إحتار الجالس بجواره من شطط الرائحة…هل تلك من فم سيّد أم هي “ضرطه”؟ . كان على وشك القول مطمئناً بأنها و لابد “ضرطه ” لسوء الرائحه التي تحمل نتناً بالغاً لا يصدر إلا من أسفل , لولا أن ما سمعه جلياً من صوت مُصاحب لا يخرج من الإستّ .
سأله :
– إلاهو إنت موتّها ليه ؟
– ….
***********
سيّد سيء الحظ…طيله سنوات عمره المُنقضيه كان كذلك , و سيظل على حاله إلى يوم يبعثون , هذا ما توقّعه لنفسه بعدما قرأ مُفردات حياته التي شابتها جميع صور السوء من أصغرها لأكبرها…إبتداءا بالفقر و المرض , و إنتهاءاَ بالجهل و توابعه , فتأكد بُناء على ذلك أن مُستقبله لن يكون إلا مِرآه لماضيه, بينما يتأرجح بين هذا و ذاك حاضر لا يختلف كثيرا عن أيّ منهما , فذلك الحاضر كان مُستقبلاً فيما مضى و سيصبح ماضياً في يوم من الأيام , و هو في كل الأحوال قد جاء سيئاً.
و إذا ما إعتبر البعض على خلاف ذلك , أن سيد كان محظوظا في بعض الأمور , كأن جاء إلى الدنيا وحيد أبويه فإنهم في ذلك مخطئون كمن جَهِل ما هو معلوم من الدين بالضروره , فالوحده حَظُ حَسن لمن كان وَلداً لثري يورثه بعد وفاته شيئاً بلا شريك , أما بالنسبه لسيد و هو إبن “ابو الدهب” الذي كانت مهنته “على باب الله ” فليس له إرثُ غير اللاشيئ و بضعه ديون , و ربما كان حظه سيكون حسناً بالفعل إذا كان له أشقاء يتقاسم معهم معوله أبويه عند الكبر و الهروب من ديونهما بعد وفاتهما , تلك التي لن تُسدد أبداً .
و لكن للأمانه يمكن القول بإن الحياه قد خالفت توقعاته في أمرين فقط كان فيهما محظوظاً , الأمر الأول أن توفى أبواه فى معاً في وقت و احد جرّاء حادثه حافله , فنجا بذلك من عبء إعاشه اُم عجوز بلا عائل, أو أب خَرِف بلا أنيس .
أّما الأمر الثاني فهو ….”ريتا” .
*********
كان سيد قد مرّ في ذلك اليوم بإحدىَ نوبات حظّه السيئ التي لا تنتهي, فقد خسر لتوّه مُباراه كره القدم التي لعبها مع فريق بلدته ” محله سُبك” ضد فريق من بلده أخرى على أرضها , و كان يعوّل على كسب المباراه الملعوبه قِماراً ليشتري بنصيبه من المكسب قميصاً من ال”باله” . و أثناء عودتهم من المباراه , لحق زملاؤه جميعاً بإماكن شاغره فوق ظهر سياره نصف نقل , تقرفصوا فيها كيفما إتفق لتقلّهم نحو بلدتهم , بينما لم يستطع هو اللحاق بهم, كان يتبول على جانب الطريق , تحرّكت السياره و تركته وحده يستمع بغيظ اصوات ضحكات زُملاءه الشامته المبتعده, فإضطر أن يقطع المسافه إلى بلدته سيراَ على قدميه .
نحس !
***********
قاطعا الكيلومترات الثمانيه نحو البلده على قدميه المُتعبتين سار سيّد مُستاء يُفكّر فيما سوف يفعله عند العوده إنتقاماً من أولاد الزانيه الذين تركوه يشرب ذلك المقلب , و بينما هو سائر , سمع صوتاً..
نظر نحو جانب المصرف حيث مصدر الصوت ليجد “كرتونه” مثقوبه يصدر من داخلها عُواءاً هزيلاً مصحوبُ ب “خرفشه” , و كأن “ما” بها يحاول الخروج .
