فتحي أبو رفيعة
في البدء، كانت رواية «أول النهار» (2005)، ذلك العمل المؤسِّس الذي أرسى فيه سعد القرش القواعد لثلاثية باهرة مزجت التاريخي بالاجتماعي والأسطوري من قلب قرية متخيلة في بر مصر إبان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أسست «أول النهار» لتاريخ أسرة «آل عمران» سيد قرية أوزير، وهو تاريخ أشبه بتاريخ الأسر الكبرى في التراجيديات الإغريقية بما يحفل به من مآس ونبوءات فاجعة اتخذت، في حالة أوزير، شكل الأوبئة والمجاعات والفيضانات التي أتت على قرى بكاملها في ظل أجواء التخلف والفقر والجهل والمرض تحت حكم الولاة والسلاطين. سيتابع القارئ هذا التاريخ في الجزء الثاني من هذه الثلاثية الذي حمل اسم «ليل أوزير» (2008)، وهو العمل الذي صور فيه المؤلف بؤس قرية أوزير وتفشي الفساد فيها على مدى أربعين عاما من سوء الحكام وبطاناتهم الفاسدة (على نحو لا يدع أي مجال للشك في أن المؤلف اتخذ من أوزير معادلاً موضوعياً لما جرى في البلاد في عقود حديثة من إساءة استعمال للسلطة ومن سلب ونهب لثرواتها وفساد أولي الأمر فيها).
في الجزء الثالث والأخير مما يمكن أن نطلق عليه ثلاثية أوزير (على غرار ثلاثية القاهرة، كما أطلق على الطبعة الإنجليزية من ثلاثية نجيب محفوظ)، في هذا الجزء الأخير الذي يحمل عنوان «وشم وحيد» (2011)، ركز سعد القرش على الرعيل الأخير من ذرية آل عمران ممثلا في وحيد بن يحيى بن عمران في رحلة عذاب مضنية سوف يتبين القارئ أن المؤلف قصد بها أن تكون سجلا لرحلة العذاب التي خاضها وحيد المصري بحثا عن الخلاص من الذل والمهانة ووصولا إلى استرداده لحريته وهويته بعد طول عذاب (وهو أيضاً ما يمكن لنا، عن يقين، وانطلاقاً من إيماننا القوي بالفكر الثوري للمؤلف (الشاب) الذي ربما سيكشف لنا عن جوانب منه في كتاب يعده الآن تحت عنوان «الثورة الآن: يوميات ميدان التحرير»، أن نسقطه على ثورة الخامس والعشرين من يناير التي يصدِّر المؤلف عمله بإهداء خاص إلى شهدائها).
تفتتح «وشم وحيد» بأحد المشاهد المكرسة في الذاكرة الجمعية المصرية والتي تحيل إلى عصور السخرة والهوان والاستبداد: مشهد يحيى، أبو وحيد، وهو يلقى حتفه من الجهد والعطش أثناء حفر قناة السويس. وحينما يعصي وحيد أمر المشرف بالتخلص من الجثة، تنشب بينهما مشادة تسفر عن مقتل المشرف وفرار وحيد حاملا جثة أبيه آملاً في العودة به إلى أوزير، لكن هذا المشهد لم يكن سوى بداية أوديسا طويلة عقد فيها وحيد العزم على الانتقام لمقتل أبيه، وليكن ذلك بالتخطيط لاغتيال الباشا حاكم البلاد. يتعرف وحيد على أحد الشيوخ في منطقة حفر القناة، حيث يتولى الشيخ دفن أبي وحيد بينما وحيد نفسه في غيبوبة استمرت بعض الوقت، وحينما يفيق من غيبوبته، ينصحه الشيخ بالتوجه إلى مصر المحروسة (القاهرة) هروبا من عيون العسس، وبحثا عن عمه إدريس وعمته عائشة اللذين كان أبوه قد أخبره بأنهما تركا أوزير إلى مصر بعد أن أتى عليها الحريق (أي أوزير). وقبل أن يعود وحيد إلى القاهرة، يقوم بمساعدة الشيخ بمحاولة فاشلة لاغتيال «أفندينا» أثناء حضوره حفلا لافتتاح القناة، فقد طاشت الطلقة الوحيدة من بندقية وحيد، وأعلن أحد رعاة الحفل أن الطلقة التي فاجأت الحضور هي جزء من الاحتفال. وسوف يصل وحيد إلى مصر المحروسة ويتلمس جميع السبل كي يحقق هدفه في الانتقام لروح أبيه والاقتراب من سراي الباشا أو أماكن تواجده.
في ختام الرواية تسنح فرصة مناسبة، حيث يقام في حديقة الأزبكية حفل موسيقي يحضره الباشا، ويتمكن وحيد من إطلاق رصاصتين على موكب الباشا (انظر المقتطف)، لكنه يغيب عن المشهد بعد ذلك قرابة أربعين عاما (ربما قضاها وحيد سجينا أو هاربا أو تائها). كل ما نعلمه في ختام الرواية أنه يعود إلى بيته القديم حيث زوجته هند التي كانت الصدفة قد دفعت بها إلى طريقه وهو على مشارف المحروسة، وصارت هند له سندا وعونا في البحث عن عمه وعمته (اللذين لم يعثر عليهما أبداً على أي حال). وشكلت مغامرات هند ووحيد وقصة عشقهما الجارف صفحات غنية بالسرد البليغ والآسر الممزوج بلمحات من تاريخ مصر الاجتماعي القديم في إطار الرحلة المضنية التي قام بها وحيد بها بحثا عن جذوره وإصراراً على الانتقام لروح أبيه التي أزهقت أمام عينيه.
