تنشط ذاكرة الشاعر عندما تنشط ذاكرة المكان ، وهما يشكلان ذاكرة لفضاء أوسع ينتج عنه ولادة عسيرة لجنين الجملة المتراصة مع أخواتها واللائى يشكلن جسد القصيدة.
والقصيدة هي ما يختبئ تحت معطفها الشعر، تلك الأنثيالات الهابطة من أمكنة الخيال والتفكير والمسجلة على اللوح أو الورقة خواطر وأحلام ورؤى يعتقد الشاعر أنها ولدت نتاج تفاعل ما يكمن في باطنه وهذا العالم الذي يتحرك حوله ويوعز أو يثير فيه رغبة التأثير.
وحتماً العالم هو المكان ، وأهم مكونات هذا المكان هو المدينة ،الجزء الكبير من الكل الأكبر، ومن المدينة تتجزأ الأمكنة إلى أصغر فأصغر حتى نصل إلى مكان موطئ القدم وربما هناك ما هو أصغر منه، تلك المساحة الضئيلة من الأرض التي تخزن فيه النملة مؤنة الشتاء.
عندما قرأت كتاب غاستون باشلار ( جماليات المكان ) اكتشفت : أن الأمكنة هي مدن تتجزأ وتتحد عندما تشعر برغبة الخيال ليكتبها بشكل مختلف. وبالتالي تجد الجميع يصنعون في المخيلة مكاناً مفترضاً ، ولكنه موجود ولو بنسبٍ مختلفة ، والتعبير عنه يختلف أيضا بين واقعية التناول أو سحريته ، المهم دائما هناك مكان نركن عنده ونطلق من نافذته خيالات التصور وفلسفة التفكير ورؤى التغيير.
تولد المدن عندما تولد الأحلام وتتسع مع خيال المكتشفين والمغامرين وصناع الضوء والآتين من الطفولة الحقيقية. وهي الأمكنة التي تصنع الماس للخيال الذي يولد في لحظة الموهبة ، ففيها تؤسس اللحظات التاريخية ومحطات أزمنة العيش ومراحل نمو العقل ، والمدينة تبدأ من إشارة الجفن وتنتهي في بقعة التراب ،وبين المساحتين تمتد البيوت والشوارع والمقاهي وقصور الولاة وحدائق اللحظة العاشقة. فكان العيش في المكان يعني التأسيس لسيرة ذاتية يفترضها المرء بمستويات ذهنية متباينة ، بعضهم يوثقها بعاطفته والقلم والبعض لا يوثق أي شيء حتى في نزعه الأخير.
يتشكل جسد المدينة من مكونات لا عدد لها بين أن تكون مادية وروحية ،وربما الطوب والخرسانة والخشب هو أهم مكونات المادة المكونة لجسد المدينة ، أما الذاكرة والمشاهدات والتفاعل الحياتي والمنتج الفكري والذهني والتقني هو الذي يشكل روح المدينة ، وبين المادة والروح يتكون الكيان الذي يصنع الحياة بأشكالها الطبقية والمتباينة والتي تخضع في محصلة النهائية إلى القدرية التي قد نقنع فيها أو لا نقنع ،وبالتالي فكل شيء يولد من هاجس المكان والبيئة والمنزل هو في النهاية مدينة بحجم متباين ، لكن شكل ما ينتمي إليه قلقنا وحلمنا ونتاجنا الحياتي يكمن في هذا الفضاء الذي تسيطر عليه صور ثابتة ومتشابهة ( البيت ،المقهى ،الشارع ، بناية المدرسة ، حديقة البلدية …الخ ).
تختلف صورة المدينة وما تعكس من هواجس وأسقاطات بين وعي ووعي ، بعضها يخضع لإشكاليات نفسية وأخرى ميتافيزيقية والبعض الآخر واقعي وهو الأغلب.