إقترب من “الكرتونه” و فتحها بحذر – ربما كان ثُعباناً- ليجد بداخلها جرواً صغيراً و غطاءاً نظيفاً و طبقاً إنسكب ما كان به من لبن على قاعها و علق بعضه بجسد الجرو اثناء محاولات الخروج .
إلتقط الجرو بهدوء مُحاذرا ان يعقره , و لدهشته إستسلم له الجرو مرتعشاً بلا صوت , رفعه لأعلى ليتفحّص جنسه فلم يجد إيراً …هي ” نتايه ” إذن…نظر ت له “الجروه” نظره خائفه , ثم عوجت رأسها متأمله إياه بفضول , فإبتسم , فمالت عليه الجروه ثم لعقت أنفه .
نظر سيد حوله فلم يجد أحدا, أعاد الجروه للكرتونه ثم حملها و استكمل طريقه نحو البلده , و في الطريق لم يُفكّر كثيرا فيما سيفعل بها, بالطبع سيحتفظ بها لتؤنس وحدته بعد وفاه أبويه, أما عن إطعامها فسيتصرف بحسب ما سيتضح به الحال, بدا له من نظافتها و اُلفه البشر , انها ليست جروه ضالّه و إلا لحاولت عَقره و الهرب عندما إقترب منها, خمّن أيضا أنها ولابد من جراء ” اولاد الذوات ” التي هجرها أحدهم…نعم…هي تُشبه كثيرا تلك الكلاب التي يراها في التلفاز , أكد ذلك التخمين ان الكلبه كان معها غطاء و امامها طبق به لبن, و هل تتدثر كلاب الشارع أو تتغذى على الحليب ؟
و بينما هو سائر على الطريق الترابي نحو بلدته مُحيطاً الكرتونه بكلتا ذراعيه , تساءل سيد متعجبا عن الغيب الذي جعله – شوف إزاي- يفقد السياره, ليعثر بعدها بمحض الصدفه على ذلك الكنز الثمين , و لأول مرّه خلال سنوات عمره التي جاوزت السبعه عشر إستطاع سيد ان يقول بثقه…حظّي حلو.
***********
لم يعلم سيد لفتره طويله ان كلبته التي أسماها إسما أجنبيا فاخرا…”ريتا”, هي كلبه ألمانيّه من فصيله “جيرمان شيبرد” الثمينه, و لكنه, وحتى قبل ان يعلم, تولّاها بالرعايه أفضل مما كانت اُمّها لتفعل, تعلّق بها و تعلّقت به ليحصل بذلك على لقب ” أبو كلبه ” الذي لحق به طوال حياته بعد أن أصبحا لا يفترقان , و هو لم يتضايق لذلك , بل كان يقول بفخر : ريتا دي بنتي .
و بعد حصوله على شهادته المتوسطه من مدرسه “الصنايع”, إلتحق سيد بعمل في ورشه ميكانيكي , صارت له “يوميه” ثابته ليُجزل منها الإنفاق على كلبته قبل نفسه, و العنايه بها كما يُجزل الأب الإنفاق أملاً في ولد صالح . يشتري لها الفرّوج النافق من مزرعه “ورثه الباشا ” , الأربعه ب جنيه , ثم يُعطي “طه”, صبيّ المزرعه مثله ليقوم بتنظيفها من الريش و الأحشاء ثم يقوم بسلقها لتأكل “ريتا” وجبه نظيفه بلا عناء. كان يُحبها كإبنته بالفعل, يصحبها معه للورشه كل صباح لتجلس بجانبه بدون وثاق لم هي تكن بحاجه إليه , فهي لن تبتعد عن سيّد مقدار شِبر مهما حدث , تلهو قليلاً مع المارّه و تتأمل كثيراً ما يفعله بعينيها البُندقيتين بما عدّه هو رغبه في تعلّم الصنعه…فيقول لأصحابه بثقه : “ريتا” عاوزه تبقى اُسطى ميكانيكي قد الدنيا, ثم يتجاهل سخريتهم و يوجّه نَظَرهُ إليها مُبتسماً .
