الزمان النفسي
تقوم تجربة الكتابة القصصية عند نجلاء علام فى معظم نصوصها على تقنية خاصة فى القص ، حيث يبدأ النص لديها من لحظة زمنية تمثل الأفق الذى تنتهى عنده الحدث السردى الذي تقدمه ، ثم تتنقل بين اللحظات الزمانية السابقة على هذا الحدث من أجل إضاءته ، وهى لا تلتزم بترتيب معين للزمان وإنما تنقل مشاهد مختلفة زمنيا فى بقية النص ، وهذا يمثل تقنية خاصة بها تقوم على ترتيب وحدات الزمان ، ففى النصوص التقليدية ننتقل من الماضى للحاضر ، ونستشرف آفاق المستقبل بينما فى نصوص نجلاء تنتقل من الحاضر للماضى وهذا يجعل الرواية ترتبط بما يُسمى بالزمان النفسي الذي لايعترف الترتيب المنطقى لﻷحداث ، وإنما تختار الأحداث الزمنية التي تتوافق مع الحالة العامة الذى يريد أن ينقلها النص ، وهذا واضح فى هذه الرواية ، وفى قصة قصيرة لها بعنوان ) أم الرجال ( تبدأ فيها من نهاية الحدث القصصى ، ثم تنقل لنا مايفسر التجربة التى تريد نقلها للقارئ .
الغموض و ليس الإبهام
وتتميز نصوصها إلى جانب هذا أيضا بنوع من الغموض وليس الإبهام ، بمعنى أن الغموض يتأتى من عمق التجربة التي تريد نقلها للقاري ، ومن أكثر من منظور ، ومن خلال أزمنة وأصوات متعددة ، ولذلك نجحت فى تقديم نص متعدد المستويات والدلالة ، وينشأ هذا التعدد أساساً من تعدد الأزمنة ، التي لابد للقاري لكى يتواصل مع النص فى أن يعيد ترتيب المشاهد البصرية والأحداث وفق مفهوم خاص للزمان ، ولذلك فإن الكاتبة لا تقدم نصاً تقليدياً ، وإنما تقدم نصاً نفسياً ، ولعل هذا واضح فى عنوان الرواية التي تقدمها : ) نصف عين ( ، وتقصد بها أن شخصيه التوأم ترى بنصف عين ، وتكتمل الرؤية من خلال النصف الآخر الذى يُكمل التوأم ، وعين القارئ الذي تكتمل الرؤية من خلال فاعليته فى فهم النص وإعادة بناء وحداته ، فالكاتبه تعول على القارئ وجهده فى فهم النص والتفاعل معه ، ونجد هذا بوضوح فى التنقل بين ضمائر الرواة الذين يحكون الحدث من زاوية مختلفة ، ولذلك فالرواية تقدم حياة التوأم بحيث ندرك عبرها أنه لايمكن فصل حياة كل منهما عن الآخرى ، والأم وهى القاسم المشترك بينهما تحتل مساحة فى الرواية هى المساحة النفسية التي تحتلها فى وجدان كل منهما ، ولهذا تفرد لها الكاتبة هذه المساحة من الرواية ، وتقدمها بعدة صور ، فتارة تقدمها فى صورة الأم التي يموت زوجها ( المراكبى ) وتتزوج آخر ، وتارة آخرى فى صورة إنسانة بسيطة ( فايزة ) مثلهم تعيش تجربة الزواج مرتين ، وتموت ويصبح العثور على النقود التى تركها الأب مستحيلا فتراود كل منهما الشكوك فى الآخرى فى أنها تعلم مكان النقود، وتسرد فى الرواية أيضا حكاية الزواج لكل منهما ، ولذلك فإن هذا النص يهتم بتقديم دراسة أولية لوجدان التوأم وإحساسها بالحياة، وتنقل لنا هذا المستوى المرتبط بالتوحد الذى ينقل الشعور بالأسى والحزن وهذه سمة أيضا يميز معظم نصوصها أيضا .
تعدد الأصوات
تقوم تجربة هذه الرواية على تقديم الحياة فى صورة سرديات صغرى ، أو حكايات صغيرة تكون العالم الروائى ، وتتعدد الأصوات التى تقدم لنا هذا العالم القصصى ، من خلال مشاهد وصور بصرية سريعة ، ولذا فإن الجدة والطرافة فى هذه الرواية فى هذه التقنية التى تقدم بها الكاتبة عالمها الأدبى ، فالرواية تتناول مواجهة توأمين من البنات مع العالم ، إحدى التوأمين مفتون بصورة الحياة فتكتب هذه الصور التي جاءت بديعة وصادقة ، ومثل قطع الفسيفساء الصغيرة التي تتجاور مع بعضها البعض لتقدم لوحة للحياة التى عاشتها كل من التوأمين ، والكاتبة شغوفة بتقطيع الأزمنة ، وتحويل الحياة إلى صور ، مثلما تتداول صور الأغانى فتحول بين الناس والحياة الحقيقية ، واستطاعت الكاتبة تجسيد ذلك من خلال لغة شديدة الخصوصية .
مصادر الحلم
ومن السمات الهامة لهذا النص قدرة الكتابة على وصف مصادر الحلم لدى الإنسان فى عالم اليوم ، فمشاهد السينما تتداخل مع صورة الحياة اليومية وتشكل أحلام المرء ، وإحساسه بالعالم المعيش ، والحياة هنا لاتُرى من خلال منظومة متماسكة أو رؤية كلية تجسد الوعى بالأزمنة التي تتنقل بينها ، ولكنها تُرى عبر واقعها اللحظى ، ولذلك يبدو عالمها نثريا ويعبر عن التناثر الوجدانى ، رغم الترابط العضوى بين الشخصيات الراوية ،والأحداث الماضية التى تحكيها لنا لاتستمد قيمتها من قدرتها على الحدث بالفعل ، بل بقدرتها على الإمتداد فى الحاضر والتأثير فيه ، فاﻷب لم يمت ، وكذلك الأم كل منهما يمتد تأثيره فى الشخصية من خلال صور وأشكال عديدة فى الرواية .
ونلاحظ أن الكاتبة تقرأ المعاملات وتحكى من أكثر من منظور ، وترصد تجربة عاشها أكثر من طرف ، وتلتقط مشاهد شديدة الدقة والرهافة ، وتصور الألم الإنسانى فى أصفى صورة ، وهو يحاول الحياة وسط شروط صعبة ، وكل هذا يعكس قدرتها ككاتبة أصيلة قادرة على أن تقدم لنا الكثير فى هذه الرواية وفى أعمالها القادمة .
………….
مجلة االثقافة الجديدة : العدد 159 ، أغسطس 2003 .