لكن صورة المدينة في شكل الميتافيزيقا المبني على التفاعل الروحي والباطني يمثل رؤية عميقة ومدركة لشكل المدينة ، فهو حتما نتاج الإسقاطات المقروءة جيدا حتى لو في شكلها الفلسفي والخيالي كما قرأه الكاتب الإيطالي ( أيتاليو كالفينو ) في كتابه الشهير ( مدن لا مرئية ) الذي صنع فيه الشكل المتخيل للمدينة الحلم عبر تساؤلات ( قبلاي خان ) التي طرحها بفم المندهش على الرحالة الفلورنسي الشهير ( ماركو بولو) ، فكان الرحالة يصف له مدناً هي ليست موجودة أصلاً ولكن الإمبراطور اقتنع في وجودها وتمناها أن تكون من مدن عرشه الهائل ، وبالتالي فكالفينو كان في الأصل خاضع لسحر مدينة واحدة تسكن أعماقه وعليه أن يرسمها للآخرين ليحلموا معه للعيش فيها ، مدن تكتمل فيها الشهوة والفن والذروة والسعادة. وهو في النهاية إنما يصور ما في ذهن البشر في حلم بناء المدينة الفاضلة والكاملة حتى لو في شكلها الغرائبي.
تمتلك المدينة غموضها وفضيحتها من خلال طبيعة وجودها ، ولكل مدينة ظلها وعطرها وبيئتها المختلفة ، لهذا لن يتشابه التعبير عن مدينة عن أثنين مطلقاً لأنها تعكس سحرها على خصوصية الناظر ولا تلفت إلى الرؤية الجمعية ، فقد خلقت المدن لتكون خاصية الفرد التي تجمع يوم الجميع ولهذا فنحن نعبر عن مدينة نسكنها جميعنا ولكن لكل واحد نظرته في التعبير عن رؤى المدينة التي تعيش فينا.
وعلى هذا المنظور سنقرأ هذا السحر وهذا الغموض في رؤى شاعرين بارزين من شعراء القرن العشرين.
الأول عاش في عزلة الكلمات المهيبة والغريبة والأنيقة والتي تمتلك واحد من اشهر المفارقات الصورية المدهشة هو الفرنسي سان جون بيرس الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1961والمولود في جزيرة غواندلوب الفرنسية ( 1887 ــ 1975 ). هذا الشاعر الذي أشتغل في سلك الخارجية الفرنسية وكتب على رؤاها وسرها واحدة من أجمل ملاحم القرن الشعرية ( آناباز ) التي تحدث فيها عن الهم الكوني الذي يصيب القادة العظام لحظة التراجع إلى الوراء.
الثاني شاعر للذة الحس ودهشته الجنسية المثيرة، شاعر الزمن المصاغ من عزلة الزمن الهيليني والغابر والذي يمكننا أن نصنع منه جمالاً فاتناً في ثياب المحظور ، لهذا كان يكتب على عتمة الشموع عن عالم قديم لم يكتشفه سواه .
اليوناني قسطنطين كافافيس ( 1863 ــ 1933 ) ، الذي لم ير من الانتماء إلى التراب اليوناني سوى النسب البعيد فقد كانت الإسكندرية هي وطنه وهي ملاذه الأول والأخير بعد أن جلبه والده تاجر القطن من أسطنبول ليعيش فيها يتيماً وموظفا بسيطا إلى أن يموت ويكتشف العالم قدرة قصائده على صياغة دهشة جديدة لعالم يغرق في الحروب والحداثة الباهتة.
لكافافيس وسان جون بيرس تكون المدينة جزء من الهم الشعري. وربما كافافيس أكثر قربا للمدينة كزاوية للحياة الشخصية ،لأنه مات وعاش في مساحة معلومة واحدة هي الإسكندرية التي صنع فيها عالمه الخاص والذي ينتمي إليه بفضل التاريخ أولا ومن ثم بفضل الموهبة التي صنعتها أم مكافحة وقاسية. ولهذا عندما يكتب كافافيس عن المدينة فهو يكتب عن تاريخه الخاص الذي ربطه بشجن الزمان المستعاد ولكن برؤية أخرى تقترب حتى من مجون الحس وانفلاته المطلق اتجاه ربيع الأمس ومناخاته التي كان يخبئ الشاعر فيها ما اعتقده العالم خلاعة الارتباط وتدوين غامض لفصول تاريخ كان العبث والحرب والفلسفة يشكلون رؤى وجود أغرقة الكون وجعله واقفا على قاعدة الإله المتجبر زيوس في انتظار فرصة احتدام الحرب مع الفرس أو البرابرة أو ساحات اللهو وتقاتل العبيد الأشداء.
