شعبان يوسف
نبض جديد فى الحياة الثقافية العربية:
فى النصف الأول من عقد الخمسينيات، تمتعت الحياة الثقافية العربية، بقدر كبير من الانطلاق والتقدم. هذا الانطلاق جاء على خلفية دفعة أحدثتها ثورة يوليو إذ غابت أصوات، أو على الأقل تضاءلت، لكى تفسح صاغرة لأصوات جديدة، تسعى لتشكيل خطابها الأدبى والثقافى والفكرى منذ عقد الأربعينيات.
ولذلك توقفت مجلتا «الرسالة»، و«الثقافة». الأولى كان يديرها ويملكها ويوجه مسارها الأديب أحمد حسن الزيات، أما الثانية فكان يملكها وصاحب امتيازها الدكتور أحمد أمين، وقد استقطبت المجلتان معظم الكتّاب الكبار، فشكلوا المناخ الفكرى والأدبى والثقافى، من طراز د. طه حسين وعباس العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى وعلى محمود طه وغيرهم.
ومع قدوم عقد الأربعينيات وتطوحاته الثورية العميقة والواسعة، تشكل جيل واسع ومتمرد، ونشأت على ضفاف المجلتين، مجلات صغيرة أخرى، كانت هذه المجلات قد استقطبت بعض أسماء شابة تدربت على محاولات المشاكسة، ومن هؤلاء فتحى غانم ومحمود أمين العالم ويوسف إدريس ومحمد عودة وصلاح جاهين وغيرهم.
لذا عندما جاءت ثورة يوليو، كان هناك جيل ينتظرها، ويكتب على جدارها خطابه، وإن كان خطاب هذا الجيل لم يستطع التماهى مع خطاب السلطة، ولكنه تقاطع على الأقل لفترة ما.
فى ذلك الخضم، كانت هناك مجلة مصرية، حاولت أن تسد فراغ تركته مجلتا الرسالة والثقافة، وكانت تلك المجلة «الرسالة الجديدة»، قد تأهبت لكى تلعب دورا ثقافيا واسعا فى مصر، وأيضاً على المستوى العربى، رغم وجود مجلة الآداب اللبنانيةواسعة الانتشار، وكذلك الأكثر انفتاحا باعتبارها لا تتبع أى سلطة، وقدتصدرت المجلات العربية، واستقطبت بالفعل معظم طليعة الكتّاب العرب من الشباب وغيرهم، ولكن تظل رغبة الكتاب العرب من الشباب قائمة فى النشر بالقاهرة، وخاصة فى المجلات المرموقة، وذائعة الصيت، والمؤثرة كذلك.
أديب شاب من دمشق:
وكان الشاب رياض نجيب الريس، العضو برابطة «نهر الحياة» بدمشق، يداوم على مراسلة بعض المجلات القاهرية، وعلى وجه الخصوص«الرسالة الجديدة»، برئاسة تحرير الكاتب الروائى يوسف السباعى، وكان يكتب فيها رهط من الأدباء والمفكرين الكبار من طراز طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ومحمود تيمور، وأدباء من الجيل الجديد مثل محمود أمين العالم ويوسف الشارونى ويوسف إدريس ومحمد صدقى ومحمود السعدنى وغيرهم، كما أنها نشرت لأدباء من الشباب العربى مثل أدونيس وحسين مروة ومحمد دكروب وغيرهم، ولا بد أن ننوّه إلى أن علاقة ما كانت تربط بين مثقفى وكتّاب مصر، بمثقفى وكتّاب الشاب، وفى تلك الفترة – أواخر عام 1954- عقد فى سوريا مؤتمر أدبى كبير، حضرته وفود من كل حدب وصوب عربى، والتقى يوسف إدريسبمحمد دكروب، وطه حسين برئيف خورى، ويوسف السباعى بحسين مروة وهكذا، وبالطبع دارت حوارات ثقافية وأدبية مزجت ماهو مصرى بما هو شامى، وصدر بعد ذلك كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» عام 1955 فى بيروت، للكاتبين الطليعيين محمود أمين العالم ود عبد العظيم أنيس، عن دار الفكر الجدير، بمقدمة كتبها الناقد حسين مروة، والذى نشر كتابا نقديا فى القاهرة، عنوانه «قضايا أدبية»، إذ أن الحياة الثقافية فى مصر، اشتبكت بشكل إيجابى بالحياة الثقافية فى الشام، وعلى هذه الخلفية كان الأدباء الشباب فى دمشق وبيروت يراسلون مجلات وصحف القاهرة.
