ريشة طائر

ريشة طائر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يوسف رخا

لم يكن ممكناً أن يكتب علاء خالد كتابه الأخير (ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر) في أقل من ٣٧٨ صفحة، ولعله لم يكن ممكناً أن يقصّر حتى العنوان. هذه هي قصة العائلة، أو سيرة ذاتية تتعدى موضوعها – الفرد – إلى مَن أحاط بتكوينه من أقارب وأصدقاء: غرابة أطوار الأخوال وتفاوت نجاحات رفاق (ثانوي) في اكتشاف عالم النساء وأحلام الأم التي تخفيها على أبنائها لأنه ثبت بالدليل الدامغ أنها تتحقق. هذه السيرة الانتقائية – وهو التجنيس الأقرب إلى (ألم خفيف) من الرواية – تبدّي مكامن الشعر والحكمة العفوية على موضوعية البناء أو التخييل (الروائي) كما على نوازع الانتقاد. والأبدع أنه في كلمات العنوان التسع فعلاً ما يختزل حنان علاء خالد الأعمق وأصالة ما يرصده في هذا البيت-الوطن، القدرة التي اكتسبها منذ (خطوط الضعف، ١٩٩٥) على تجاوز الوله بالذات وغذائها إلى محبة الآخرين، بينما يعرض لنفس الصورة الفريدة عن وجود الإنسان في الدنيا التي سعى إلى التعبير عنها وصفاً أو غناء في القصيدة والحوار، ثم سرداً وحكياً في المقال الأطول الذي يمكن إدراجه في باب أدب الرحلة أو السيرة الانتقائية. ولن يكون علينا، من أجل أن ندحض هذه الصورة للوجود، إلا الإشارة إلى احتمال أو جدوى آلام أثقل وانتقالات أسرع أو أكثر ارتباكاً في الحياة.

غير أن علاء خالد في أطول أعماله لم يقترف ما يشجع على الدحض أو الإحالة. ليس سوى بضع عثرات تحريرية – في ترتيب بعض الفصول، في تكرار كلمة (كان) كمفتتح لكل جملة بامتداد فقرة كاملة، في إضغام عبارات رؤيوية رائعة كانت لتبرق لو أُحسن تأطيرها – تؤخذ على عمل سائغ بدرجة غير عادية بمقاييس (الكتابة الجادة)، ممتع على أبسط مستويات القراءة وأقربها إلى سطح الوعي: ككلام عادي عن ناس عاديين، ربما، ولكن أيضاً كسلة حواديت (واقعية) تبدأ بعودة الجد المهاجر مهزوماً إلى الإسكندرية من هيام في صحراء شمال أفريقيا وتنتهي بالزواج أو موت الأم أو ربما فقط هذه الكتابة. المتعة حاصلة على الرغم من عمق ما يؤديه علاء خالد من مهام مع طرح شخوص مقنعة ومتعددة الدلالة والتأريخ لمجتمع الإسكندرية في ثمانينيات القرن العشرين بالذات. ولا شك أن حجم (ألم خفيف) الضخم مقارنة بالغالبية العظمى مما أقام أود (الانفجار الروائي) في السنين الأخيرة يفضح مَرَضيّة هاجس التكثيف الموروث وما بات يقترن به من ضحالة واستسهال، كما يجب اتهاماً وجه إلى الروائيين المصريين الجدد بأنهم عداؤون قصيرو النفس. إنه النص المستفيض الماثل أمام (القارئ العادي)، وهو من هذه الزاوية أيضاً الانعكاس الأبهى لصورة علاء خالد عن الوضع الإنساني.

إنها صورة تعكس هشاشة وتناقض وربما نرجسية الطبقة المتوسطة – حرصها البادي على بقاء الحال، وحالها هي بالتحديد، على ما هو عليه – لكنها في الوقت نفسه صورة تتجاوز الشرط التاريخي إلى تعدد إنساني وانفتاح على فضاءات روحية ونفسية من شأنها أن تجعل للحياة، وحياة الطبقة المتوسطة بالذات، معنى يعيننا كتاباً وقراء على أن نعيشها.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم