ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم: لقد أدرجنا هنا أيضا، ضمن إحدى أعمدة مجلة”L’inactuelle ”، حوارا مع جيوفاني كاتيلي، الذي أصدر كتابه المعنون ب: موت كامو(منشورات بالاند).تصورات الباحث الايطالي، التي يعتقد بحسبها أن سبب موت كامو قد يكون ناجما عن محاولة اغتيال نفذتها المخابرات السوفياتية، أطروحة خلقت سجالا حادا، إلى حد أن صحيفة “ليكسبريس” أصدرت مقالة اتجهت نحو دحض مختلف مضامينها.
من البديهي أن أطروحة الاغتيال تلك يصعب تأكيدها بطريقة قطعية بناء على معطيات الوقائع الحالية.لكن التحريات التي أجراها جيوفاني كاتيلي تستحق على الأقل الإصغاء بجدية إلى براهينها، وبالتالي منح صاحبها حق الجواب، قصد تمكنه من التفاعل مع مختلف التهم التي وجهت بشأنه على صفحات ليكسبريس.
يلزم التوضيح بأن كاتيلي ليس أمامه سوى هامش ضيق جدا للدفاع عن نفسه بطريقة مباشرة، في فرنسا، لأنهم لايتيحون له فرصة الحديث سوى نادرا، في المقابل، لاتفوت هذه الصحافة نفسها أي فرصة، كي تبدي عدم اهتمامها بما ينتجه.
الحوار الذي أجريناه مع كاتيلي، حول ألبير كامو، اعتبرته مواقع التواصل الاجتماعي تضمينا ل”معلومات زائفة”، في حين ناقشنا معه جوانب المبررات الوثيقة الصلة بالموضوع، دون محاباة ولا تآمر كذلك.إذا كان مجرد تأمل تأويل جديد بخصوص واقعة تعود إلى الماضي قد يندرج ضمن الحقائق الزائفة، فيمكننا عموما طرح التساؤل بخصوص مستقبل الفكر النقدي فيما يتعلق بوسائط الإعلام الاليكتروني.بما أن مزاجنا عنيد، نتمسك بإصرارنا على تقديم تفاصيل أخرى.
أريد الجواب عن مقالة جريدة ليكسبريس، التي انطوت على رفض تام لفرضية تتعلق بإمكانية تعرض ألبير كامو للاغتيال. بحيث أظهرت مختلف فقراتها استخفافا تاما باللحظة التاريخية التي تزامنت مع موت كامو، وكذا طبيعة العلاقات بين فرنسا والاتحاد السوفياتي، خلال إحدى اللحظات الأكثر خطورة في تاريخها.
* كامو، رجل خطير:
والحال، أن حيثيات تلك اللحظة التاريخية تسمح بفهم السبب الذي من أجله يعتبر كامو شخصا خطيرا جدا، سواء بالنسبة للاتحاد السوفياتي وكذا فرنسا الجنرال دوغول.الأخير، قرر إحداث تقارب قوي جدا مع الاتحاد السوفياتي، معبرا عن خيبة أمله نحو الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وكذا مشاعر عدائه نحوهما. في نفس الوقت، يعتمد الاتحاد السوفياتي على فرنسا في أفق تفكيك الوحدة السياسية لأوروبا وإضعاف الحلف الأطلسي.
بالنسبة للزعيم السوفياتي خروتشوف، مثلت فرنسا”حلقة ضمن سلسلة ستجذب على التوالي باقي السلسلة الأوروبية”.إذن، يمثل ذلك رهانا أساسيا جدا بالنسبة للاتحاد السوفياتي، بحيث حقق سريعا نجاحا مدهشا مع الخروج التدريجي لفرنسا من الحلف الأطلسي، بشكل فعلي سنة 1966، بعد أن استحضر دوغول الفكرة منذ خريف 1958، ثم تجلت المواقف الملموسة الأولى خلال ربيع 1959 (شهر مارس، أبلغ دوغول الحلف الأطلسي بأن القوى البحرية الفرنسية في البحر الأبيض المتوسط غير خاضعة منذئذ لسلطته).
في هذا الإطار، شكلت زيارة خروتشوف إلى فرنسا، شهر مارس 1960، فرصة مدهشة لدفع الشعب الفرنسي نحو الاقتناع بالجنوح الجديد لسياسة دوغول الخارجية، وكذا تحسين صورة الاتحاد السوفياتي.