غدى كله خطايا:
وبعد عدة رسائل كان يبعث بها الكاتب الشاب رياض نجيب الريس، نشرت له المجلة قصة، وردت على رسائله تباعا، تعده بالنشر فى القريب العاجل، ثم نشرت له قصةبديعة، لا تقل أبدا عن أى إبداع قصصى فى هذه الفترة، عنوانها«غدى كله خطايا»، فى العدد (27) يونيو 1956، وفيه كذلك نشرت مقالات ليوسف السباعى والدكتور حسين فوزى وأحمد حسن الزيات والدكتور محمد مندور، وغيرهم، وكذلك قصائد للشعراء صلاح عبد الصبور وجليلة رضا وغيرهم، ونُشرت القصة فى باب ثابت عنوانه «قصة للمناقشة»، ولم يكن الريس قد بلغ العشرين من عمره آنذاك، ولكن العصر كان ينحاز للقصة القصيرة، وكما أسلفنا القول إن فن القصة القصيرة أنتج أعلاما كبارا رغم أنهم كانوا شباباً، وقد أحدثوا حراكا لم يسبق من قبل فى الحياة الأدبية العربية، وفى هذا السياق جاء قصة الكاتب الشاب رياض نجيب الريس.
كانت قصة الريس ملائمة تماما للمناخ وقتها، وتم الترحيب بها كواحدة من عيون السرد القصصى فى هذه الفترة، فرغم حس رومانسى اتسمت به، تمتع الكاتب بسلاسة سردية عالية، كان من الممكن أن تؤهله لكى ينافس فرسان المرحلة، فهو يبدأ القصة باندهاشه رصينة مما حدث فى ذلك اليوم «لم أكن أدرى أن ذلك اليوم سيأتى، أو سيمر فى حياتى، لم أكن أتصور أننى سأتعرف عليها أو حتى ألقاها..»، حيث ظهرت أمامه إحدى الفاتنات، وذلك فى مكان عام يذهب إليه الشباب، وفى الأغلب هو مكان ثقافى، ويتناول فيه المثقفون أطرافاً من الأحداث والأحاديث الأدبية. كان جميع الحاضرين يتمنون حضورها، والتعرف عليها، واشتباكهم معها فى حوارات إنسانية عامة، وبالنسبة لبطل القصة، لم يقتصر على أن يتأملها فحسب، بل راح يجرّب بضعة أفكار عنها، فانتقد حذاء عالياً ترتديه، ولكنه أبدى إعجابه بكنزة صفراء تلبسها، وروعة ذوقها وبساطتها ونظارتها السوداء، وكل هذه المناوشات كانت محاولات للاقتراب منها، هذا الاقتراب الآمن وفر له سبل النجاح، ولكنه لم يشبع تماماً الرغبة الحقيقية له ولا لأى أحد يريد أن يحظى بقرب أكثر حميمية.
وفى وقت كان بطل القصة يعتبر مجرد ظهور الفتاة حدثاً مدهشاً، ساقه القدر إليه، كان القدر ذاته يدبر له صديقاًمشتركاً بينهما، فبعد عدة لقاءات قصيرة بين الفتى والفتاة، جاء ذلك الصديق المشترك، وتولى بمهمة التعريف بينهما، فتم التعارف، وكذلك المصافحة التى كانت أملاً له، ودار بينهما حديث أمتعه ومنحه طاقة كبيرة من التفاؤل، بعدها ذهب صاحبنا مع صديقه والفتاة إلى منزل الصديق، ورغم نبرتها الاستعلائية، غيَّرت لديه فكرة أن الثقافة بعيدة عن الجميلات، فهاهى فتاة تملك الحسنيين، الجمال والثقافة فى وقت واحد، رغم أن جمالها ليس جمالاً فوتوغرافياً، بقدر ما هو جمال يستعذبه الشعراء والرومانسيون، بالإضافة إلى قدرتها الساحرة فى إدارة الحوار، وهى عناصر لم يكن يحلم بها، ولم يكن مدركاً لوجودها فى العالم، فها هو أمام حدث أسطورى سيغير من حياته.
