حسني حسن
لكن الغريب، أن سانشو، وبعد أن استجاب سيده، أخيراً، لرجاءاته وتوسلاته المتكررة، بالعودة إلى الديار، حيث أسلم السيد، النبيل العجوز، نفسه لحياة البطالة والعطالة والنوم، الطويل اللذيذ الخالي من أحلام البطولة ومغامرات الفروسية، وحيث غزا الشيب ما تبقى من شعر رأسه الصلعاء، وارتخت العضلات منه، وتراكمت طبقات الشحم فوق ثنيات جسده الذي كان، ذات يوم، مشدوداً ضامراً ومنتصباً كرمحه خالد الذكر، وحيث ألقى بذات الرمح، ومعه بدلة الفارس الحديدية وخوذته، في قاع شونة الأغراض القديمة ليعلوها الصدأ ويطويهما النسيان…
لكن الغريب، أن سانشو، القصير البدين، الملتصق بطين بيته وبلدته كما تلتصق ضفادع الحقول بطينها، كان هو من بات، هذه المرَة، مؤرَقاً مَسبياً، بذكريات الأسفار وبحنين الترحال الأبله صوب الأحلام والخيالات والأوهام والمغامرات. وهكذا فقد بادر، ومنذ أن استيقظ في الصباح الباكر على خلاف عاداته، بالدخول على الشيخ، الراقد في فراشه، مكتفياَ زاهداً وبلا حول، مخفوراً بما استطاع أن يستنقذه، وبعد توسلات وبكاء مرير، من بقايا كتب الفروسية والمغامرات العتيقة، التي أقدم صديقاه، المحبان الراعيان، قسيس الأبرشية ومعلمها، على حرقها، بكل طيبة وإخلاص وحسن نيه، بغية تحرير صديقهما، النبيل المخبول، من سحرها وغوايتها المسكونة بروح الشرير، الأمر الذي أفلحا فيه، في نهاية المطاف، ونجحا بتحقيقه، بامتياز، ليظل الفارس القديم محض ذكرى شبحية لجنون الأحلام وحماقة الخيالات.
– إذاً، هل ثمة أمل في أن نعاود جولاتنا الرائعة، قريباً، سيدي الفارس النبيل؟
يسأل سانشو بينما يقعي على أرضية الحجرة الخشبية، مرتبكاً حائراً ومتهيباً الحضور في أفق السيد الراقد ساكناً على سريره، العريض الواطئ، ثم يتابع موضحاً، وربما معتذراً:
– كم أشتاق إليها الآن!
سيحافظ سانشو على انتظاره، وسيتعلم، رغماً عنه، أن يمد في حبال صبره القصيرة، وسيتمسك بأملٍ، واهٍ زاهٍ مؤتلق، أن يخرج العجوز، الذي أحالوه مؤخراً لزكيبة بطاطس شحمية الهيئة في منامات حريرية الملمس، عن خرس لم يعهده فيه، أبداً، حين راحا يقطعان البلاد ويمخران العباب ويؤسسان، سوية، لممالك الحلم وفراديس الأصباح والأماسي، وهما يمتطيان فرساً شائخة وأتاناً.
– وكم كنتَ أنتَ جميلاً، وقتها، جميلاً جليلاً ومهيباً فوق فرسك، كملاك مُجَنح يطوف في سماوات المدن والضيعات البعيدة شاسعة الحقول، تؤدب المجرمين والعصاة، وتؤسس لخادمك، الفقير الطيب، سانشو مملكة صغيرة، على مقاسه، ليستريح فيها من تعب رحلته، ويستقر.
راح سانشو، وقد استبد حزن مباغت، لا يكاد يغادره منذ عاود سُكنى حياة قريته القديمة عقب اعتزال سيده جوب الأوهام، يرفع عينين متضرعتين نحو العجوز الصامت، وكأنه يستحثه على أن يتنازل عن هذا الصمت، ولو لدقيقة واحدة، فحسب، علًها تُعيد إلى بال سانشو شيئاً من طمأنينة وبهاء سحابة رؤيا مرقت ذات ليلة من ليالي الأصياف الكاذبة.
– أما عاد لديك، بعد، ما تزجيه إلى، وتعد به، تابعك المسكين سانشو، أيها الفارس الطيب؟
صاح سانشو، غاضباً متخففاً من رواقيته الطارئة، وممعناً نظره في شبح الرجل، الذي طالما عرفه وصحَبه، بالليل وبالنهار، عبر الوديان والجبال، في الصحارى وفي السهوب اليانعة، ولا يرى منه الآن شيئاً، اللهم إلا كومة من لحم شائخ ونثار حلم متيبس، ونذير موت.
أدرك سانشو، وإن متأخراً أكثر من اللازم بكثير، أكثر مما تطيق الحياة على احتمال التأخير، وإن لم يكن، بالضرورة، أكثر مما تدخره هذه الحياة؛ هي ذاتها، لكل سانشو من خيبة أو من إدراك، أن أوان توديعه لسيده النبيل قد حلَ، أو أن نزول سانشو، إلى طين القرية وترابها، من قمة الرجاءات والآمال، قد صار آخر ما ستقطعه قدماه، الحافيتان المتشققتان، من خطوات في كتاب المغامرات، القديمة المستعادة، الذي لم ينجح لا قسيس الأبرشية ولا أستاذها في إحراقه، نهائياً، وبالرغم من حرصهما الشديد على ذلك!
وكانت لعناته، القلبية الصادقة، على هذين الخالدين، هي آخر ما ما قذف به سانشو وجه الوجود، وهو يهم بالنزول.