يوم23 أكتوبر 1959، أعلن رسميا عن ترقب مجيء خروتشوف إلى فرنسا.انطلاقا من تلك اللحظة، شرعت الحكومتان الفرنسية و السوفياتية، وكذا الحزب الشيوعي الفرنسي، في تنظيم فصول زيارة الزعيم السوفياتي إلى فرنسا، استمرت لفترة غير معهودة، تعادل تقريبا فترة طواف فرنسا، من 23 مارس إلى3 أبريل 1960.
قبل ذلك، خلال شهر غشت، بادر السفير السوفياتي فينوغرادوف، إلى زيارة دوغول في كولومبي(شمال شرق فرنسا) – زيارة كررها سابقا على امتداد سنوات عدة – قصد التحضير بدقة وعناية خاصة، لرحلة خروتشوف.هكذا، وضع مسئولو الحزب الشيوعي الفرنسي والكرملين مخططا يراعي أدنى التفاصيل، مع حضور مستمر للسفير فينوغرادوف إلى مقر وزارة الخارجية الفرنسية وكذا تردد مسؤولين شيوعيين على سفارة الاتحاد السوفياتي بفرنسا.
هكذا جاب خروتشوف فرنسا، منتقلا بين مدن باريس، ليل، مارسيليا، بوردو، ريمز، فيردان، أثارت حماسا شعبيا رتبها جيدا الحزب الشيوعي الفرنسي.
* انتقادات كامو ضد الاتحاد السوفياتي:
كيف يمكنهم التسامح مع الارتباك الذي يمكن لأسئلة ألبير كامو، أن تخلقه حين طرحها على الفضاء العمومي، سواء فيما يتعلق بالسياسة السوفياتية، عن الاجتياح الدموي لهنغاريا، وتراجيديا معتقل غولاغ، في هذا الإطار تمسك سارتر والحزب الشيوعي الفرنسي بموقفهما الرافض لانتقادات كامو؟تداول الأخيرة، من شأنه أن يمحو دفعة واحدة عن الزعيم السوفياتي، صورة الطمأنينة، وسيتبدد جل مجهود الحزب الشيوعي الفرنسي وكذا الحكومة الفرنسية لإظهار البعد الإنساني للسلطة السوفياتية.بالتالي، ضرورة التصدي لذلك، بأي ثمن.
بدأ الإعداد لمحاولة اغتيال ضد ألبير كامو، منذ شجبه لاجتياح هنغاريا، فصارت المسألة في نفس الوقت مطلبا راهنا، بل فوريا. نفهم إذن كلمات المحامي جاك فيرجس، المقتنع بتورط جهاز(ك. ج. ب )، في اغتيال كامو مع الموافقة الضمنية للمخابرات الفرنسية. لقد أكدوا لي قبل سنوات، خلال زيارتي لبراغ، بأن عملية من هذا القبيل لايمكن التفكير في القيام بها دون موافقة الاستخبارات المحلية.
أقارب كامو أنفسهم استمر اقتناعهم بأن الأمر يتعلق باغتيال. أيضا، كشف جان بالارد، مدير دفاتر الجنوب، عن اقتناعه بذلك، يوم المأثم الجنائزي في لورمارين. فقد صرح بأعلى صوته: “لقد نجحوا في التمكن منه”. يتذكر جيدا السيد هنري بونيي(كاتب وناقد) تلك الفترة، وكذا القناعة المنسابة بين أصدقاء كامو. بعد ذلك مباشرة، أقصيت تلك الأصوات نحو هامش الصمت، نتيجة سيطرة فريق سارتر على المنظومة الثقافية، بهدف تحويل انتباه الرأي العام عن أيّ إشارة تلمح إلى اغتيال كامو.
تواترت الرسائل الفرنسية التي تتوخى إثبات بأن ميشيل غاليمار وسيارته تسببا في موت كامو، بمعنى أن غاليمار يتحمل وحده على عاتقه بكيفية مطلقة مسؤولية حادثة كامو. أيضا، وبقدر إقصاء حضور كامو على امتداد حياته، فقد حدث السعي بسرعة إلى محو ذكراه بعد رحيله، و في الاتحاد السوفياتي، لم تتم حتى مجرد الإشارة إلى خبر موته، وفقط بعد أيام قليلة علم بالأمر بوريس باسترناك بواسطة صحفي تشيكي- أمريكي زاره. على ذكر باسترناك، فقد دعم كامو ترشيحه للحصول على جائزة نوبل.