لهذا فالمدينة عند الشاعر هي ليست سوى ( منفى الروح الدائم ). ونقطة البحث عن شيء يفتقده دائماً. ولم تكن الإسكندرية ( المدينة ) بالرغم من كونيتها وبهجتها وانفتاحها البحري على العالم إلا إنها بالنسبة لشاعر مثل كافافيس نقطة من دمعة يستطيع أن يرى من خلالها زمن جميل ولكنه لا يأتي بماديته وملابسه المزركشة سوى بلحظة مرتعشة ومجنونة وثملة وغريبة وهذا ما جعل الآخرون ينظرون إلى عالم الشاعر ومدينته بريبة بالرغم منه انه حمل من البعض لقب ( حارس المدينة ).
على عكس كافافي كان بيرس ينظر إلى المدينة بمنظار آخر يقترب من صناعة المكان ( الملحمة ) فقد كان الشاعر يؤسطر أشياءه وأمكنته في كل نص يصنعه. فهو شاعر لبناء الهياكل الفخمة والجمل التي تسرد حكاية الغامض الواضح في بناء بلاغته الأنيقة والفخمة ، لهذا فالمدينة عند بيرس هي القصر الذي يأوي كل الأشياء ويفرش ظله عليها ، وهي تواريخ لمجد طفولة لاتصنعها بلادة الكلمات ، بل تلك التي تجعلنا نسبح في مطلق حياتنا المنشاة على حبال الغسيل كضوء زمردي من شمس تتثاءب. لأجل هذا فأن مدينة سان جون بيرس مغايرة تماما لمدينة كافافيس ولكنهما يلتقيان في نقطة واحدة ، تلك الدهشة التي تصنع صورة لمدينة موجودة وغير موجودة في نفس الوقت بالرغم من أن كافافي يتحدث عن مدينة معلومة ( الإسكندرية) ، فيما بيرس يتحدث عن مدينة معلومة وغير معلومة وهي تنتمي إلى مكان واحد أينما كانت علىالأرض.
كلا عنواني القصيدتين هو ( المدينة ). غير أن الشاعرين يبدأن من زاوية نظر مختلفة .بيرس ينشط الأشياء في اتجاهات المطلق الذي لا ينتهي .وكافافي ينطلق إلى عمق المكان والبؤرة المشكلة للنهار والليل الرتيب الذي يعاصره الشاعر منذ ساعة الوظيفة الأولى حتى ارق الغرفة المعتمة ومعايشة الأطياف السحيقة.
يمضي سان بيرس كشأنه في تناول الموضوعة الشعرية إلى فتح مغاليق الكون أمام قراءة تراث مدنية يفترضها كما عند كالفينو. مدينة موجودة ولكن برداء الأسطورة وهيبة المشهد.
تبدأ المدينة عند بيرس بنشيده المعتاد. النشيد الذي يطلق أبواق المديح لمكان يتخيله عبر سحر الجملة والتخيل لمكان يلازمه منذ طفولته الاستوائية.مدينة تبتعد عن يومها العادي لتدخل في يومها الأسطوري المنسوج من حكايات المربيات الأفريقيات والتي تتحدث عن يوم مختلف عن طبيعة ما نشاهد يوم لمدينة نتخيلها من خلال العطور والحيوانات الغريبة والرجال الذين يمتلكون أشكالاً مختلفة ، لهذا تكون المدينة مختلفة ولكنها موجودة في عقل الطفل الذي كبر ومسك لجام الكلام ليعبر عنها بما يليق بها من مكان خصب لصناعة الرؤى والتذكر وأقامت صروح ظلت تعيش مع الشاعر وتعلو معها كما أبراج الضوء في جناح الصقر.