وبعد إنتهاء يومه يعود معها للمنزل في المساء حيث يتناولا عشائهما سوياً من طبق واحد وهو مالم يخبرعنه أحد قط , ولم يُصبه من ذلك تقزز أو مرض , لم تنم “ريتا ” أبداً سوى بجوار “سيد”…في جميع الأوقات تنام بجواره , شتاءاً تستدفئ بالدفء الساري إليها منه عبر أوصالها المحيطه به , وصيفاً تُداعب شعرها الكثيف نسمات الهواء المنبعثه من ورقه “كرتون” يحملها للتهويه عليهما سوياً حتى يصيبهما النعاس .
يوقن سيد أن “ريتا ” بدورها تحبه كما يحبها , و إلا لما أنقذت عنقه أكثر من مره , و يذكر سيد كعشيّه أكثر تلك المرّات خطراً, عندما أراد أن يُضاجع “كريمه” بائعه حُمّص الشام , و كريمه حُلوه الحُلوات , فتاه في مُقتبل العمر تبيع حمص الشام الساخن صيفاً و شتاء في أكواب نظيفه لامعه , و عِدّتها في ذلك عربه خشبيه و دلو به ماء و صابون بطريق المعهد الأزهري , أمام الورشه التي يعمل بها, تتلاعب عجيزه كريمه المُفلطحه قليلاً كرحاه الخُبز البيتي أمام عينيه كل يوم عندما تتحرك , فتؤلمه, داعبت تلك العجيزه خياله بإحتمالات ملئته شبقاً , فراودها عن عجيزتها كثيراً إلى أن أفلحت مُراودته , و إصطحبها ذات نهار إلى ممر طويل بين الحاويات المُشوّنه عند مدخل البلده والتي كانت تستخدم فيما مضى في إستيراد القمح إلى أن بليت وأكل جوانبها الصدأ , جعل سيد من “ريتا ” ” ناضورجيّا ” لتنبّهه بالنُباح اذا ما إستشعرت أحداً , أقعد “ريتا” عند بدايه الممر و دخل بالفتاه خلف الحاويه المغلقه على فارغ و رفع جلبابها المنقوش بالورد لأعلى ليظهر فخذيها الأسمرين كقِطع العجوه , قبّلها قُبله شرهه شعر معها بطعم البرتقال اللاذع الذي إستحلبه من شِفتيها حتي كادت أن تختنق, فأفرج عنها مانحاً إياها لحظه من “الدوّخه” اللذيذه التي تبعتها شهقه ” يالهوي” بعيون مٌغمِضه لتذوب بعدها كريمه على الفور بين يديه كعجينه السمسم اللدنه .
في تلك الأثناء كانت”ريتا” تُراقبهما…هزّت ذيلها لأعلى عده مّرات ثم أقعت على مؤخرتها ومالت برأسها يميناً مُتفحصّه ما يفعلانه بفضول أصدرت بعده صوتا خافتاً حنوناً ثم إستلقت برأسها للأمام و كأنما تٌقر الرضا و تمنح الأمان .
و بينما سيد قد إقترب من أن يقضي و طره , إنتصبت اُذنا “ريتا “, و نبحت !…أدرك سيد من نباحها ان هناك من يقترب فلم يُكذّب خبراً, سحب بنطاله لأعلى و الفتاه من يدها و سار بهدوء و حذر نحو الخارج , أما “ريتا” فلم تنتظر, بل هرعت نحو مصدر الصوت و هي تنبح بشراسه مُحذِرهً من الإقتراب , ليستطيع سيد في تلك الأثناء الهروب من الناحيه الأخرى ناجياً من مصير أقلّه الفضيحه .
