ريرْكايبي أو تدبير الكثافة.. قراءة في ديوان الشاعر فيليب بيك

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إحساين بنزبير

 ريرْكايبي، أو في النهاية كل شيء يصير شعرا. صرخة نوفاليسية بامتياز. نعم، إنه الديوان الذي يجُزُّ فيه الشاعر فيليب بيك بعرض لسانه زبدَ القول الشعري. كما لو أنه في الطبيعة الرمزية للكوسموس والحواس يمارس قوله الشعري. أو إنه قطاع تغيير أو معالجة عبر أوكسجين الشعر. هكذا هي القصيدة في ريركايبي . حيث في كارتوغرافيا القلب الشعري، بيك يتكلف بنحت تراجيديا مثيرة للضحك. ولأنه العالَم كمونولوغ خارجي حيث الكائن يبدو ترابا في فونيم، يتعين على القارئ أن يتزلج فوق بركان ما. وحين الشعر يتكهرب في القصيدة، الشاعر يصير بالقوة الإنسانَ – الريشةَ. نوع ما من الترحال الغريب الذي يرسم شعريا أشباح العالم. وبالصدفة، يكتب بيك: القطاع البارد يؤجل ثلاجة اللاوعي. فعلا، حين نقرأ ريركايبي نسقط في ثلاجة فكر وكأنها شجرة الشعر المتفردة. ثم، وفجأة، نوجد في غيمة أرصاد جوية لسانية لأنها تقيم في سماء الكتابة والعين. فعلا، إنها تراجيديا مضحكة تسقي التأويل لتسبح بين الصوت والمعنى. لأن السماء في هذا الديوان / القصيدة تقيم في نهر يتربص بغيمة شعرية. إنها رغبة الشعر لتدخل في ثقب اللسان من أجل تمتمة مقلقة. أو إنه النور الفلسفي حول نافذة الشاعر يتقدم. ويحفر أثرا ضاربا في الغرابة:

 الراقصة التي تكوي ملابس الفقرة

تدرز قلبا في كيس السّاتان

الوردي المتلاشي كشبشبٍ

يرتفع ليرقصَ. (ص.30)

 ريركايپي كتاب قصائد تُعَمِّدُ الشعر بعيْنِ قبلئذ موسيقية نحو أرض رمزية. إنها أرض قريةٍ. أرضُ مرَحِ تراجيدي، نصف تراجيديا غنائية بنفَسِ الشاعر فيليب بيك. نعم، هذه الأرضُ القريةُ المأهولة حيث القارئ وكأنه يمشي في مراسم متوحشة لدُبٍّ شعري وكأنه هيئة أليغورية لا تتعب. وماذا لو إنّ الشعر ليس وحيدا، وهو الشعر في ريركايپي يكون مع وفي الكائن الشعري: أي إننا أمام إيماءة شعرية متفردة تعْبر اللسان. إيماءة تعْبر المرَحَ التراجيدي لفيليب بيك في هذا الديوان:

 التراجيديا المرِحة

كما لو تطويبٌ كهربائيٌّ

غَبَراتٌ وكحولاتٌ تتأجج (ص. 227)

هنا، اللغة الشعرية تأخذ شكلا لأنها تلتهب وتضطرم في مشهد نصف تراجيديٍّ مرصَّعٍ بوضوح آخر كما لو دليلٌ في البيت الشعري لفيليب بيك. وكل بيت شعري يحمل معناه ووضوحه التراجيدي. ربما، إنه الوضوح الآخر الذي يحمل شبكة غيوم يتعذر تعريفها أو تحديدها أو وصفها حتى.

ثم في عالم غامض. عالم يتشظى ويتهشم في خطوط طول وعرض تتمرغ بدورها في إملاءات لها وضوح آخر. إملاءات القصيدة تأخذ وجها لا وجه له. ثم الشعر يتكور كما لو قنفذ المعركة: المنافحة الشعرية، من طبيعة الحال. هنا مأساةٌ بشوشة، ولِم لا. وكأن فيليب بيك يمشي في النور ونحوه. الشاعر يكتب ليصير، بطريقة أو بأخرى، ديداكتيكيا يستهل دواوينه ليمدنا بجسور للقراءة:

 حيث المرْء يبدو كما لو تربة صوتية.

طَبْعُها الهادئ ماسورةٌ نازلة

من حيوان شاغر، وحركةُ القذائف 

للعملاء-الكِعابِ، وألعوبةُ الغَرائس

فظةٌ حسب الرغبة،

سأجعلها رسما بيانيا منطوقا 

حيث القصيدة رقيقةٌ كهربائيةٌ.