فهي مدينة لرجال يمثلون ثقافات وحضارات عدة ، أولئك الذين يصنعون المدن بما يمتلكون من قوة البدن والروح والمتشكلون من أعراق وعطور مختلفة ، لهذا كان بيرس يضعهم في المدينة التي لا تتقابل مع تلك التي يأوي إليها كافافيس مع حزنه وعزلته ورتابة يومه ، بيرس يضع المدينة بموازاة أحلام الرجال وطموحهم ليكونوا ، لهذا يغرقها في الوصف ويمنحها المزيد من الثقة لتكون مع بناتها ومؤسسي غرابتها ويومها الساحر. الرجال الذين هم ارق من جنح الفراشة واخشن من حبل القنب .هم من يؤسسون مدينتنا ويمنحونها صفتها الكونية لتطفو على محيط العاطفة كما الحيتان الهائلة في فم قصة البحار.
“الإردواز يغطي سقوفهم، أو القرميد حيث ينمو الطحلب ،وعبر أنابيب المداخن تتسرّب أنفاسهم
دهون!ورائحة رجال مستعجلين، ماسخة كرائحة مجزر!حموضة أجساد النساء تحت التنورات!
يالك من مدينة فوق السماء!
دهون! أنفاس مسترجعه، وبخر جمهور مريب – لأن كل مدينة تحتضن أوساخها فوق منور الحانوت – فوق قمامات ،الملاجئ – فوق شذا النبيذ الأزرق في حي البحارة – فوق النافورة المنتحبة ،في فناء مركز الشرطة – فوق التماثيل الحجرية النخرة وفوق الكلاب الضالة – فوق الصبي الذي يصفر بفمه، والمتسول بخديّة المرتجفتين على فكّيه الغائرين.“
هذه اللغة لا تصف المدن العادية أبداً ، بل تصف مدينة تزدحم فيها أخيلة من نوع خاص ،تلك التي تحتفي بمناخها في ظل صخب يومها السحري التي سكنت مخيلة الشاعر بأجواء زنوجتها وفرسانها الأشداء من بحارة وجنود وبائعي توابل ، أنه يرصد حياة مدينة تطوف في قضاء طفولته البعيدة ،تلك التي أحس معها ببهاء المدينة وأسطورتها وكأنه يصف مدينة تسكن حلمة أثداء المرضعات القادمات من مدن الأناناس والصنوبر ودوامة الريح التي لا تنتهي إلا مع ثمالة القرصان وغنج طير المساء الفخم ،لهذا فالمدينة عند سام جون بيرس بمضي إلى الغرابة دائماً.
“مريب – لأن كل مدينة تحتضن أوساخها فوق منور الحانوت – فوق قمامات الملاجئ – فوق شذا النبيذ الأزرق في حي البحارة – فوق النافورة المنتحبة في فناء مركز الشرطة – فوق التماثيل الحجرية النخرة وفوق الكلاب الضالة – فوق الصبي الذي يصفر بفمه، والمتسول بخديّة المرتجفتين على فكّيه الغائرين، فوق القطة المريضة بجبهتها ذات الغصون الثلاثة.يهبط المساء على أبخرة البشر
– المدينة خلال النهر تسيل في اتجاه البحر كدمل…“
عند سان جون بيرس ، تقرب المدينة من البحر دائما ، وهذا يشابه كافافي في رؤاه ، فهو يعيش ويموت في مدينة البحر أيضاً ( الإسكندرية ) ، فهي في مجاورتها لهذا المدى الشاسع من الزرقة إنما تصنع عنده صورة مصغرة لما يجري على الأرض برمتها ،ليصير البحر صانع للكيانات القائمة والتي تعوم على فضاء الذكريات لتصنع أخيلتها القادمة من الزمن البعيد والذاهبة إلى الزمن البعيد. فتمتزج صورة المدينة في البحر في خليط من المشاهد والاستذكار وتدوين ما يجري في ذلك اليوم الذي يبسط ألوان حياته على طبائع الأشياء ويرصد كل شيء يتنفس ليصنع منه بهجة صناعة ( الحلم ) على شكل مدينة.