ذلك اليوم بعد العوده لمنزله إحتضن سيد كلبته وهو يضحك بصوت عالٍ و يتصبب عرقاً, شاعراً نحو “ريتا ” بشعور واحد…العرفان . داعب أذنيها و قال لها : إنتي بنتي يا “ريتا “, إنتي عارفه كده ؟
ردت عليه “ريتا” بعضّه شقيه لمعصمه , أتبعتها بلعقٍ حانِ , ثم إسكانت راضيهً على حجِره…بحِجر سيّد أمان الدنيا .
***********
شتاء “محلّه سُبك” قارس , و في شتاء “محلّه سُبك ” القارس, أصاب “ريتا ” الُزكام و ظلت تعطسّ حتّى سال من أنفها المخاط , حينها إنتفض سيد فزعاً في منتصف الليل و قام بعصر ليمونه ” بنزهير” كبيره في كوب ماء, ثم عبّاً خليط الماء بالليمون في “سرنجه” بلا محقن و دفع بالمحلول في حلقها . تلقّت ريتا الخليط الكريه بكثير من الإمتعاض , و كانت على وشك أن تطرده من حلقها , لولا أنه إحتضنها و إقترب من أذنها هامسا كأب يهدهد صغيرته :
– بس بس , معلش…عشان تخفّي يا “ريتا”…عشان تخفّي .
فإبتلعت “ريتا” الخليط في صمت, ومدّت رأسها علي كتفه و أصدرت صوت ال ” قرقره ” إلى ان أصابها النُعاس…على كتف سيّد يحلو لريتا أن تنام .
***********
بعد إنتشار سيارات “الأوتوماتيك” التي تستلزم صيانتها ماكينات الوكيل المتطوره , ركد سوق الميكانيكيه بالبلده و إقتصر الزبائن على سائقي الاٌجره و الشاحنات الذين لا يدفعون شيئاً من باب الزماله و العشم , و من يدفع منهم فيدفع بالشُكُك أو يعد بالدفع حين ميسره لاتأتي .
و لذلك توقّف حال سيد وورشته التي يعمل بها, و بمرور نهارات كثيره متتاليه بلا زبون واحد, قررصاحبها الأسطى “عرفه” غلقها بعد أن اصبحت لاتأتي بمصاريفها و اٌجره الصنايعيه العاملين بها, و يوم أن صرف الاٌسطى “عرفه” تلميذه سيّد , نادى عليه و قال له :
– واد يا سيّد, الحاله زي مانت شايف و ربنا عالم إمتى هترُزق و نتعشي زًفر تاني .
ثم مال عليه و أردف ناصحاً :
– أنا من رأيي تبيع الكلبه دي لحد ما ربك يفُكّها . إنت يابني مش حمل مصاريفها دلوقت و يا دوبك تعرف تكفّي نفسك أكل .
ثم نفحه عشرين جنيهاً و قال له :
– روح يابني الله يسهلّنا و يسهلّك .
إحتضن سيد اُسطاه بعين دامعه مودّعاً و إنصرف و تبعته “ريتا ” مٌتقافزه فرحاً نحو المنزل . و على النقيض من جميع الأيام , لمح سيد ذلك اليوم عربه حُمّص كريمه, بلا كريمه, “مُسكّره” بدون اللغط و الضوضاء المؤنسه المُنبعثه حولها من حلوق الزبائن و التي إعتاد أن يسمعها كل يوم .
“كُبّايه برُبع و النبي , و إتوصّي يا كريمه ” .
**********
بمرور الأيام , نفدت جنيهات سيّد و مدخراته و إضطر للسَلَف ثم للسؤال الصريح , و في النهايه بعد أن عجز عن إطعام “ريتا” و نفسه حتى أصاب كلاهما الهُزال , وافق نفسه التي إعتبرها شيطاناً على بيع “ريتا ” مُضطرّاً مقابل مبلغ خمسمائه جنيه كانت كفيله بسداد بعض ما عليه و أن يأكل بعد إنقطاع عن الأكل دام أياما لم يعدّها , أصابه بعد ذلك الضيق و العبوس الدائم و صار مهموماً لا تعرف البسمه إلى شفتيه طريقاً . واسىَ سيّد نفسه مواساه عديم الحيله غير مره بأن في بيع “ريتا” خير لها , بدلا من أن تهلك منه جوعاً و هو إن عزّ عليه فراقها فقد إستحال عليه أن يراها جائعه .
