودة.أخيرا،هناك صنف آخر من الكتَّاب،يرفض رفضا باتا تفويض نصوصه إلى شخص آخر،ويحرص أيَّما حرص على ترجمتها بنفسه.
س-في نظرك،ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف العربي في خضم التحولات العميقة التي يشهدها العالم عموما والوطن العربي خصوصا؟
ج- إنه سؤال الحلقة اللولبية،المتشعب؛الذي بقدر مايبدو كلاسيكيا عتيقا جدا،في غاية البداهة،وأحيانا عبثيا بلا جدوى لاسيما إبان لحظات الانحدار المحبطة،حينما تتأكد للعيان سلبية المثقف،أقول حينما تلغى جدواه كما الشأن في راهننا بحيث لاسلطة رمزية تذكر ضمن سياق الشأن العام،بما أن الاختيارات الحاسمة للاختيارت المجتمعية تدار بعيدا جدا جدا، داخل دهاليز منغلقة،غير آبهة بتاتا بتلك المشاريع الفكرية التي يشتغل عليها المثقف،تحت دعاوي ديماغوجية. من قبيل،أن المثقف كائن خرافي، يعيش في برج متوسدا نظرياته، ولايدرك فعليا متواليات الواقع التي تقتضي برامج إجرائية مستعجلة،وهذا من شأن المتخصصين التقنوقراطيين أو البيروقراطيين،بينما يجدر بقاء المثقف المنتج للمعرفة،القادر على نحت المفاهيم التي تشرح سياقات الواقع حسب تقلباته المختلفة،في قلب نواة التفكير المجتمعي.عموما،سواء تحقق هذا الشرط الموضوعي أم لم يتحقق !وبغض النظر عن ذلك،تستمر بدون توقف،معركة المثقف مع ذاته،أولا وأخيرا،في بقائه شفافا مع اختياراته،منسجما مع اختياراته،دؤوبا على احترام ضميره،وبلغة أخرى حسه الإنساني الذي ينزع نحو البشرية قاطبة.
س-كباحث ماموقع البحث العلمي في بناء مغرب الغد وما أبرز معيقات تطوره؟
ج-لاحاجة للتذكير أيضا، ببداهة أن المنظومات الإنسانية التي تخلت عن البحث العلمي لصالح غيره، لن تجد لها موقعا مناسبا ضمن مسارات التاريخ حاليا ومستقبلا،وستجر لأجيال طويلة الأعباء الثقيلة، لتلك التراكمات البنيوية العويصة والمتداخلة جدا،التي راكمتها كل سنوات الابتعاد عن مرجعيات العلم وإقصاء زخم الذكاء والجمال،لصالح مختلف أنماط التوتاليتارية والتنميط والدوغماطيقية،ثم شتى الأعطاب المفصلية الناجمة عن ذلك.ولعل مافعلته جائحة كورونا بالبشرية،تلك الصدمة المدوية غير القابلة للاستيعاب غاية اللحظة، رغم مرور أكثر من ست أشهر تقريبا،أكد بكل اللغات أن خلاص الجميع يتمثل في التمكن العلمي بحيثياته الجلية والضمنية،وبأن محركات البحث والتفكير والتدبير العقلاني،بناء على مشاريع مجتمعية؛تستلهم يوميا قيم التحديث وبناء الإنسان.أتمنى انخراط مجتمعنا المغربي، بالجدية المطلوبة،إلى ممكنات هذا الأفق.
س- كلمة أخيرة؟
ج-أولا، شكرا لكم على هذه المبادرة الطيبة.ثانيا،أتمنى حقيقة أن يجد العالم قاطبة،بعد جائحة كورونا،وضعا أفضل بكثير،و طريقا مختلفا جذريا عن عالم ماقبل الوباء.