يصف سان جون بيرس البحر وبحارته ويضعهم داخل جسد المدينة كشكل من أشكال التوافق الأبدي بين المتحرك والثابت. فالمدينة هي في النهاية مستقر لأولئك الذين يذهبون إلى الأقاصي ثم يعودون في النهاية إلى مدينة يصفها الشاعر بكل تفاصيلها ، والتي تبدو دائما بالرغم من ثبات عمرانها ،إنها امتداد متحرك إلى ذلك البحر الذي لاينته افقه إلا عندما يفكر العائد إلى المدينة براحة في حانة أو أريكة مقهى.
“كروزو!- في هذا المساء، بالقرب من جزيرتك، ستأتي السّماء لتلقي مدائحها للبحر، والصمت، سيضاعف من تعجبات النجوم المتوحّدة.أنزل الستائر، ولا تشعل الضوء:إنه المساء فوق جزيرتك ومن حولها، هنا وهناك،في كل مكان حيث يستدير إناء البحر استدارة تامة،إنه المساء لون الأجفان، فوق الدروب المنسوجة من سماء وبحر.الكل مالح، الكل لزج وثقيل كدم حي .
الطائر يتهدهد في ريشه تحت حلم زيتي ،الفاكهة المنخورة تسقط في ماء الخلجان نابشة ضجتها، ومن قلبها تندفع الحشرات.
الجزيرة تغفو في خليج المياه الواسعة، مغسولة بالتيارات الحارة، وبالغدد الدسمة لذكور السمك، في تآلف مع الأوحال المزهوة”
هذا المديح والمتداخل بين البحر والمدينة عند بيرس هو إيقاع أزلي في ثقافة الشاعر ولم يتخلى عنه قي كل ملاحمه الشعرية ، ليرنا من خلال هذه الأنشودة العلاقة القائمة بين الحس والمكان ،وهي الجدلية التي تجعل اغلب المبدعين يذهبون إلى قاع المدينة قبل الذهاب إلى قاع فم الحبيبة. فهو في جعل المدينة نقطة الوثوب إلى الاكتشاف إنما يعيد الأشياء الطموحة إلى مكانها الأول ويزين هذا المكان بالتصوير التي ميزت شكل الشعر لدية ،صورة للمفارقة والبرهجة والبهاء التي يصنعها من ضجيج المدن وحماسها ونحاس أبوابها الصدئة ،صور تجعل من المدينة خيال مفترض ولكنه اكثر من حقيقي كما في هذا المشهد الذي يعكس فيه الشاعر صورة المدينة التي تسمو على الواقع لتقترب من الفردوس بالرغم من وحشية قططها المخططة كما نمور من عشب ازرق.” تحت أوراق الشجر يتنادى بخفوت- ودويبات أخرى عذبة، يقظى في المساء، تغني غناء أصفى من تباشير المطر: تلك هي اللآلئ في أصدافها تزدرد صافرة بحنجرتها الذهبية.صرخة الميلاد تنبعث من دوامات المياه الساطعة.“
أنه قداس السحر الذي لامثيل له هذا الذي يطلقه الشاعر في مدائح مدنه الذي لم يعشها غيره بهذه اللذة وهذه الرؤيا.
وصف لاينته من عذوبة ما يمتلك ، فهو يضع المدينة كما شانه دائما عند تخوم أوردة الفلسفة ليمشي فيها دم الحياة وتعيش لحظة التحول التي كان بيرس معجبا فيها عندما كان يعلن إعجابه الدائم بفلسفة هيرقليطس. ليوحدها بشكل المكان وقيمته المعرفية والجمالية والبيئية وبالتالي فسان جون بيرس مأخوذ بدهشة تصوير الأشياء على غير عادتها لتكون مؤثرة وطقوسي وبالتالي تنقلنا إلى أمكنة أحلامنا وهذا ما نريد.
وفي النهاية ،تستمر المدينة في صناعة غدها القادم ذات الدهشة وذات المشاهد ، ويبقى الشاعر يدقق في موجودات المدينة ويمزجها في رغبة الاستمرار والديمومة لتظل وتبقى صانعة لحضارة روحه وعقله وإبداعه.
“صرخة الميلاد تنبعث من دوامات المياه الساطعة! تويجات، أفواه توتياء، لون الحداد الذي يظهر نقطاً ثم ينتشر! إنها أزاهير تتحرك في السفر، أزاهير تحيا إلى الأبد، ولن
تتوقف عن النمو عبر العالمي اللون النسائم الدوارة فوق المياه الساجية، سعفات النخيل التي تخفق!