تتصدر «وشم وحيد» عبارة تقول: قال ابن بطوطة حين زار مصر: «يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور». ولعل هذا المقتطف يلقي الضوء على الشكل والمضمون اللذين سار المؤلف على هديهما في سرد أحداث الرواية، فاصطبغ سردها ببصمة شيخ الرحالة المسلمين بما اشتهر به كأشدهم عناية بذكر أحوالهم (ومعاناتهم) الاجتماعية. وتجدر في هذا المقام الإشارة إلى أن من بين مؤلفات سعد القرش كتاب في أدب الرحلات بعنوان «سبع سماوات» والذي فاز في العام 2008/2009 بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة.
على أنه يمكن القول، عموماً، إن «ثلاثية أوزير» هي مأساة إغريقية مصرية بنكهة ألف ليلة وليلة، حيث حفلت بما حفل به ذلك العمل التليد من حكايات آسرة وسرد جميل عن بني البشر في سعيهم الدائب سواء نحو المجد والسلطان أو المغامرة والعشق بما انطوت عليه تلك الحكايات من مؤامرات وخطوب وحيل حيرت وأسرت ألباب البشر وجعلت من ألف ليلة وليلة عملاً خالداً على مر الزمن.
يكرس المؤلف في شخصية «وحيد» شخصية المصري البسيط بخصاله الأساسية التي عرف بها من طيبة وعزة بالنفس وتديُّن في اعتدال، وهذه الخصلة الأخيرة بالذات يركز عليها المؤلف في مواقف كثيرة يتعرض لها وحيد في أزماته المتتالية، فها نحن نراه يتساءل في أحد هذه المواقف: «كيف تنقبض رحمة الله التي وسعت كل شيء، فتصبح أضيق من حفرة؟ وكيف يرضى أن يترك الضعفاء يتجرعون الهوان؟ حتى لو كان النعيم مثواهم في جنة عرضها موتى لم يصل عليهم أحد، فاضت أرواحهم، وهم ينظرون إلى السقاء على بعد خطوة، ينتظرون شربة ماء. عبروا عطاشى إلى جنة لا يريدون إلا أن تكون خالية من الظمأ وحفر القنوات وضرب السياط». وفي مكان آخر، في زيارة إلى مسجد الحسين، «كاد يقسم ألا يصلي، ولا يدخل الجامع. واستقبل الباب، ورأسه معلق بالمئذنة وفوقه سماء الله، كان معاتبا لا يفارقه طعم المرارة: «كيف تعذبني وأنت قادر على أن تقول للشيء: كن فيكون؟ لا أطلب معجزة، لم لا يكون عمي أحد هؤلاء الخارجين من صلاة الظهر، ويراني فيعرف أنني ابن أخيه؟ أكلما اقتربت من هذا المكان باعدت بيني وبينه؟».
وفي مشهد آخر من مشاهد يأس وحيد ومناجاته لربه «أي ذنب ارتكبه أي من أهلي تريدني أن أكفر عنه؟ لو أحصينا ما ظننتني قد نسيته سيكون لي حق، سترجح كفتي. الجد عامر مات في حريق أوزير، والعم إدريس والعمة عائشة وأولادهما تقرفوا في البلاد، وأبي يحيى لم يعصك يوما، ولا غفل عن ذكرك، ورحل غريبا، ولا أعرف متى أرجع إليه، وأنقل رفاته إلى أوزير، لتستريح روحه. أكلما منحتني قبسا من رحمتك، توهتني مرة أخرى؟».
هي مشاهد من دفتر أحوال وحيد (المصري) في رحلة تجسد مسيرة سائر المصريين العاديين في تاريخهم الحافل بانتصاراته وانكساراته، لكنه لا يخلو من مشاهد العزة والكرامة والحرية وعدم السكوت على الضيم. في المشهد الأخير من «وشم وحيد» يعود البطل من «تيه» دام أكثر من أربعين عاما: «تعبت يا هند»، كانت آهته الموجعة إليها وهو يحتضن خديها ودموعه تسقط على كفيها. لكنها لم تكن عودة خالية من البشرى. فقد أنهت إليه أن ابنهما هاشم «رحل عنا من يومين. قال إنه شافك في الحلم.. في أوزير». وكأني بالمؤلف (الذي انتهى من كتابة روايته كما يظهر من التاريخ المسجل في آخر النص يوم 8 كانون الثاني/ يناير 2011، قبل أيام من ثورة الخامس والعشرين من يناير)، كأني به يهتف طربا مع ثوار التحرير: عادت أوزير، عادت مصر؛ عاشت أوزير، عاشت مصر.
مقتطف من «وشم وحيد»:
ـ يا رب، يا رب.
ظنوه مجذوبا يدعو للباشا. لم يتبين وجهه كثيرون، بعد إطلاق رصاصتين، إذ رأى شيئا يطير فوق مستوى الرؤوس، طربوش الباشا، أو طربوش أحد مساعديه، أو عمامة سقطت، حين أطل صاحبها ليرى. لم ير شيئا، ولا أحس بشيء، إلا ارتطام كعب بندقية، أو قطعة حجارة بمؤخرة رأسه، ولعله غشي عليه فسقط من فوق الصخرة، وغمرت الدماء رأسه ورقبته، وصار خفيفا. شملته المسرة، وغاب عن الذين يضربون يديه، ويسحقون الذراعين فيستطيلان، ويصيران جناحين يسمو بهما، وينظر إلى أسفل ويبتسم، ويلجأ إلى رفاق القناة، ويستقبلونه مرحبين. قدموه إلى ملائكة حملوه على أجنحتهم، وغسلوه بماء السماء، ودثروه بالدفء، ثم رشوا ماء خفيفا على وجهه فأفاق. (الرواية، ص 178).
………….
(من ملف بمجلة “أدب ونقد”)