إذن بوسع ألبير كامو وحده، تهشيم صور الاتحاد السوفياتي بارتداد يتجاوز ألف مرة قوة المثقفين أو النشطاء الروس، الأوكرانيين أو البلغاريين الذين قتلوا، أو الذين سيقتلون بعد ذلك من طرف جهاز(ك. ج. ب).
*السجال حول موت كامو:
بالعودة إلى مقالة ليكسبريس، يطلعنا العنوان الفرعي عن خطأ أولي:أقصي كامو من المشهد نتيجة “مناهضته للشيوعية”. تعريف عام جدا، لا يتناسب مع كامو ولا أيضا حقيقة الوقائع. لقد عارض كامو السياسة المباشرة للاتحاد السوفياتي، وممارساتها المناهضة لحركات الشعوب، ثم تأثره نتيجة سماعه نداء الكتَّاب الهنغاريين الذين حاصرتهم وسحقتهم الدبابات الروسية.
انتقد كامو أساسا معسكرات الاعتقال، وكذا نظام سجن غولاغ الذي يحتجز أصحاب الآراء المخالفة وكذا المواطنين العاديين.كان شجاعا بخصوص إدانته العلنية والشديدة لنظام قمعي انكشفت هويته حاليا أمام الجميع، بينما انصبت المجهودات فترة كامو على إخفاء ذلك.
رؤيته والاحترام الذي يتمتع به لدى الرأي العام العالمي، ثم حظوة فوزه بجائزة نوبل، مميزات جعلت خطابه مؤثرا جدا بالنسبة للذين شكلوا مجالا لانتقاداته؛لأن كلمات مثقف من حجمه وشهرته جسدت بالفعل خلال ذلك الزمان وزنا تتجاوز قيمته تلك التي يمكن أن يدلي بها وزير أول.لاينبغي نسيان هذا، قياسا لحقبتنا الحالية حيث تقريبا لاوزن يذكر لخطاب المثقف.
صنَّف الاتحاد السوفياتي ومعه الحزب الشيوعي الفرنسي، كامو عدوا خطيرا، واعتبرا تقريبا مساندته للهنغاريين وكذا دعمه لترشح باسترناك لنوبل، بمثابة إهانات لايمكن التغاضي عنها.
أيضا في إطار سياق تقارب أساسي مع الاتحاد السوفياتي، صار قرارا مؤكدا، لذلك يمثل كامو عائقا نوعيا، حتى بالنسبة لمخططات الحكومة الفرنسية.
*العملاء السوفيات في فرنسا خلال الحرب الباردة:
والحال أننا نعلم جيدا خلال تلك الفترة مستوى النفوذ السوفياتي على الحكومة الفرنسية وكذا التسلل إلى أجهزتها الاستخبارية.أكدت مذكرات أوليغ كالوجين، جنرال سابق داخل جهاز(ك. ج. ب)بأن المخابرات السرية الفرنسية كانت الأكثر اختراقا مقارنة مع نظيراتها الأوروبية. بهذا الصدد كتب مايلي:”لقد أدركتُ، قبل انضمامي سنة 1973 إلى شعبة التصدي للتجسس التابعة لجهاز (ك. ج. ب )، بأننا نتوفر داخل فرنسا على شبكة عملاء مؤثرة، مع ذلك أدهشني عدد أصحاب المؤهلات الرفيعة التي توفرنا عليها داخل أجهزتهم التجسسية وكذا التي تتصدى للتجسس، أو بين فرقة الأمن العسكري.خلال تلك الحقبة، أمكننا التباهي بأننا نتوفر على العشرات من أفضل العملاء داخل الأراضي الفرنسية، جلهم يعمل تحت إشراف أجهزتهم. آمن معظم هؤلاء العملاء بالشيوعية خلال الفترة التي احتكت بهم مخابراتنا سنوات. 1940 أما بين سنوات 1960 و1970 فقد صارت المخابرات الفرنسية كمصفاة. اخترقناها على نحو عميق جدا بحيث كنا قادرين أن نرى بوضوح درجات عدم فعاليتها. بالتأكيد، بدت الجاسوسية الفرنسية الأكثر ضعفا مقارنة مع مختلف الأجهزة التي واجهناها”.