وليس من نباح كلب بعيد يدل على الكوخ، والدخان المسائي والصخرات الثلاث السوداء القابعة تحت
شذى الفلفل.لكن الوطاويط تمزق المساء القهوائي بالصرخات الصغيرة.الفرح! أيها الفرح الناحل في ارتفاعات السماء!
كروزو! أنت هنا ووجهك قربان لإشارات الليل، ككف مقلوبة”
تنتهي المدينة عند سان جون بيرس في هذا الشكل المثير. لتبدأ إثارة أخرى ولكن في هاجس مختلف وعند شاعر عاصره بيرس لكنه بيرس ظل يعيش القرن السريالي فيما كافافيس توفى في الثلاثينيات من القرن المنصرم تاركا للعالم تساؤلات حسه الثري والغريب والذي عد بعد أن كشف عنه لورنس داريل في رباعية الإسكندرية على أن شعره قيمة حقيقة للوجود الإنساني لما يفكر فيه الإنسان الغربي بعد مأساة الحربين الأولى والثانية ،واعتبره طلبة الدراسات الأدبية في أوربا بأنه صانع كشف لحقيقة يجلونها ويعرف عنها هو وحده وليجعلها غاية في إظهار مافي الباطن من جمال وخيال واستمناء للجسد الذي أباحته وعرته تقنيات القرن العشرين.
يكتب كافافيس بغيب إغريقي تسمو فيه عاطفة الجسد وثياب الإمبراطور وكان على الدوام يعيش غيبة الأبد داخل قبو الشعر ليصنع عزلة من الماس ، وعندما يفكر بالواقع فهو يفكر فيه من خلال خيبته الأسرية وما يعتقده منفى اختياري وقدري مكنه من مزاولة أحلامه وملذاته وطقوسه بحرية ( حزينة )يعكسها في صور الأسى المنتشرة على نصوص أزمنته الإغريقية المستعادة ، ولجل فهو في قصيدة المدينة إنما ينظر إلى الواقع الذي صنع قسرية الرضا لديه بمكان لم يعشق فيه سوى تلك اللذة الحسية التي تسكن جسده وحواسه في تلك الشقه الضيقة ،فعليه فان رؤية كافافيس للمدينة تختلف تماما عن رؤية بيرس للمدينة فهي تتسع لدى بيرس وتضيق لدى كافافي ، وفي المحصلتين فالحديث هو عن مدينة كونية واحدة.ففي قصيدة المدينة يكتب كافافيس عن مكان يصنع رتابة يوم الشاعر في روتين محسوب. ويعكس أيضا الحالة النفسية التي يكشفها الحديث عن الغموض السحري لمدينة لا يريد الشاعر أن يمنحها صولجان المجد كما عند بيرس بل يريدها أن تكون مثله تعيش عزلة الذات والخراب الذي يعتقده الشاعر لما تعرض له في كل حياته. مدينة بالرغم من هذا الهجاء تبدو ملتصقة به وتصد هذا القريظ اللاذع الذي أراد في الشاعر أن يشهر حزنه ولكن أمام نفسه فقط. فهو مهما يفكر بأماكن أخرى يعود إلى المكان ذاته ،معترفا بصورة شعورية أن الابتعاد عنها مستحيل لأنها شكلت قدره الحياتي والشعري. انه يلتصق فيها قبل أن تلتصق فيه ، وهي وحدها من بين كل الأماكن من تتحمل هذا الهجاء والغيظ .
“ قلت : سأذهب إلى أرض أخرى . سأذهب إلى بحر آخر .
مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه . كل محاولتي مقدر عليها بالفشل . وقلبي مدفون كالميت ، وإلى متى سيبقى فكري في الحزن . أينما جلت بعيني ، أينما نظرت حولي رأيت خرائب سوداء من حياتي ، حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت . لن تجد بلدانا أخرى ، ولا بحورا أخرى . ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها .“
هذا التيه المتشائم أنما هو انعكاس لطبيعة حياة الشاعر ، فصار يدرك مع غموضها تلك المأساة التي ظلت تلازم وعي الشعر لديه كما لازمت طفولته وصعوبة العيش التي عاشتها أسرته ،فلم يستطع أن ينال من غموض هذا السحر سوى مدينة تتشتت فيها آماله ويصغي إلى ليلها في معاقرة الخمرة من أطياف عارية لتلاميذ فلاسفة ومحاربين قدماء وأعضاء مجالس خيول وبرابرة يشعر فيهم الشاعر بأنهم جزءا من الحل لهذه المصيبة التي تلف حياته وتجعلها تدور مع يوم المدينة كما طاحونة الهواء سوى ذلك الليل الذي يختلي فيها مع بهجته الحسية ليغادر حزن المدينة وأبديتها ولو لساعات.
“وستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها . وفي البيوت ذاتها سيدب الشيب
إلى رأسك . ستصل على الدوام إلى هذه القرية “
تبدو مدينة كافافي ، مدينة متعبة يلفها تيه غريب يريد الشاعر من خلاله أن يرينا عبث وجوده ورتابة تلك القدرية التي لاتمت بصلة إلى عالمه الآخر الذي رسم فيه مشاهد رغبة أن يعيش في زمن الأمنيات الذي كان يفتخر فيه كل يوناني ،زمن أثينا المبتهجة بأساطيلها وجيوشها وأحصنة الخشب التي اختبئ فيها أولئك الذين يحاولون تحرير هيلانة من أسر العشق في طروادة.
وهاهي الإسكندرية كما طروادة يعاني فيها الشاعر من عشق جاءت به ظروف لم يردها هو بل قدر العائلة وظرفها المادي ،ليعيش طوال حياته فيها يؤسس لما اعتقده العالم بأنها طرائق جديدة لاعادة الزمن المستعاد وربما هي أنجع واجمل مما فعله مارسيل بروست في محاولته في كتابه (البحث عن الزمن المفقود ).
لقد أشاع هذا اليأس الرهيب في قصيدة المدينة لكافافيس أجواء من خيبة أمل كبيرة وعدم تفاءل في محاولة الشاعر للعودة إلى وطنه الأم ،لتبقى هذه المدينة وحدها من تلاحقه ،وربما هو لا يقصد الإسكندرية بالذات بل تلك المدينة التي يأوي إليها في أخيلة الليل ،فقد كان الشاعر يعيش انفصاما عجيبا في كل حياته ومحطاتها وما يؤديه في حياته الوظيفية واليومية إنما كان روتينيا مبرمجا ليوم مثل سابقه ،إلا أن يقظة الليل وحسيته وتمرد حواسه هي من كان يشعر فيها بوجوده ،وربما تلك المدينة البائسة آتية من ذلك الغموض البعيد والساحر والذي لا يعود إلا مع الأنشودة المستعادة بالطرائق المحرمة.
ولهذا ما سيقرأه دارس النص في أول القصيدة يتوقعه باق في نهايته ،فالشاعر لا يضع ضوءا في نهاية الأفق بل ستارة تحجب المضيء إلى الأمام حيث الخراب أينما تكون.
انه يأس حضاري وذاتي يتلبس الشاعر ويجعله يضع الأحكام المسبقة لكل حياته في المكان الذي ظل كافافيس يؤسس على يومه وليله تلك الأناشيد الساحرة والآتية من الزمن البعيد.
“لا تأمل في بقاع أخرى .
ما من سفين من أجلك ، ما من سبيل . ومادمت قد خربت حياتك هنا ،
في هذا الركن الصغير ، فهي خراب أينما كنت في الوجود “
هذا كافافيس ، وذاك سان جون بيرس ، يضعان صورة مختلفة لتصور عن مكان واحد.بيرس يعطي للمدينة طاقة النهوض مع أشياءها ويحولها كما هي إلى ملحمة صانعة للحياة كل الأشياء التي تدب على الأرض ، وكافافيس يجعل منها مكان خامل وبائس ومحطة لنفي العاطفة ،وفي كلا المدينتين ثمة غموض وسحر ودهشة.