كانت بجوارى فلاحة تضع طرحة على رأسها ، تضايقت من رائحتها ، أردت أن أنهض ، ولكن خيطا غامضا ربطنى بهذه الرائحة ، كانت تشبه رائحة الفول الأخضر ، مختلطة بقليل أو كثير برائحة الزبد الطازج ، بريئة وبدائية ، كانت النوافذ محطمة ، وهواء الحقول يغمر الباص ، فشعرت على الفور بأننى محاط بأجواء طالما أحببتها ، وطالما افتقدتها ، وفكرت لو أن هناك قمر يضئ الحقول بذلك البياض النائى والشفيف إذا لاكتمل كل شئ .
توقف الباص أمام قرية فتسلل ضوء أعمدة الكهرباء إلى الداخل ، استطعت أن أرى طرحتها الخفيفة ، كانت خضراء كالحة ، وجلبابها أبيض منقوشا بزهور حمراء وصفراء ، تحرك الباص مرة أخرى فدخل فى ظلمة الطريق المترب . سرحت قليلا ، وغفوت متلذذا باهتزاز الباص.
عندما فتحت عينى كان كل شئ كما هو ، هادئا بدائيا ، والركاب نائمين ، فعاودت التفكير فى أشياء جميلة ، فرحت لأشياء وحزنت لأشياء ، ابتسمت لأنى كنت غبيا فى أحيان كثيرة ، وحيث لا أحد يرانى أنّبت نفسى . وعلى نحو غريب ، وأنا صامت هكذا أفكر ، انتابتنى رغبة فى أن أكون ذلك الرجل البسيط ، الفلاح الذى يجلس متربعا فى داره مستندا إلى حائط ، مبتسما بوجه أسمر رائقا كسحابة ، وتمنيت بشدة ، تمنيت كحلم أن يرفع أحد النائمين رأسه ويغنى موالا ريفيا ، أو أن يخرج من جلبابه نايا ويعزف لحنا حزينا يصعد إلى السماء ، كنت أتصور دائما أن السماء تجتذب إليها ألحان هذه الآلة ، شرط أن تكون حزينة وريفية .
انتبهت فجأة إلى أنين خافت بجوارى ، التفت ، كانت الفلاحة تبكى ، محاولة أن تكتم صوت البكاء ، وكان يهبط ماء غزير من عينيها ، شعرت أن بكاءها مرير إلى ما لا يمكن تصوره من مرارة ، وفكرت فى أن روح الفلاحة ، روحها الخالصة هى التى تبكى . عدت ألتفت أمامى ، إلى ظلام الطريق ، إلا أن رأسى هذه المرة تحركت محملة بحزن غامض . تركتها تبكى لأننى كنت أعتقد أنه من الرائع أن يبكى المرء ، أن يستطيع البكاء هكذا ، وأننا ودائما علينا أن نبكى كلما شعرنا برغبة فى ذلك ، بالبكاء فقط من دون سبب ، من دون أى شئ ، لكن ذلك قادنى إلى تذكر ” بيسوا ” الشاعر الذى أحبه حين قال : ” أنا بحاجة إلى الرغبة فى البكاء ، ولكن لا أعرف طريقة لاستثارة الدموع ” وبدأت أفكر فى إمكانية تقديس هذا البكاء الذى لا يجئ ، يظل مكتوما كقطعة ثلج على موقد لا تنصهر أبدا . لكن الفلاحة انتشلتنى من كل هذا ، عندما ارتفع صوت بكائها وبتلقائية أدهشتنى أمسكت يدها ضاغطا عليها ، لم يبد عليها أى ردة فعل ، فأبقيت يدى ، وحين خفت بكاؤها فكرت فى أسى – أنه قليلا ما يتذكر الإنسان أن لديه دائما ما يشارك به الآخرين ، ثم ولا أعرف ما دفعنى إلى ذلك ، استدرت ببطء ووضعت يدى على وجهها ، فعاد بكاؤها مرة أخرى ، حارا فى حدة واندفاع سيف ، مكتوماً ، تجاهد أن تبقيه مكتوماً ، وفجأة لم أشعر إلا بها بين ذراعى وقد أراحت رأسها على كتفى ، ملتصقة كطفل خائف ، خفت بكاؤها قليلا ، فعدت أفكر وأنا أربت على كتفها ، أن الحياة تعذبنا على نحو مروع . وبدأت أبكى بدورى ، بكاء مريرا .
مر وقت طويل ، لم أشعر بأى شئ ، سوى أن هذه المرأة برائحة الفول الأخضر فى ملابسها ورائحة الزبد فى فمها القريب ، استطاعت أن تدفعنى إلى البكاء ، بكاء كنت احتاجه حتما.
تذكرت الحقول حولنا ، والهواء الذى يندفع من النافذة ، وفكرت أن هذه الفلاحة بإمكانها أن تجعلنى أجرى .. أجرى فى الحقول ، وفقط أجرى ، كطفل مبتسم يرتدى جلبابا ، أذهب إليها .. أسفل شجرة ، فتضحك وتبسط يدها المملوءة بالفول الأخضر ، آكل من دون تفكير فى أى شئ ، آكل ، تضع شايا على نار هادئة لحطب العنب ، فأشرب شايا دافئا وله نكهة العنب على الأشجار ، حيث تكون السماء دائما زرقاء صافية . والسحاب دائما ابيض رقيقا ككومة قطن ، والحقول خضراء ، يدفعها الهواء فتتحرك كطرحة خفيفة على رأس فلاحة ، وحين تدفعنى لأنهض ، أقول لها فى توسل : أريد أن أبقى .. أبقى ، فتأخذنى وتتركنى لأنام .. هكذا فى أحضانها ، غارقا فى دفء جلباب أبيض بزهور حمراء وصفراء . لكن كل ذلك تهاوى فجأة كسماء من زجاج عالية ورحبة تهاوت على الأرض ، فتهاوى كل شئ حين نهضت الفلاحة ، هكذا رأيتها تنهض وتتركنى ، فشعرت بضعف مفاجئ ، وحين توقف الباص ، أدركت أنها ستهبط ، تحركت غائبا ، وأفسحت لها مكانا لتمر ، بسرعة هبطت ، واختفت ، وتحرك الباص .
بعد كم من الوقت أحسست بالفراغ بجوارى ، فعاودنى البكاء مرة أخرى ، أسندت رأسى على المقعد المقابل وفكرت فى أن وقتا طويلا سيمر ، سنين ربما ، حتى ألتقى مصادفة بفلاحة لها رائحة فول أخضر ، ولفمها رائحة الزبدة ، أبكى على كتفها باندفاع ومرارة ، أبكى من جوفى من روحى الخالصة ، وأشهق ممسكا يدها فى استماتة خالدة ، فتشاركنى البكاء وتربت على كتفى فى الظلام ، وسط مسافرين نائمين ، فى باص محطم النوافذ ، يخب مهتزاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص من مصر