أقوال مماثلة عبر عنها أناتولي غوليتسين أحد قادة المخابرات السوفياتية، الذي فر إلى الغرب سنة 1961، مؤكدا بدوره أن عددا مماثلا للعملاء قد نفذ إلى صفوف المخابرات الفرنسية.
أيضا ضمت حكومة دوغول العديد من ”المتعاطفين” مع الاتحاد السوفياتي: لذلك اكتسى قرار التقارب مع موسكو خاصية تاريخية.
أكد كونستانتين ميلنيك، الذي كان مستشارا حول القضايا الأمنية في حكومة ميشيل دوبري غاية 1962، بأن:”الديغولية، أكثر من أي حركة أخرى، نخرها تأثير فعل عملاء جهاز(ك. ج. ب)الساحر، بحيث لم تتأتى لنا قط إمكانية التخلص من دوغول.ولم يكن في مقدور هؤلاء الأشخاص الشجعان البقاء دون فعالية، مادمنا نبدي لهم دليل عجزنا ”.
* استبعاد أعداء سياسيين:
في وضعية كهذه، تحدد المخابرات السرية والحكومة هدفا في غاية الأهمية مشتركا مع السوفياتيين، بما أن صداقتهما ينبغي لها السعي نحو خروج فرنسا من الحلف الأطلسي وكذا بناء توازن عالمي جديد:ربما مثلت التضحية بشخص كلفة مقبولة.
خلال تلك الفترة، إبان ذروة الحرب الباردة، فالسعي إلى التخلص من الأعداء السياسيين في الخارج، أضحى وضعا مألوفا بالنسبة لجهاز(ك. ج. ب )سواء في فترة إدارة ألكسندر شيليبان(الملقب ب ألكسندر الفولاذي)أو الآلة إيفان سيروف(الملقب بالجزار) العقل المدبر لحملة الاعتقالات في بولونيا وكذا دول البلطيق، مثلما أدار العمليات السرية لحظة اجتياح هنغاريا.
اغتالت المخابرات السوفياتية، بين أكتوبر 1957 و أكتوبر 1959، في ميونيخ المعارضين الأوكرانيين ليف ريبيت وستيفان بانديرا، بواسطة عملية نفذها عميلها بوغدان ستاشينسكي بحيث رشّ على وجههما غاز السيانايد ؛ فقط انشقاقه ثم فراره إلى الغرب سنة 1961 سمح باكتشاف الحقيقة. فالقاعدة الضرورية بالنسبة لهذه الجرائم، مثلما روى دائما العملاء الذين انتقلوا إلى الغرب، أن الموت ينبغي لها أن تبدو بمثابة نتيجة حادثة طبيعية أو لتداعيات صحية.
طيلة شهور، اقتفى ستاشينسكي خطى ستيفان بانديرا، قبل أن يحسم في مكان تنفيذ عملية الاغتيال: يلزم بأي طريقة تمويه المحققين كي لايتجه تفكيرهم إلى مصدر أساسه عملية اغتيال.أيضا أثبت استمرار فعل ستاشينسكي بأن القرارات المتخذة من طرف المخابرات السوفياتية تظل نفسها ضمن مسار الزمان، رغم التجديد المتدرج للمشرفين على الجهاز، خلال تلك الحقبة:بين العمليتين التنفيذيتين، انتقلت مسؤولية إدارة جهاز( ك. ج. ب)، من سيروف إلى شيلبان، لكن دون أن تعرف مخططات الأفعال أدنى تغيير.
خلال تلك الفترة، مثلت أيضا فرنسا، ساحة مفتوحة لتدابير عملاء جهاز (STB) التشيكي، الذي شكل الذراع المسلح لجهاز المخابرات السوفياتية في الخارج.نعرف خاصة مسؤولية عملاء الجهاز التشيكي بخصوص محاولة قتل، عن طريق تفجير استهدف أساسا الديبلوماسي الفرنسي أندري ماري تريميود، يوم 17 ماي 1957، في مدينة ستراسبورغ، أودى بحياة زوجته.
