ساعةُ الرمل

محمد هاني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد هاني

كان حوارًا بالألمانية، رغم جهلي بها إلا إن الاقتضاب أضاف صبغةً واقعية للموقف. قابلتها في حفل منزلي ذهبتُ إليه مع  صديقة حاولنا سويًا التقدم بالصداقة إلى منطقة أكثر حميمية. فرقتنا مبادرات الاختلاط بالحضور، ووجدت أحدهم يقدمّني إلى صاحبة المنزل. صرنا وحدنا بعد قليل، ورغم براءة الحوار وغرابة لسانه عني، استطعت قراءة نظرتها التي مرت خلالي، ابتسامتها الملازمة الساخرة، المسافة المفقودة بين جسدينا أثناء محادثتنا الساذجة. تحركنا بدون اتفاق بحثًا عن موقع خال بعيد عن أعين الجمع وعين من اصطحبتني إلى هنا بالأساس، وكان ذلك  في خاطري فقط، لم تكن صاحبة الحفل لتبالي بأي من هذا.

 استوقفتني بركن لم أستطع سماع الحفل منه، لكن صوت حافلة مدرسة أبناء جيراني بدا قريبا، فاستيقظت مستعدًا لإزعاجه كمعظم أيام الدراسة الأسبوعية الخمسة. تحديدًا بالسابعة إلا الربع تقف العربة بآخر الممر المؤدي لباب المنزل أسفل نافذة غرفة نومي، ويريح السائق يده القذرة على آلة التنبيه لعدة ثوان دون انقطاع، فيصدر صوتًا مُحشرجًا غليظًا يكرره عدة مرات حتى يعلو صوت أقدام الطفلين مسرعين على سلالم المدخل للالتحاق بزملائهم. يمضي السائق بالحافلة ويتركني غاضبًا بنية ترك رسالة له مع الخفير، لكن الأولى التوجه لصاحب الأمر، سأطلب من الخفير أن يبلغ والد الطفلين بانزعاجي، أو الأفضل أن أُبلغه بنفسي، استأذنه في إخبار السائق، أو ربما اقتراح إشارة مختلفة لنزول التلاميذ، استخدام المحمول مثلا، قد يجيبني بأنّهم لا يريدون لأرقامهم الانتشار وسط هذه الفئة، من الممكن أن ينتظروه بممر المدخل مثلما كنا جميعًا نفعل، سوف يبدي خوفه على أبنائه بالتأكيد. من الأفضل الصبر والتأقلم، فهذا المكان أفضل من غيره، اخترته بعد شهور من البحث هاربًا من إزعاج ما قبله. لا أومن بجدوى الشكوى، فهي بضع دقائق ثم يملأ الفراغ وصوت العصافير بعدها هذا الممر بين المبنيين المتجاورين، وكباقي الأيام الخمسة سأكمل حصة نومي. تطورت قدرتي على التجاوز، خصوصًا بعد بضعة أشهر من الاحتمال، منذ بدء العام الدراسي، وبالفعل عدت للنوم لكن فُرصي مع الألمانية قد ذهبت دون رجعة.

نجحت في إرجاء بداية يوم أعلم ما يلزم لدفع ساعاته، استقررت بموضعي في الفراش أُنهي ما تبقي من تردد. سحبتُ المحمول من الطاولة المجاورة بأمل بائس في إخطار قد يهدم خططي لليوم، وبعد اطمئناني لسباته قمت بخطوات مثقلة لدورة المياه، أغسل وجهي وأسناني على مهل كما اعتدت لسنتين، تبعا لنصيحة طبيب أسنان أثق به. واتجهت بعد قضاء حاجتي الى المطبخ. أخذت بيضتين مسلوقتين من البارحة ووقفت قدام سلة المهملات لتقشيرهما وأكلهما. كنت عادةً أبدأ بتحضير وجبة الشوفان بملء الطبق وإضافة قليل من الحليب وادخالها الميكروويف لدقيقتين أتناول خلالهما البيضتين، لكن بعد النمو المتزايد لأوقات عجزت عن إشغالها، قررت التخلي عن أي خطوات قد تقتصد الوقت. أنهيت البيضتين ورجعت لتحضير وجبة الشوفان، وقفت الدقيقتين أنتظر جرس الجهاز ثم أخذت الطبق لغرفة المعيشة أتناوله على مهل، ولتوفير ما نستطيع تسميته بـ”فعل” أرجأت أي نشاط مصاحب للفطور. تركت الطبق بحوض المطبخ ثم قمت بتحضير قهوتي، وبعد احتسائها تركت كوبها بجوار الطبق السابق.