وتمضى الأيام تباعاً وهو منشغل بها منفرداً، ولم تغادر تفكيره، أو خططه فى تدبير لقاء لكى يصبح أكثر من تلك اللقطات العابرة، يريد أن يمتزج معها بشكل يعرفه كل العشاق مثله، ويطمح إلى لقاء خاص معها، رغم أنهما التقيا مرة أخرى بشكل عابر مثل المرة الأولى، ولكنه لم يقتنع به.
وفى خضم هذا الانشغال الخاص بفتاته، التقى بصديقه المشترك، ودار بينهما حوار حاسم:
«-مارأيك؟
-قلت ماذا تقصد؟
-أعنى ما رأيك فيها؟
أجبت:
-رائعة.
وتوقفت لأجمع شتات تلك العواطف التى تتنازعنى.. وحاولت أن أسكب عواطفى على الورقوأضع فيها كل إحساسى وروحى، فخاننى اللفظ وخاننى الخيال، وبقيت الكلمات على شفتى تنطق وتنبض بالحياة..».
الأدب فى تلك المرحلة وثيقة دامغة:
ويستمر الحوار بين الصديقين، ويعتبر هذا الحوار نموذجياً، لأنه يعكس شكل وطرق العلاقات الاجتماعية فى تلك المرحلة، وهذه القصة تعكس مناخ تلك المرحلة من بلاد الشام، والبلاد العربية.
ظل الحوار الممتع بين الصديقين يسير على وتيرة واحدة، حتى حانت الفرصة لينال أملاً فى لقاء معها، وتم تحديد ما يشبه الميعاد، وفى اليوم المحدد كان حائراً.. «..إذن .. أين يمكن أن أراها؟..كان الوقت ممطراً، والسماء غائمة، والأفق أسود، والشوارع كأقنية السيول.. وأنا أتدثر بمعطفى السميك كمعطف جوجول فى طريقى إلى السينما..أمشى بسرعة وحذر تحت شرفات المنازل حتى اتقى المطر قدر الإمكان..».
وهناك قرب دار السينما يلتقيان، وسارا تحت وابل المطر والماء الغزير، وكان يحتمى بشمسيتها، ويشد جسدها بشكل حذر إليه «خوفا من أن تهرب»، وفى قاعة السينما كانت هى مشدودة إلى الشاشة بكل جوارحها، وكان هو يبذل كل ما فى طاقته لكى بنبهها بوجوده معها، ويلفت نظرها بعواطفه الجيّاشة.
ولا أريد أن أستطرد فى أحداث القصة الممتعة، فضلاً عن حالة تداع تنتابه، إنما أشير إلى أن تيار الوعى يعمل فى بناء النص جاء بشكل ثابت ورصين وفنى، ولم يستطع أن يسيطر على حالة التداعى المتفاقمة، إذ تنتهى بأن يذهبكل منهما فى طريق عكس الآخر، ولكن بعد أن ذهبا إلى مكان عام وتبادلا حواراً مبتوراً، وصارحته فيه بأنها ليست مسئولة عن خيالاته، ولم تعطه وعداً بالحب، ولم يظهر فى كلامها معه أى إشارات لذلك، وعندما أدركت أنه يذهب بالحوار إلى وجهة لم تقبلها، واجهته بحقيقة افترضت أنه يعلمها، ويدرك فحواها، وتنتهى القصة بشكل لافت، ومتزامن مع تواتر أفكاره التى لم تنقطع طوال الحوار معها، إذ تدفع الباب بعنف وتخرج إلى الخلاء.
ومن اللافت للنظر أن الحوار بينهما عكس أفكاراً تحررية تنادى بها المرأة، وارتفعت نبرة هذه الأفكار فى ذلك الوقت، فعندما سألها الفتى عن رأيها فيه، وهل هو مجرد صديق عادى، أم أنها تُكنُّ له شعورا آخر؟ انطلقت تتحدث بنبرة عنيفة، وكأنها كانت جاهزة للحوار «..فتطلعت إلىّ بنظرة تحمل قدراً من حقارة الأرض وحقد المرأة، وتحولت إلى مجرد إنسان بلا عاطفة ولا شعور، وافتعلت ابتسامة صفراء، وقالت لى: أنتم معشر الرجال أنصاف مجانين، تظنون أن باستطاعتكم أن تكبِّلوا بحبكم حرية المرأة..بتلك العاطفة الغريزية التى بها، كلا لا أحب ولا يمكن أن أحب، قد أكبر وأتزوج وأصادق، أما أن أحب، فلا يمكن..».