نفس الجواسيس شاركوا شهر دجنبر 1959 في حملة انتهاك حرمة المعابد اليهودية ومقابرهم على امتداد أوروبا وكذا أمريكا اللاتينية، بتوجيه من جنرال المخابرات السوفياتية أغايانر، وتحميل مسؤولية هذه الأفعال إلى تنظيم نازي جديد غير موجود على أرض الواقع، بهدف إحداث ارتجاج في استقرار أوروبا وكذا تلويث سمعة ألمانيا الغربية، و إيهام الرأي العام بوجود جماعية قتالية تتطلع نحو ألمانيا مستقلة، وتهدد ”الطغاة الفرنسيين” في الألزاس واللورين.
إذن، الإبقاء على حالة الانشقاق والعداوة بين فرنسا وألمانيا ظل أيضا أولوية بالنسبة لخروتشوف وكذا الحكومة السوفياتية، حقائق توثقها مستندات، وكذا خلق تنظيم نازي وهمي، من أجل تقويض استقرار فرنسا في منطقة الألزاس واللورين، وبشكل عام خلق اعتقادا مفاده أن ألمانيا لازالت مرتعا خصبا لمشاعر نازية، من ثمة خطورتها على الحلف الأطلسي نفسه.
*زيارة خروتشوف المثيرة للجدل:
كانت زيارة خروتشوف إلى فرنسا مهمة بالنسبة للحكومة الفرنسية إلى درجة أنها اتخذت تدابير أمنية استثنائية، غير مألوفة سوى قليلا في بلد غربي ديمقراطي: احتجاز مئات الأفراد، لمجرد انحدارهم من أوروبا الشرقية، ثم أبعدوا نحو كورسيكا خلال فترة زيارة خروتشوف. في غضون يومي 2 و 3مارس 1960، تحت وطأة طقس مشؤوم يذكرنا ثانية بحقب تاريخية ليست بعيدة جدا، بادرت الشرطة الفرنسية إلى اعتقال شخصيات عدة من داخل حجرات نومهم، منفيين بولونيين، هنغاريين، تشيكيين، بلغاريين، صربيين، أوكرانيين، روسيين، كي تخبرهم ب”إجراء إداري للإبعاد”، وقعه وزير الداخلية يوم 27فبراير.
هؤلاء الأفراد مجرد نشطاء مناهضين للشيوعية، أعضاء في منظمات للهجرة الشرعية رسميا، جمعيات تضم مناضلين سابقين، منظمات خيرية، تتوفر على بطاقة إقامة وكذا جواز سفر ”نانسين” (جواز اللاجئ السياسي)، أوضاع أضحت أيضا هواجس بالنسبة لكامو.
حملة تستعيد أسوأ ذكريات حقب تاريخنا، بحيث اعتُقل جميع هؤلاء، إما داخل مقرات عملهم، أو عند درج سلم أو عتبة منزل.ثم هُجِّروا نحو كورسيكا، مع شبه يقين بأن يعادوا ثانية إلى بلدانهم الأصلية، مع المصير الرهيب الذي يتربص بهم هناك.
تنص الورقة على مايلي:”اقتضت اعتبارات الحفاظ على النظام وكذا مبررات ضرورية للأمن إبعاد الأسماء المدرجة ضمن القائمة نحو الخارج.انطلاقا من مقتضى أن يطبق عليها الفصل 25 من القانون السالف الذكر المتعلق بحالة الطوارئ المطلقة.وضع يلزم تلك الأسماء المشار إليها أعلاه بمغادرة التراب الفرنسي”.
من بين تلك الشخصيات، نجد أفرادا بلغوا عمرا متقدما، مثقفين، مرضى، شخصيات مسالمة ترى بأن صحتها ستكون عرضة للخطر ؛قد تحدث أزمات قلبية، وفعلا تأكدت واقعة وفاتين، ثم الإقدام على محاولات للانتحار، نتيجة قلق الإبعاد وكذا الإحساس بالضجر من مستقبل مجهول المعالم.
أُودع المعتقلون في أمكنة مختلفة تابعة لأقسام رجال الشرطة، مستودعات ومطاعم، غاية 4 مارس، موعد ترحيلهم نحو كورسيكا.وسيمكثون هناك مدة شهر، في غياب أي معلومة مكتوبة.
اللوائح التي استعملتها الشرطة من أجل الترحيل ربما هيأتها الحكومة بتنسيق مع السفارة الروسية وكذا الحزب الشيوعي الفرنسي، إبان لقاءاتهم واتصالاتهم اليومية تقريبا.