أّمّا عن “ريتا”, فبعد إنتقالها لدار مالكها الجديد فلم تمكث طويلاً , داومت على الهرب و العوده لمنزل سيد كلما سنحت لها الفرصه , مرّات عديده هربت “ريتا ” و لم يكن مالكها الجديد ليبحث عنها في أي مكان سوى بيت سيّد , الذي حاول بكل الطرق صرفها عنه بلا جدوى , حملها و ألقاها في الخارج فلم تتحرك من أمام الباب , “هوّشها ” مُهدداً بالضرب , إلا أن “ريتا ” لم تفعل شيئاً سوى أن تَقعُد على قائمتيها الخلفيتين ناظرهً إليه و قد عَوجت رأسها الأسود الجميل و أخرجت لسانها لاهثهً بحنان و فضول .
إستشاط سيد من الغضب و كان حينها مخموراً, فخلع صندله و قذفه في وجهها مباشره فلم يُصبها, فقط هرعت نحو الصندل لتلتقطه بين فكّيها و تستدير عائده إليه به و هي تتقافز في فرح . فبكىَ .
حملها و ذهب بها لبيت مالكها الجديد و قال له :
– إربُطها كويّس الله يرضى عنّك .
ثم تركهما و إنصرف , وبالفعل و قبل إن ينصرف سيد , أحكم الرجل وثاقها, ثم أخرج بندقيته و أطلق منها عياراُ نحو قِطِّه ضالّه فتناثرت أمام عيني ريتا وسيد أشلاءها .
قال الرجل بصوت عال مُهدداً :
– لو هِربت تاني , مالهاش عندي غير من ده , يغور المال اللي مينفعش صاحبه .
قبل رحيله بلا رجعه وقف سيد خلف السياج مُكبّلاً يائساً لاعناً كل ما فرّق حبيبين , و ترقرقت دموعه حتى سحّ منهما بعد رحيله نهرين .
***********
“بين ريتا وعيونى بندقية ” .
محمود درويش .
***********
و لكن “ريتا” لم تهدأ , و في ليله , استطاعت بالنهش المتواصل قطع الوثاق المُتّصل بطوقها الجلدي ثم تسلّق السياج المُحيط بمنزل الرجل, و جَرَت قاطعهً أفدنه العنب الناضج المُحيطه به صوب منزل سيد , و إثناء عبورها المُتلهّف لقضبان السّكه الحديد , و على حين غفله , لحقها “الأسباني” بنفيره المُدوّي ليلتهم في غمضه عين ساقيها الخلفيتين وقِطعه من ذيلها , تاركا إياهم مبعثرين على بازلت “المزلقان” الأسود .
في لحظه مٌهمله لا تزن لأحد شيئاً , صارت “ريتا ” نِصفاً بنصف روح بعد أن كانت منذ لحظات تنبض بما عهدت عليه نفسها دوماً, بالحياه و بحُبّ سيّد …كانت “ريتا “.
ظلّت تَعوي و تنزف في مكانها إلى أن أدركها البعض فتعرّفوا عليها على الفور .حملوها فوق درّاجه بخاريه لمنزل سيد الذي صرخ و إنهار عندما رأي دمّاً يسيح من فخذي عزيزته المبتوريّن . في البدايه ظن أن الرجل هو من فعل بها ذلك فأقسم ان يفلقه نصفين , و لكنهم سرعان من أخبروه ان الفاعل هو حديد القطار البارد , هرع يبكي حاملاً جسدها المُرتجف بين ذراعيه نحو طبيب الوحده البيطريه و أيقظه من نومه ليداويها, و في الطريق أغرق دمّها المنساب كصنبور قميصه حتى نزّ منه بدلا من عرق الصيف, و بمعجزه ما لم تَمُت “ريتا ” تلك الليله , و لعل السبب في ذلك هو إحتضان سيد لها و تَربيِتَهُ الذي لم ينقطع على رأسها , لتتشبث على أثره بأوتار الدُنيا شاعرهً أن بها ما يستحق الحياه من أجله .