ثم لا بد لي أن أكون رَجُلا-ريشةً (فلوبير)

كالدبِّ الذي في الثلج يقيم؟ لا. (ص.7)

 ريركايبي كتابٌ يقول، ربما، كيف ننجز في الشعر وضوحا آخر أو كيف نقيسه في زمن قصيدة تتخلص من السهل والمباشر، أيضا. ومن يقرا دواوين فيليب بيك (أعني كل دواوينه. الأمر مهم)، يكتشف أن هذا الشاعر يبطش باللسان الشعري. يتصرف معه بعنف مفكر فيه. وكأنه يُخاشِنُ اتقاد فعل الكتابة ويتحمس لسياسة شعرية من أجل مفاوضة مع ما يرعبنا ويُجَفِّلُنا. هكذا هي العبارة في شعر فيليب بيك. وهذا الاتقاد الشعري يوجد شعريا في صباغة إحساسات، أو في لوحة إملاءات تقول الموسيقى وتكتبها بطريقة كامنة. الموسيقى في شعر بيكْ عَكْسٌ فوقانِيٌّ. والكل في هذه التراجيديا المرحة Hilarotragédie يأخذ اتجاهات أخرى، لأن الشاعر ينحت القصيدة بقلب لا قلب له. لأن الشاعر يكسو الابتذال بالنور ليقول لوحةَ الكوسموس أمامنا، لأننا فيه.

الشخصيات، في هذا الديوان، لها رائحة الحيوان الذي يحيط بنا شعريا. لأن الشاعر يبصر عبر اللغة ويراه ويكتبه شعريا. ألسنا أمام وفي كتابٍ شعري يرسم مدار النظرة الشعرية وكفافها نحو عالم بشوش وتراجيدي في نفس الآن؟ نقرأ ريركايبي ثم ندخل في إيقاعه المذهل (فعلا، إيقاع مذهل) الذي يُمَوْسِقُ الرأس ورأس القارئ لشعر فيليب بيك. إنه الرأسُ-الزخمُ الذي يشير إلى وضوح آخر في ضفة أو يابسة يؤثثها دُبٌّ كشخصية مبنية للمجهول. وهنا، نقرأ فيليب بيك الذي يدفعنا إلى قراءة ما هو خارج الديوان. ثقافة بيك الواسعة تستوقفنا. الدب كشخصية شعرية. ولسنا هنا مع حيوان يشبه حيوان ابن المقفع أو لافونتين. إنه الحيوان الذي يحمل وشما متمردا. ومن ديوانٍ إلى ديوان، نستشف في كتابة بيك لزوما في فتوة أبدية تسبح في شيخوخة العالم. ثم هذا الإلمام الموسوعي لفيليب بيك يعطي لريركايبي نكهة العمق. إلمامٌ يمد قصائده بمرونة/مطاوعة، أو بكهرباء شعرية كجهد إبداعي في تراجيديا مرِحَة.

في هذا الديوان، وهذه نقطة جد مهمة، نجدنا كقراء في شعر يدنو من غنائية جدباء، ماحِلةٍ. لأن الأمر يتعلق بغنائية جافة Lyrisme sec. وكأن شعر فيليب بيك في ريركايبي عينٌ تتعرض للشمس ليقول تلك القشرة او الشريحة الداخلية للقصيدة. هذه القصيدة حيث الكائن اللساني يبصر وجها/شخصية لدُبٍّ شعري. بيك يقول ويكتب لأنه يقول ليكتب: آكل حروفا عسلية وجسدي-الليلُ / يسبك بشرة الثدييّات . إنها تجربة الكائن اللساني الذي يكتب وينصت بأذن قبلئِذ موسيقية، لكنْ في غرفة ذات عهد حيوانيٍّ.

هل من الممكن اعتبار ريركايبي كتاب الحياة وليس كتاب حكايات؟ هنا، الحكاية منصهرة ومبنية للمجهول. الدب الشعري يتكلف من أجل وضوح آخر.

حياة الشاعر قائمة على قيد الحياة. إنها طبيعة الأشياء، شعريا دائما. وأحيانا، يصير البيت الشعري لفيليب بيك كالنخاع الشوكي للشعر. بيت شعري يابسٌ وجافٌّ، أيضا. هذا البيت الشعري Le vers يساعد على تشديد النشيد الشعري الضارب في جفافه العسير. ثم هذا البيت الشعري يواظب على التشبث بشيء يشبه:

 بريق الحياة، الذي يُكَثِّف

الأربعاءَ، الخميس أو الأحد،

ينقرئ في فراسة المواخض

للغاية مدعومة سويّاً (ص.269).