*وقائع التراجيديا:
أيضا واجهتني اعتراضات فيما يتعلق باتصالات كامو وغاليمار مع أقربائهما.فقد كشف الرجلان عن طبيعة رحلتهما على متن السيارة صوب باريس، والكثير من الأفراد توصلوا بهذه المعلومة ؛بحيث أخبر ميشيل غاليمار العديد من أصدقائه بالموضوع، إلى درجة أن الناشر روبير لافون نصحه بتغيير وسيلة النقل من السيارة إلى القطار.
كان معلوما لدى الجميع، ضمن محيط غاليمار في باريس، بأنه ذهب إلى الجنوب بسيارته كي يصطحب معه من هناك كامو. أيضا، من جهته، أخبر كامو سكرتيرته هاتفيا وأحاطها علما بمشاريعه، مثلما بعث رسائل إلى كاثرين سيلز، ماريا كازارس، وميت إيفرز يؤكد لهن عودته المترقبة على متن السيارة.
بالتالي، فدائرة الأشخاص الذين أدركوا تفاصيل المعطيات كانت واسعة:يوجد ضمنها متعاطفون مع الحزب الشيوعي الفرنسي، أو بكل بساطة شخص ما بوسعه بث الخبر داخل دوائر معادية لكامو.إضافة إلى ذلك، فإذا اهتم جهاز أو جهازان، بمراقبة كامو وأقربائه تحضيرا لاغتياله، فلا شيء سيمنعها من مراقبة هواتفهم، وكذا السعي لاقتفاء أخبار من أقربائهما.
أشعرتني أيضا، مقالة جريدة ليكسبريس، بأنها استهانت برمزية شخصيتي جان زابرانا وكذا جيوليانو سبازالي، اللذين أدليا بشهادتهما قصد المساعدة على الوصول إلى الحقيقة، فجان زابرانا كان مترجما دقيقا عن اللغة الروسية، ونسج في إطار ذلك علاقات مهمة مع أنتلجنسيا ذاك البلد؛ مكنته من الوقوف على معلومات خاصة، ومثلما أوضحت في كتابي، فقد كانت هناك مصادر عدة ممكنة بخصوص أصل تلك المعلومات، بما فيها، الكاتب الشهير فاسيلي أكسيونوف، الذي أرشدني قبل موته نحو جوزيف سكفوريكي صديق زابرانا.
يمكنني الإقرار بجدية الكاتب جان زابرانا وكذا حرصه على التدقيق المطلق خلال كتابته لمذكراته الشخصية.لقد كان ذلك مهما جدا بالنسبة إليه، وخطيرة للغاية آراؤه، أخذا بعين الاعتبار المعطيات التاريخية التي ارتبطت بها ظروف حياته.
كتب مذكراته كشهادة للمستقبل ولقرائه المستقبليين: فلا يمكن بحسبه السماح لنفسه الإدلاء بشيء غير مبرر واقعيا. المخرج أليز كيزيل، الذي أنجز فيلما ممتعا للغاية عن مذكرات جان زابرانا، أكد بأن الأخير اهتم بعدم اقترافه لأي خطأ، على مستوى ترجماته، أو بين طيات صفحات كتاباته ومذكراته، وأن يكون مضبوطا ودقيقا فيما يتعلق بالوقائع التي يسردها، ولم يخبر زوجته ماريا زابرانوفا التي يحبها، عن سر مذكراته تلك سوى قبل وفاته بأسبوعين، جراء مضاعفات مرض السرطان.
تبين له حقيقة بأن ما أوردته مذكراته جد خطير، بالنسبة للعديد من الأشخاص، خلال تلك الحقبة قياسا للبلد الذي يعيش فيه. بحيث تحاشى ذكر أسماء الأشخاص الذين أشاروا عليه بالمعلومات، ولاأيضا أصل الوقائع ولم يكشف عن مصدر معلوماته.
*شهادات من قلب العتمة:
يلزم التذكير بأن زابرانا انكب على مذكراته سنة 1980، حينما أمسك الاتحاد السوفياتي بأنفاس تشيكوسلوفكيا بعد احتجاجات متوالية ثم الإعلان عن الميثاق77.خلال تلك الفترة، كان البلد منغلقا تماما عن الغرب ؛وبالتالي يستحيل بعد أربع وعشرين سنة على الواقعة أن ترشح معلومة، بهذا الحجم قادمة من الغرب نحو الداخل، فحتى بالنسبة لمختص في فكر كامو ستواجهه صعوبات جمة كي يحيط بتدقيقات حول الموضوع.