عدت للفراش وجلست ممددًا مستعدا لقراءتي اليومية. كتابان أبدل بينهما، كمادتين دراسيتين، أحدهما لامرأة تناجي ابنتها من غيبوبة، متشبثة بحدسها والكتابة كأداة للتواصل والتوثيق، لسنتين آملة في الشفاء. والثاني لرجل اقترب من فقدان عقله أو ربما المعرفة المطلقة، يحاول الاجابة عما وجب تقديمه للارتقاء من إنسانيتنا المزيفة منتهية الصلاحية. رغم سكني بالدور الثالث، أستطيع الانتباه لخطوات خفيرنا المسن وهو يستعد كغيره لممارسة عمله بعد ارتياحه لذهاب زبائنه كلّ لعيشه. يظلّ يقترب ويبتعد التسبيح لمن سخّر المصعد، مؤكدا لي ولمن لم يغادر بيته مثلي، دورة العجوز لجمع أكياس القمامة، كلما ضاق المصعد بها كررها حتى يُنهي طوابق المبنى. أشم رائحة دخانه لكني لا أعلم إذا كان متسربً من الخارج أم من سلالم المبني أو ربما أخطأت عندما نسبت الرائحة له. يعلن بصدمتين عاليتين لاتطام غطاء صندوق المهملات المعدني العملاق بالشارع انتهاء أول مهامه، أو بالأصح ثانيها. فعندما كان نومي أسوء، كنت أحيانا أصادف خُطواته الجرارة فجرا، في طريقها لإكمال باقي سيارات من تعاقد معهم على تنظيفها اليومي. يمسحها بقماشة مبتلة ويوفر إضافة الصابون لمرة واحدة أسبوعيا. ينتهي قبل بداية يوم عملائه، يقضي راحته الأولى بغرفته جوار باب المبنى، غرفة متر في متر، بها سرير وتلفزيون صغير وبعض المستلزمات اليومية، كسخان مياه لمشروباته ودولاب صغير للشاي والسكر وبعض المأكولات.

 بدلت اهتمامي بين الكتابين وما تسرب من ضوء خلال النافذة لسقف غرفتي، انتصف النهار وتجاوب أقرب مسجد لإعلانه، بدأت الكاتبة القسم الثاني من كتابها بفقدان أملها في عودة وعي ابنتها، فهممت بتبديل نشاطي حسب جدولي اليومي بينما استقر الخفير بغرفته لراحته الثانية. خرجت لغرفة المعيشة حاملا جوالي، بحثت بقنوات التليفزيون عن فيلم يستهلك الساعتين القادمتين. الأمل في أن يكون جديدًا وجيدًا، ولكني تنازلت في مساومتي حتى رضيت بما شاهدته من قبل ولم يضايقني، فمتابعتي لن تكون جدية على كل حال. سيقتسمها بحثي اليومي عن وظيفة، تماما كالتلفزيون، سأبدأ بما يناسب خبرتي ثم أتنازل الي أن ينتهي الأمر لمجرد متابعة طلبات سابقة قدمتها في مسلسل تعيينات الشركات أو عملاء التوظيف. وكأن سوق العمل انتهت ولن تأتي بجديد، على غرار محطات بث أهملها مستثمروها غير مبالين بمشاهديهم.