بعد تلك الحادثه رفض مالكها الجديد أخذها و إستعوض ربّه فيما دفع من مال و رحل , ليقع بذلك على عاتق سيد عبء إعاشتها الذي تضاعف لكونها الآن مُعاقه تستلزم عوناً حتّى لتخرأ و تبول, و هو مالم يكن سيد قادراً عليه فضلا عن عدم قدرته على إطعامها من الأساس , ثقلت مؤنه “ريتا” على سيّد و لم يعد يراها واهيه .
***********
أخيراً جاء لسيد عرض أن يعمل في و رشه كبيره بحال منتعش ببلده مجاوره , حيث سيتقاضى أجراً حسناً و يعيش في سكن تصدّق به رب العمل للصنايعيه المغتربين الذين يعملون لديه , لم يكن لدى سيد كثيرا من الوقت أو الخيارات ليقرر , و لم يكن ليستطيع ان يأخذ “ريتا” معه لتعيش بين أفراد غرباء أجلاف ذوي قلوب فَظّه , ذلك حال كل من ترك أهله سعياً وراء الرزق فيما بينهم ,فما بالك بحالهم مع كلبه مُقعده , لن تسلم منهم و لن تستطيع تفاديهم ولو بالإختباء , ذلك بالطبع فضلا عن إستحاله قبول صاحب الورشه بذلك الأمر .
و إذا ما كَثُر بحثُ الإنسان عن تفسيرِ لأفعال بدت له غير مبرره و في غايه التناقض , كأن يلتهم حيواناً أبناؤه خوفاً عليهم , فيمكن القول بإن سيّد لطول عشرته ب “ريتا” , قد تطبّع -لا إرادياً- بشئ من طباع الحيوانات الذي إستعصىَ على بنو آدم فهمه, و لم يرَ هو فيه تناقضاً , بل رأى فيه حناناً و أماناً بلغا من “لهوه” العشق منتهاه . لن يتركها سيد و يرحل ليأكله قلبه عليها خوفاً و قلقاً, سيريحها و يرتاح .
و تمهيداً لما إنتواه, شَرِب “سيد” زُجاجتا ” براندي” مخلوطتين بالسبرتو الأحمر حتى إهترئ حلقه و إحتقن وجهه و غابت عنه ملامح الدنيا ولم يبق فيه مِنه مِثقال حبّه , كان حينها حيواناً صِرفاً فتصرّف بما يليق . قام بلّف “ريتا” في مِلاءه و حملها إلى شاطئ المصرف . نزل لأسفل نحو حافه الماء المنساب بسلاسه لم تخلُ من بضع دوّامات صغيره, و هناك لم يُعط نفسه فرصه للتفكير .
و في لحظه كتلك التي سبق أن مرّت بها على قضبان القطار , جاءت اُخرى لينغرس فيها نصل المطواه بجانبها, لتبلل دمائها الدافئه المِلاءه و قميص سيد مره أخيره .
أفلت سيّد يديه من حولها ,و دموعه من عينيه قائلاً :
-سامحيني يا ريتا , سامحيني يا بنتي .
و تركها ليبتلعها الماء إلىَ أن غابت و ظهرت على سطح المياه بضع فُقاعات حملت زفيرها الأخير .
و في النزع , لم تفعل “ريتا” أي شئ…ظنّت بعقلها البسيط أن سيد يفعل ما لها فيه خير, ربما كان يداويها من العجز لتبرأ و تصبح قادره على اللعب معه مره اٌخرى .
قالت “ريتا” ممتنّه: أحبك يا أبي .
ـــــــــــــــــــــ
*قاص من مصر