دينا الحمامي
الأنوثة كنقمة الطبيعة ونعمتها
في رواية “روح الله الفضل حبش” للكاتب مجدي نصار والصادرة عن دار العين مطلع العام الحالي، برزت تيما الأنوثة عبر عدة مستويات تتفاوت فيما بينها في الماهية والخصوصية والأهمية، إلا أنها تدلل على وعي الكاتب بأدوات الكتابة النسوية والتي تختلف تمام الاختلاف عن الكتابة النسائية في الطابع والمضمون وحتى في الجمهور المستهدف.
تنخرط الحبكة الأساسية للرواية في حياة بطلة ولدت بعلامات جسدية تحتل وجهها ورقبتها وأماكن متفرقة من مفاتن جسدها، مما ينعكس على أوجه معيشتها كافة وتعاملات محيطها الاجتماعي، كما هو سائد بأي بيئة تعاني من أعراض المرض الاجتماعي الأخطر؛ عدم قبول الآخر ويا حبذا لو كان مجتمعاً منغلقاً لا شغلة فيه أو مشغلة سوى التلوك بسير البشر، فإن النساء تدفع أثماناً مضاعفة عندما يقعن كضحايا في شراك هذه الآفة الاجتماعية وتتفاقم معانتهن إذا ميزتهن الطبيعة بمواصفات جسدية لا دخل لهن بها.
بنسق تدريجي ولكنه واضح ودال، يورطنا الكاتب في تفاصيل حياة البطلة المأزومة والمعتلة جسدياً كما صُور لها، والتي لا تقتنع بتبريرات بعض المؤمنين من المقربين منها والتي تجاوزت التفسيرات المنطقية للاختبار الإلهي لتبلغ موضعاً مدهشاً من الخرافة والعبثية، ففي الوقت الذي فسر البعض أن وحمات”روح” (الشخصية الرئيسية للرواية) ما هي إلا ناتج عن قبلة من ملاك على إحدى وجنتيها، ترفض البطلة الاقتناع بهكذا تفسير وإن كان أفضلهم، وتتعامل بشجاعة مع واقع يفتك بالجميع ولا سيما من وقعوا تحت ظلم يد القدر الحمقاء، التي قد تهب إحداهن جسما أنثويا بارع الجمال بينما تلطخ باليد ذاتها الوجه وأماكن متفرقة من الجسد بخرائط ملونة وكأن الطبيعة قد اختصت النساء بعبء الأنوثة المكللة بالإغواء والمشقة والألم؛ يتجلى هذا التفاوت المضحك في توزيع الأنوثة على جسد المرأة في مشهد ارتداء البطلة للنقاب لتتجول به في شوارع القرية فتحظى بكم من المعاكسات لم تكن لتحصل عليه وهي سافرة. يحتاج هذا النوع من المعالجات الأدبية إلى ميزان حساس ينقل تقلبات الشخصيات النسائية وتحولاتها بخفة، كي لا يتحول النص إلى بوق نسوي تقريري يتناول الواقع النسائي بسطحية مخلة.
جاءت الأنوثة أيضا ً كلعنة شديدة المرارة حينما حل الحب، فكل من تجرأت وشعرت بأنوثتها في حضرة حبيبها عوقبت عقاباً شديداً، فصباح حُرمت من حبيب عمرها الأول وظلت تبحث عنه وعن أنوثتها معه في كل رجل آخر عرفته، ومديحة دفعت ثمن إحساسها بأنها أنثى قادرة على الإغواء بأن حرمت من الإنجاب، وروح فقدت حب حياتها عندما أشعرها بفتنتها، حتى راجية خسرت حياتها جزاءً لعلاقة زواج سوية ومن قبلها تحطم قلبها حزناً بسبب علة ابنتها، وكأن حياة الأبطال تنتهج العشوائية بشكل عام وعندما تصل الأمور إلى مقدرات النساء، فإنها تتعامل بوعي في العطاء قبل الأخذ.