أخرجت من الثلاجة ما سأعده لوجبتي، تركته يذوب قبل تسخينه، والتفتُ لمراسلة الأصدقاء أثناء تلك الفقرة. أشاركهم تعليقاتهم وأتصفح تعليقات أخرى. قلّ زخم المناقشات منذ ضاقت دائرتي، ويتذكرني القليل من حين لآخر. كنت أندمج لساعة على الاقل في مكالمة أو اثنتين يوميا قبل انفصالي الأخير، وها هي ساعة أخرى تنتظر دورها في الإهدار. الوقت مناسب الآن لتسخين طعامي، تناولته بعد تجهيزه وانا أُشاهد مسلسلا قديما يطفح بخطابات شوفينية وقيم أصالة مزيفة ودعاية لتقاليد عفنة، كنت أُفند كل مشهد وجملة حوار، قد يتعجب الكثير لطاقتي المسكوبة ولكني اكتسبت بتلك المراجعة قدرًا من التثبّت كنتُ بحاجة إليه. بعد انتهاء الوجبة أكملت الفقرة وانا أراجع مرةً أُخرى فرص التوظيف، وفي كثير من الأحيان راجعت بذهني كيف قد تجري المقابلة القادمة، ما سأرتديه، الاسئلة المتوقعة، إجاباتي وكيف لها أن تتحسن، ربما تزداد فُرصي، وما قد أُواجهه من تحديات بعد التعيين، والطريقة المُثلى للتعامل معه وتجاوزه…

غمرني الترقب حتى صدمتني ذاكرتي: كيف  نسيتُ موعدًا أُطارده؟ في كل هذا الفراغ، ماذا يشغل رأسي عن أهم ما أفكر به؟ مقابلة توظيف تحدد موعدها منذ أيام، وها أنا الآن مكتوف الأيدي وقد شلتني اللطمة. من أين أبدأ؟ هل أستسلم لضياع الفرصة؟ ماذا عن ما وجب إعداده للمقابلة؟ هل أذهب متأخرًا وغير مستعد؟ ماذا سيكون تبريري؟ فكرت في الاتصال بهم، لكني وقفت عاجزا أمام أرقام لا نهائية غير مسجلة بمحمولي، تلفلفت القائمة حتى تداخلت قيودها، فأسرعت لارتداء ملابسي. سمعت صوت أنفاسي يعلو أمام المرآة وانا أُبدل ملابسي، قطعة وراء أخرى… كلّ ما جربته غير صالح، أضيق أو أقصر، ممزق أو ملطخ. بين تجربتين دقّ أحدهم جرس الباب، كرر  دقاته دون توقف وصاحبها بطرق عنيف، اتجهت للباب وأنا نصف عار، دون بنطلون. وقد نويت إهانة من كان بالباب، وعند وصولي هممت بالتنظر من العين السحرية، رماني بأقذر الشتائم وسب الدين لي ولأمي دون توقف الطرق. تملكني الخوف عندما أخبرني حدسي بأنّها محاولة استفزاز كي أفتح مندفعًا لأقع في كمين نُصِبَ لي. وأكد صوت الخفير في الخلفية وهو يصرخ ألما ما ينتظرني. انتابني رعب عميق وشعور بالعار من جبني في نفس الوقت حتى أنقذتني جارة لا أعرفها ولا أعرف شكلها، اقتحم صوت ندائها غرفتي بعنف، ظلت تنادي الخفير كمن وقف خلف بابي إلى أن أفاقتني من قيلولتي. تسمّرت بالفراش لحظات أتأكد من اختفاء طرق الباب، شهقت عدة أنفاس طويلة كي اهدأ، واستمرت جارتي تنادي إلى أن حالفها الحظ بمرور الخفير بموقع قريب من المبنى عائدا من الخارج، فأعلن لها عن قدومه وطمأنني على سلامته.

غلب ضحكي هلعي السابق، كما غلب هلعي قلقي من قبله. قمت أبحث عما سأقضي به الساعات المتبقية. ربما شاهدت مباراة بإحدى المقاهي المجاورة بصحبة زميل، أو استجبت لإقتراح ممن سيتحمس لمقابلتي…  سأنتهي من غسل الصحون المتراكمة أولًا، سيمر الوقت بغض النظر عن كيفيته. ليت النوم إلى المحطة التالية ممكنا، دائمًا هناك ما يوقظنا، أما الخبر الطيب فهو  أن غدًا عطلة للتلاميذ، وبالتالي سيكون نوم لن يقاطعه سائق، ربما ضاعف ذلك من فرصي في الحفل القادم.

 

.

مقالات من نفس القسم