المدهش في ريركايبي هو قدرته على رسم روابط لا متناهية في كثافة شعرية نادرة: إنه الوضوح الآخَر الذي تكلم عنه هولدرلين. وضوح آخر لا يهجر قط عتمة العالم وليله القصي. هنا الغموض رحمة شعرية، بامتياز. الشاعر فيليب بيك يمنحنا شكلا تقنيا للمعنى عبر شخصية الدب المبنية للمجهول. ومن هنا، التباس العبارة الشعرية في هذا الديوان. التباس، هنا، له حجاب يتسلح بوضوح حَرِجٍ. أو أنه التباسٌ يحتفل بالدب الشعري، ربما.

 ريركايبي برمته أضحوكة فِكِّيرَةٌ. حكاية منصهرة تفكر بالشعر وفيه وعَبْره. هذا هو شعر فيليب بيك.

الشاعر ماندلشتام وصف الفيلسوف كانط بأنه جارِشٌ كونيٌّ . وفيليب بيك؟ من الممكن أنه جارش كوني في هذا الديوان. أنه جارش لأنه يجعل الشعر ممكنا. يفتح للقارئ أجواء شعرية صعبة. فيليب بيك يحرث حقول الشعر وهو يكتب. ثم الجملة الشعرية تصير أشعة حمراء، فجأة. أنها صعوبة ساحرة وفاتنة. شعره مرادف لدْرونٍ Drone منتوفٍ شعريا لأنه يغني في عالم فقد توازنه. ثم إن الديوان لا يحكي الحيوان، بل إنه يقوم بعملية تحيينٍ للُّغة. فيليب يكتب الشعر وهو يمضي قدما نحو تحديث اللسان والعبارة.

هل من الممكن أن نكون نيتشويين لنقرأ نصوص بيك؟ أحيانا نعم. لأن نيتشه يقرأ النصوص بطريقة تعميقٍ متعاقب/تعاقبي لولوج ثقوب العبارات، نثرا كانت ام شعرا. والقارئ لديوان ريركايبي يشعر بأنه قريب ومنفصل رغم ذلك مما يجري تحت عينيه. وكصفعة، يحدث للشاعر فيليب بيك أن يقتحم غضبه المضطرب. الشاعر الذي يعير اهتماما شعريا إلى حلمه أو أحلامه، ضدا في كوسموس ما برح عن بيع كل ما جميل وحقيقي. لذلك، فيليب بيك يعرِب عن اضطرابه الشعر بصيغ محكمة إلى حد الجفاف الشعري. صيغ تسكن بيته الشعري المفروم لأنه يكسر المعنى. البيت المفروم شعريا يمنح للقارئ فرصةً للبحث والتنقيب عن سموِ النشيد الكارِثِيِّ: أبيات من خشبِ الورد، مطرٌ يرسم وحيد القرن، فارماكونٌ بعيد الوقوع. وكأن الصور تُخرِج رأسها من حقل أزهار من سُكَّر نادر. وكأنَّ فيليب بيك يخرج من هذا العالم ليفكر في صمت جانح/عنيد.

الكائن يصير رمادا صوتيا في قصيدة إلكترو-حسية. والشخصية المبنية للمجهول في قرية ريركايبي، أيْ الدبّ الشعري، تملي على الشاعر بورتريها يتحمل أضحوكةً تراجيدية.

لا يمكن لنا أن نهجر بسهولة أعمال فيليب بيك الشعرية، كما نهجر مترجما بسهولة سهلة (…).

من ديوان ريركايبي، نترجم ما يلي:

 الراقصة التي تكوي ملابس الفقرة

تدرز قلبا في كيس السّاتان

الوردي المتلاشي كشبشبٍ

يرتفع ليرقصَ.

 

 امبراطورية الرأس فوق البطن

نشيطةٌ كتوهج امبراطورية البطن

بشأن الرأس. ومتى الأعضاء تصمم

في السبات نفسَ الشغب

كالذي يمليه التوجس

وأعينه مُتاحةٌ، تأمر الرأسَ،

ثم تتخلص.

ليلةُ الرأس تُطَوِّعُ للبطن

مبدئيا. ليلة البطن

تطوع للرأس. أو إنه سيْر الأحداث

ينحدر من الرأس نحو الأحشاء

والأعصاب.

 

 مَنْ يرْتَشِحُ مغامرةَ المرايا

يتعرف على إِرْدَبٍّ والموجة ترضيه.

إنه ماء الخروف المرْويِّ

لا يتوقف فجأة ضد الصوت الأكبر..

…………………….

  • Philippe Beck, Rirkaïpii , éditions Flamarion, 2023.

 

 

مقالات من نفس القسم

art
قص الأثر
موقع الكتابة

نسبية