العنوان والبنية بوصفهما محركين للأحداث
جاء عنوان الرواية مباشراً ومعبراً عن الفكرة الأساسية للنص، فروح الله الفضل حبش هي صميم الرواية وروحها، بيد أنها لا تغطي على مساحة بقية الشخوص ولا تطغى على مصائرهم، لكنها كالشمس التي تدور الشخصيات في فلكها كالكواكب، وهي في حد ذاتها كوكب يدور القمر حوله وترعاه الشمس؛ وكما جاءت بنية النص بشكل بانورامي لا يتبع التسلسل القهري للزمن، حملت عناوين الفصول دلالات إحالية لا تلتزم بالتسلسل المنطقي للوقت كما بالفصل السابع المعنون “عيون زرقاء” فهو يحيلنا إلى الفصل الرابع ” عيون بيضاء”، والفصل الثامن ” عيون سماوية” يحيلنا إلى كلا الفصلين: الأول (عالم من عيون) والثاني ( عيون لا تعرف الألون).حافظت هذه البنية الدائرية للسرد على عنصر التشويق عبر الحبكات الفرعية المتناثرة والمروية عبر تقنيتين مختلفتين للحكي؛ الأنا الساردة، وضمير الغائب، إلا أنها كثفت التأسيس لشخصيات ليست محركة للأحداث كمديحة على حساب شخصيات أكثر أهمية كأميرة وهاني، وهو ما تم السيطرة عليه نسبيًا في الفصل الأخير الذي أعاد بعض التوازن بأن أفرد مساحة للعديد من الشخصيات.
تأقيت الجسد في مقابل خلود الروح
تأرجحت دواخل الأبطال بين جناحي الذكريات والأمل، الاستبشار والضيق، الحلم وخذلان الواقع، وحضر الجسد غي أغلب الأوقات كسجن تئن بين جدرانه أرواح الشخوص المعذبة، فراجية أم روح قد حلت روحها مثقلة بعبء جسد لا يسعفها على التذكر ولم يسعفها العمر لتتمتع به كأنثى وجاء الموت كلحظة تخفف من ثقل الحياة، وصباح عمة البطلة قد تعذبت طوال الوقت كونها تمتلك جسداً لا يمكنها السيطرة على شهواته وظلت نفسها حيرى تصبو إلى الإشباع بلا أمل قريب في الاستقرار، وصولا إلى البطلة التي يمتلك مصيرها نصيباً من اسمها، فروح سليلة النواعم أبناء الحديث مع الهواء والتيه والنسيان لم تنعم بالتحرر التام من الحياة سوى باختفائها الذي اختارته بإرادة حرة، تاركة الباب مفتوحاً على مصراعيه حول خاتمتها التي تشابهت مع حياتها في التفرد والغرابة والجنون.
الذاكرة الجمعية ووهم الخلاص الفردي
على امتداد فصول الرواية وبتراتيبية واعية، اشتبكت مصائر الشخوص والتحمت أقدارهم حتى برز السرد في مواضع بعينها كذاكرة جمعية مسؤولة تسعى إلى التطهر وقادرة على الاشتباك مع الواقع، دونما خجل من النقائص التي تميز كل فرد وتظهره كإنسان حقيقي قادر على الخطأ والاعتراف به وعدم النزوع إلى الملائكية التي لا وجود لها سوى في الخيال؛ تجلت تلك المسؤولية الإنسانية حينما أصرت البطلة على مصارحة خطيبها حول الوشوم التي ميزتها بها الطبيعة في أكثر أماكن جسدها الأنثوي حساسية. حلقت لغة الكاتب لأعلى المستويات رهافةً حينما اختلط عالم الرؤى بالحقيقة وظهرت راجية وسامية ومارينا في خلفية المشهد كشاهدات على اعتراف كنسي تؤديه البطلة في محراب حبيبها، وكانت هذه الشهادة تتمة لأدوارهن كمشاركات في ذكريات البطلة وكأن ذاكرتها الفردية قد تحولت هي الأخرى إلى ذاكرة جمعية شاركت بها سامية كخير سند ومعين، فيما جاءت مارينا كضمير ومرآة روح وصوت لعقل البطلة وقلبها، وحل هاني كأكثر من حبيب؛ كنصف مكمل ونور لروح أظلمت من الوحدة وارتواء بعد طريق بحجم عمر ضاع في سراب محبة “سمير”، فيما برزت صورة الأم راجية في خفة الريشة مثل ظل يراقب الابنة ويرشدها ويهديها ويرعاها كملاك حارس وأمين.
لم يكن الشخوص بمفردهم هم المعنيون بالالتحام مع البطلة في مصير شبه جماعي، لكن بالإبحارقدماً في مياه النص، فالقمر تحول من كونه مجرد شاهد على الأحداث وراوٍ لها إلى تؤام روح وبلورة سحرية مخلصة للبطلة تطلعها على الذكريات، وتنقل لها الواقع بحذافيره إلى أن قدم نفسه كفداء لها في أواخر الرواية، حتى الشمس رمز القوة والتي لم ترحم حرارتها أحداً في أحد الأيام، قد ترفقت بروح فأبت أن تجعلها تتعرق في حضرتها، تفرح لفرحها وتحزن لحزنها، تبوح لها بعظيم أسرارها وتمدها بخواص طاقية لتنتقم لها من أعدائها، وتجعلها غير مرئية أمام عيونهم المترصدة.