مريم وليد
صدر فيلم “سحب سيلس ماريا” عام 2014 سيناريو وإخراج “أوليفير أساياس”، ويدور حول “ماريا إندرز”، والتي تلعب دورها “جوليت بينوش”، وهي ممثلة في منتصف العمر تسافر مع مساعدتها الشابة “فالنتين” “كريستين ستيوارت” لاستلام جائزة ستقدم لصديقها الفنان المسرحي والسينمائي “ويلهم”، والذي يعتكف في بيته، متفرغًا تمامًا للكتابة. نعرف أن “ويلهم” منح “ماريا” منذ عشرين عامًا الدور الرئيسي في مسرحيته “أفعى مالويا”، وهو دور “سيجريد ” الشابة الطائشة المتحررة التي تدخل في علاقة مثلية مع مديرتها الأربعينية “هيلينا”، ومن خلال الأحداث ينكشف تلاعب “سيجريد” “بهيلينا”، ثم هجرها لها مما يدفع “هيلينا” إلى الانتحار. كان دور “سيجريد” بالنسبة إلى “ماريا” هو البوابة التي عبرت من خلالها إلى عالم النجومية، ولكن في طريقها لاستلام الجائزة، وأثناء تفاوضها هي ومساعدتها “فالنتين” مع طليقها حول مستحقات الطلاق، تتفاجئ المرأتان بخبر موت “ويلهم” – أو بالأحرى انتحاره الذي سيتكشف بعد ذلك- وتجد “ماريا إندرز” نفسها أمام عرض من مخرج مسرحي شاب يشيد به الجميع يدعى “كلاوس” للمشاركه في إعادة إنتاج لمسرحية “أفعى مالويا” ولكن هذه المرة ستقدم دور”هيلينا”.
منذ البداية تظهر لنا ملامح شخصية “ماريا” بكل وضوح، فهي تكره عالم الإشاعات، والإنترنت، واغتنام الصحافيين لأي فرصة لتفجير فضيحة، وتبدو منفصلة إلى حد كبيرعن هذا العالم، وعما يدور به، بينما تمدها بإستمرار مساعدتها الشابة “فالنتين” بأخر المعلومات، والأخبار عن الفنانين الشباب إذا لزم الأمر.
تعترف “ماريا” للمخرج “كلاوس” حين يعرض عليها دور”هيلينا” بعدم رغبتها في المشاركة بالعمل قائلة:”لعبت دور سيجريد في “أفعى مالويا” عندما كنت في الثامنة عشر، بالنسبة لي كان ذلك أكثر من دور، وبطريقة ما مازلت سيجريد، ولا علاقة للأمر بالمثلية بالمناسبة، طوال عمري وأنا مغايرة. سيجريد حرة إلى أقصى الحدود، والأهم من ذلك أنها مثيرة للمشاكل، ولا يمكن التنبوء بها، وسواء إن كان ذلك خاطئًا أم صائبًا طالما ربطت نفسي بتلك الحرية”.
“ماريا” تحتقر شخصية “هيلينا” إلى أقصى حد، فتراها ضعيفة، وهشة، ومثيرة للشفقة، وقد هزمها الوقت تمامًا، وترفض أي رؤية أخرى يقدمها لها المخرج أو حتى مساعدتها حول طبيعة شخصية “هيلينا”، أو علاقتها “بسيجريد”، وترفض حتى التشكيك في أن سيجريد كانت تتلاعب “بهيلينا”، وفي نقطة ما يمكننا أن نرى أن “ماريا” تخاف من “هيلينا” أكثر مما تحتقرها، إنها تخاف من أن تكون هي نفسها “هيلينا”، وترفض هذا تمامًا، فحتى بعد توقيعها على عقد المسرحية، نراها تحاول فسخه، والتملص منه بأي طريقة، ونراها حتى أخر مشهد بالفيلم متمسكة بكونها “سيجريد”، وبذكرياتها مع شخصية “سيجريد”، أو مع نفسها القديمة، الشابة، والبريئة، ومع كونها هي محور الأحداث، بينما يدور كل شيء حولها، فلا يمكنها التأقلم مع فكرة أن الممثلة الشابة “جو آن إليس”، والتي ستلعب دور “سيجريد” تسرق الأضواء منها، أو حتى التأقلم مع عالمها، أي عالم الشباب الحديث والغريب بالنسبة “لماريا”، أو مع كونها أصبحت تعتبر الآن ذات أداء تقليدي كلاسيكي، وأصبحت الممثلات الشابات أمثال “جو آن” يشار إليهن بالحداثة، وهو ما يبدو لنا من أعظم مخاوفها.
بالنسبة لي جاء أداء “جوليت بينوش”، و”كريستين ستيوارت” مميز للغاية فهما غاية في التلقائية، والبساطة، والقوة، وتجمعهما الطاقة والروابط اللازمة بين الشخصتين، وفقًا لطبيعة علاقتهما، ويمكنني القول أن فيلم “سحب سيلس ماريا” ككل هو دفقة من التلقائية، والبساطة، البعيدتين كل البعد عن السطحية، تختفي من خلالهما الحواجز بين المشاهد والفيلم، قدمها لنا المخرج والسيناريست “أوليفير أساياس”.
تقرر”ماريا” الإقامة في بيت صديقها الكاتب المتوفي “ويلهم” مع “فالنتين” في منطقة “سيلس ماريا”، أثناء تدربها على دور “هيلينا”، وهناك حيث كتبت المسرحية، يبدو وكأن شبح صديقها الكاتب يطاردها، ليحكم قبضته عليها، معلنًا إياها ببساطة “هيلينا”!، ففي هذا المكان تبدأ طبيعة علاقة “ماريا” “بفالنتين” بالتكشف، فيظهر لنا المخرج في لقطة لا تتعدى بضع ثوان، أن “ماريا” تشعر بإنجذاب ما ناحية “فالنتين”، وربما هذا الانجذاب الخفي يبرر لنا محاولات “ماريا” الدائمة لتجاهل أفكار “فالنتين”، ومحاولاتها لمنع سيطرتها على حياتها، ولو في أصغر الأمور.
يظهر اضطراب “ماريا” هذا جليًا في أحد المشاهد التي يصورها المخرج عامدًا لتظهر كحوارعادي، ليكتشف الجمهور بعد بضع ثوان أن “ماريا” تتدرب مع “فالنتين” على حوار المسرحية، وفي هذا المشهد بالذات تعترف “سيجريد” التي تقرأ حوارها “فالنتين” “لهيلينا” أي “ماريا” بأنها تتلاعب بها، وتحكم قبضتها للسيطرة على حياتها، وعزلها عمن حولها. وبعد انتهاء الحوار نجد “ماريا” تعترض على لامعقولية الأحداث، أو لامعقولية ضعف “هيلينا” في نظرها، ولكنها على الرغم من هذا ترفض رفضًا تامًا اتباع رأي “فالنتين” في شيء تافه جدًا كالسير في الطريق الذي تشير إليه الأخرى لكي تتمكنا من العودة إلى المنزل.
تنتهي العلاقة المعقدة بين “ماريا” و”فالنتين” فجأة بلا سابق إنذار، ففي أخر مشهد لهما معًا نراهما تسيران بين الجبال لمشاهدة ظاهرة تسمى “بافعى مالويا”، ونرى “فالنتين” تشكك في نهاية “هيلينا” بالمسرحية، وترفض القول بأنها أنتحرت، بل تذهب إلى احتمال أنها قد تكون اختفت لتبحث عن نفسها في مكان أخر، ثم تختفي “فالنتين” فجأة هربًا من تقليل “ماريا” لكل ما تقول، ولا نرى سوى “ماريا” وحيدة تشاهد ظاهرة السحب، وتبحث عن “فالنتين” بين الجبال، ولا تظهر الثانية بعد ذلك أبدًا. ويظل السؤال أكان يمكن “لماريا” أن تتحول في علاقتها مع “فالنتين” إلى “هيلينا”؟، ومن منهما كانت هيلينا أصلًا؟، أم أن كلتا المرأتين “هيلينا” و”سيجريد” تتشاركان نفس الجرح، وتميلان إلى أن تكونا أمرأة واحدة، كما كان المخرج “كلاوس” يراهما، وكذلك تكونا “ماريا” و”فالنتين”؟
وينتهي الفيلم ولا ينتهي تأرجح “ماريا” بين “سيجريد” و”هيلينا”، ولا محاولتها للتشبث بقطار الزمن القاسي جداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية