خيري عبد الجواد
يحق للرواية العربية أن تفخر بما حققته من إنجازات عبر مسيرتها القصيرة نسبيا، قياسا بنظيرتها الأوروبية التي احتاجت الى عدة قرون كي تحقق ما وصلت إليه الآن. هناك عدة نماذج مشرفة للرواية العربية يمكنها أن تقف الآن جنبا الى جنب روائع الأعمال الكلاسيكية الخالدة في الآداب العالمية، مثل أعمال نجيب محفوظ، وأعمال ادوار الخراط، خيري شلبي، بهاء طاهر، جمال الغيطاني، ابراهيم عبدالمجيد، بنسالم حميش، محمود السعدي، اميل حبيبي، عبدالرحمن منيف، ابراهيم الكوني، وغيرها الكثير من الروايات التي أثبتت بحق جدارتها في الاضافة للمشهد الروائي العالمي.
ورواية “أول النهار” أتصور أنها من بين هذه الأعمال الثقيلة والتي سوف تحتل مكانة رفيعة في الأدب الروائي المصري والعربي مع مرور الزمن، ذلك أنها تتعامل مع الإنسان في فطرته الأولى في أي زمان وأي مكان. رواية تحتفي بالبشر في انتصاراتهم وانكساراتهم، في أفراحهم وأتراحهم، في سرائهم وضرائهم، وتغني للروح الانسانية الخلاقة والتي تجترح المستحيل من أجل الانتصار للحياة.
سعد القرش، كاتب هذه الرواية الجميلة، ينتمي لجيل الثمانينيات، نشر أول مجموعة قصصية له عام 1993 بعنوان “مرافىء للرحيل” ثم “حديث الجنود” – رواية – عام 1996، و”شجرة الخلد” – قصص – عام 1998، و”باب السفينة” – رواية – عام 2002.
الاحتفاء بالأساطير، وبخاصة أساطير الخلق والتكوين، والطوفان، وتنبؤات العرافات، والمآسي القدرية التي لا راد لها، تحتل ركنا أساسيا في بناء هذه الرواية التي يمكن ان نطلق عليها رواية الأجيال، إلا أنها ذات بنية دائرية، تماما مثل القصيدة الدائرية التي تنطلق من نقطة وتنتهي اليها في نهاية الأمر، قد تتماس هذه الرواية مع أعمال شهيرة مثل “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، و”أيام الإنسان السبعة” لعبدالحكيم قاسم، خاصة فيما يتعلق بطقوس الاستعداد لمولد السيد البدوي والتي تدور حولها رواية عبدالحكيم قاسم، إلا أنها هنا تحتل تفصيلة صغيرة لا تتجاوز عدة صفحات، كما أنها تدخل في رواية “أول النهار” في سياق مختلف مما ينفي شبهة التأثر أو التقليد تماما.
تبدأ رواية أول النهار بمشهد كوني، كارثة طبيعية متمثلة في طوفان نوح أو فيضان النيل الذي يبتلع قرى بأكملها تقع على ضفاف النيل، ومن بين هذه القرى، قرية “أوزير” نسبة إلى الإله الوثني المصري أوزوريس، وقبل هذا الفيضان الذي طمر القرية كلها، كان الطاعون الذي أهلك نصفها، لم ينج من الطاعون والفيضان سوى عمران وحليمة المرأة التي ربته صغيرا وابن عمران الوحيد مبروك، وعمران الذي ولد قبل خمسين عاما من زمن الفيضان، ولد مصابا بلعنة أبدية كانت قد تنبأت بها عرافة غجرية وهي ألا يعيش له من الأبناء سوى واحد فقط في كل زمان ومكان، سواء من ذريته أو من ذرية أبنائه، وتتحقق نبوءة العرافة ويموت مبروك ابن عمران الوحيد في ليلة زواجه، ولكنه يترك زوجته حاملاً في توأم هما عامر وسالم، ويبدأ عمران في العودة الى قرية أوزير التي دمرها الفيضان، يقول الراوي الذي يتحدث بضمير الغائب: “بلغوا أوزير، أو ما تصوروا أنها القرية، كانت فضاء يمتد في الأفق، كأنه كتلة متصلة تعبرها العين بنظرة، منخفضات وقنوات بها بقايا مياه راكدة، ونتوءات من الطمي ولا أثر لدار واحدة،. هناك أفرع وجذور من بقايا شجر السنط والصفصاف والجزورينا والجميز، لم تكن للمكان حدود ليصبح قرية، كان قبرا باتساع الفراغ”.
هكذا يصف سعد القرش القرية التي تدور فيها أحداث روايته راسما ملامحها مازجا الواقع بالأساطير، فمن المؤسسين الاثنى عشر الذين نجوا من سكان القرية القديمة، والذين بدأوا في إعمارها فور وصول كبيرهم “عمران” إلى التمثال الذي تم اكتشافه أثناء حفر القواعد فتم وضعه على أحد أبواب القرية الثلاثة، إلى أغاني الحزن أو المسماة بالعديد، كذلك طقوس دفن الموتى، وطقوس الذهاب إلى السيد البدوي، وعمران كبير القرية وسيدها والذي بلغ من الكبر عتيا حتى أصبح أسطورة في حد ذاته تشبه أسطورة الجبلاوي في رائعة نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، وذلك القدر الغشوم الذي يحمله على كاهله ناشرا الموت والدمار أينما حل.
“أول النهار” رواية سعد القرش، تعيدنا إلى زمن الحكي الجميل، وتغني للإنسان سيد المخلوقات على الأرض.
…………
* روائي مصري