ويسترسل الكاتب فى إنهاء القصة بسلسلة من الهذيان العاطفى، هذيان ينتج عن حالة فشل شبه كاملة، استطاع الكاتب أن يوفر لها كل سبل الوصف والكمال.
زكريا الحجاوى يناقش:
وكانت المجلة قد كلفت الباحث والفنان والعلّامة زكريا الحجاوىبكتابة تعقيب واسع ومفيد عن القصة، وبدأ الحجاوى تعليقه بـ: «هى قصة جديرة بالنقد، لأنها أنموذج جديد من نماذج هذا الباب، أنموذج جديد وعجيب» واستطرد «..الكاتب.. الأستاذ رياض نجيب الريس..يكتب على طريقة أبناء القرن العشرين، وعلى طريقة كتابة الأفذاذ..فالعبارة مشرقة.. طيعة.. نابضة بالإحساس، غنية بالصورة الشعورية والصورة الفنية فى وقت واحد..».
وبعد هذه الديباجة الجميلة يقول الحجاوى: «..ووجه العجب، أن يكون الأستاذ الريس صاحب مثل تلك الموهبة فى النسج والكتابة، وصاحب الملكة القصصية الواضحة، ثم نراه من الناحية الفكرية، من أبناء قرون عديدة غبرت»..
وراح الحجاوى يطرى الجانب الإبداعى فى القصة بطريقة واضحة لا لبس فيها، ويمدح الجانب اللغوى وسلامة وقوة العبارة، وسلاسة الأسلوب، ونعومة السرد، ولكنه توقف عند الجانب الثقافى والفكرى، بل أبدى اندهاشة واسعة وكبرى لاستخدام الريس لمعطف جوجول باعتباره المعطف المعروف والذى يستخدمه الناس فى الشتاء لاتقاء البرد، ولولا مثل هذه الملاحظات القصيرة التى أرسلها العلامة زكريا الحجاوى، لرفعه إلى مصاف كتاب القصة القصيرة فى تلك المرحلة.
لم أقرأ قصصاً أخرى للكاتب الصحفى الراحل، إلا قصة واحدة نشرها فى مجلة «الأديب» فى مايو 1958، ولا أعرف لماذا أقلع عن كتابة القصة، رغم ماكانت تبشر به هذه القصة الممتعة، وهى تعكس زخماً سردياً كبيراً يتمتع به الكاتب، وانحاز فيما بعد للشعر، فأصدر بعض الدواوين تباعاً، ولكننا لن نعدم منه أن يطالعنا بين الحين والآخر بمقال هنا، أو دراسة هناك عن القصة القصيرة، فعبر مجلات كتب فيها، بداية من مجلة «أصوات»ويصدرها المستشرق والمترجم ديفيد جونسون دينيس فى لندن، إلى مجلة «حوار»برئاسة تحرير أنيس صايغ، كنا نطالع مشاغباته وملاحظاته الذكية حول القصص، ليس بصفته ناقداً، ولكن سارد قديم،ذو شرعية تفوق شرعية الناقد فى النظر إلى فن القصة القصيرة، هكذا قرأنا له ملاحظات إيجابية وبديعة حول مجموعة «بيت سئ السمعة» ليوسف إدريس، كما ساق بضعة آراء جيدة حول كتابات غسان كنفانى، وأعتقد أن ماكتبه عن القصة القصيرة، يصلح أن يُجمع ليندرج فى كتاب، فما أجمل من أن يكتب سارد قديم، خرج عن إطار المنافسة و«النفسنة»، كى يقول ملاحظاته بشكل فنى محض، ومحايد، ولا أظن أن ما قاله زكريا الحجاوى كان عائقاً له بأى شكل من الأشكال، وأتمنى أن يدلنى أحد على أى قصص كتبها، ففى ظنّى أن الكاتب الذى يمسك بطرف الخيط فى لعبة فنية ما، من الصعب أن يترك الخيط تماما، وأنا متأكد من ظهور من يراجعنى ويقول لى: «لا يا أستاذ، فرياض الريس كتب كذا وكيت فى القصة القصيرة»، غير أن آفة أخرى اختطفت نجيب الريس قبل رحيله بعقود طويلة، لم تخطفه عمداً، بل ذهب إليها محباً وعاشقاً ومحترفاً، وهى آفة الصحافة، وقد خطفت كثيرين قبله، وستظل تخطف بعده فى العالم العربى، رحم الله الناشر والكاتب الصحفى الذى ترك بصمات عميقة فى كل المجالات التى خاض فيها.