أنا بدوري، كان علي الذهاب إلى فرنسا كي أستعرض كتابات كامو حول هنغاريا. بهذا الصدد، روى لي صديق يمارس التدريس في جامعة براغ بأنه خلال تلك الفترة انعدمت إمكانية الحصول على أبسط مقال جامعي من الخارج.
وفيما يتعلق بالمحامي سبازالي، الذي أشرت إليه في كتابي، فلا يتعلق الأمر بمحامي بسيط:بل أحد رجالات القانون المحترمين جدا في إيطاليا، والمحرك الأول للمحاكمة الشهيرة “ماني بوليتي” (الأيدي النظيفة)، التي حددت نهاية الجمهورية الايطالية الأولى، رجل ينتمي إلى صفوف اليسار الجذري، أصبح صديقا لجاك فيرجيس ومهتما بملفات اللاجئين السياسيين الايطاليين في فرنسا ؛بالتالي لم نقابل هنا أعداء رجعيين للاتحاد السوفياتي يتوخون الإساءة إلى صورته.
همس له فيرجس على نحو حميمي بقناعته حول اغتيال كامو، لكنهما احتفظا بسرية المعلومة. في هذا الإطار، أدين بالفضل إلى الأستاذ سبازالي لكونه باسم الحقيقة، كشف لي عفويا عن إشارة ذات أهمية القصوى.
*ذاكرة ألبير كامو:
تكمن مهمة الباحث والمؤرخ في سعيه إلى فهم السياق الذي جرت وفقه الوقائع التاريخية وكذا فهم المبررات والقوى التي يمكنها تحديد الوقائع.في القضايا الأكثر إثارة المتعلق بعالم الجاسوسية، لايمكننا إدراك الحقيقة سوى بفضل اعتراف مباشر من طرف أبطال القضية، يعتبرون قتلة في الغالب.
إبان إحدى أبحاثي كنت في احتكاك مع شهادات مباشرة عن حقبة الحرب الباردة، أدلى بها أشخاص عاشوا الفترة الرهيبة ويعرفون الأساليب جيدا، والتقنيات وخاصة المناهج التي تتحكم في القرارات المهمة.
سافرت بشكل متواصل نحو بلدان شرق أوروبا لأكثر من ثلاثين سنة، هكذا تمكنت من فهم عميق لوظيفة النظام الاشتراكي، وطبيعة ذهنيته، التي خولت له الصمود، والاستمرار في بلدان جمهورية الاتحاد السوفياتي سابقا.
كتب العزيز بيير باولو بازوليني، في مقالته الشهيرة المعنونة ب”أعرف”: “أعرف باعتباري مثقفا، وكاتبا، يحاول أن يتابع مختلف ما يحدث، وما يكتب عنه، وأتخيل جلّ ماهو مجهول أو مضمر؛ثم أرتب الأحداث حتى البعيدة منها، وأجمع الأجزاء المفككة و المتشظية لإطار سياسي متماسك، بحيث ينبعث منطق تنكشف معه هيمنة الاعتباطي، الجنون والغامض”.حاولت ببساطة استخلاص دلالة فكرته.
درست طيلة سنوات عديدة حالة ألبير كامو، وتأثرت أيضا بالحقبة التي عاش فيها، قبل اتخاذي قرارا بكتابة هذا العمل.بادرت إلى ذلك حينما اكتسبت قناعة مفادها أن سبب موته يعود إلى عملية اغتيال، وقد بدا لي هذا مثل واجب نحو الرجل الذي ألهمني الكثير، لأني أردت البحث عن الحقيقة بخصوص موته.
أتمنى أن يمثل هذا العمل مناسبة لاكتشاف دلائل أخرى، وشهادات جديدة، بغية تبديد موجة الصمت والنسيان، قبل أن يمحو الزمان إلى الأبد كل أثر لما مضى حقيقة.هذا التطلع المفتوح نحو أجيال المستقبل يثري معنى مجهوداتي.
يجدر بنا فعل ذلك، من أجل ذاكرة ألبير كامو، العزيزة علينا.
….
*مرجع النص:
Giovani Catelli: L’inactuelle -15 janvier 2020.