رواية عمار علي حسن “صاحب السر” … أمثولة الواقع فنياً

صاحب السر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صبحي موسى

توقفنا رواية “صاحب السر” للكاتب عمار على حسن، التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية، عام 2021 أمام نقطة فاصلة ما بين الموت واللاموت، حيث يموت شخص فيغسل ويدفن في قبره، لكنه ينتفض مستيقظا من موته، لنعلم فيما بعد أنه كان في غيبوبة الكبد، تلك التي يعتقد الكثيرون أنها الموت، ومن ثم قاموا بدفنه.

ربما كانت هذه هي الحيلة الروائية التي اختارها عمار لعمله الجديد، ساعيا من خلالها إلى الوقوف على عتبة الموت، حيث أمضى بطله يوما بليلة في المنامة أو القبر، باحثا فيما أودى به لدخول هذا القبر، وكيف يمكنه أن يخرج منه ليعيش ما بقي له من أيام، وبين محاولات التذكر والخروج تدور أحداث الرواية في مكان لا يزيد عن مترين في مترين، وبين الجثث والرفات تبدأ محاورات طويلة بينه وبين الموتى، محاولا التعرف عليهم، ومعرفة السر الذي أودى بهم إلى القبر، مثل “شنودة” الذي اختفى من القرية قبل شهرين، و”حميدة” التي تعرَّفَ السارد /البطل “مرزوق الحر” على الحب من خلالها، و”على المسلوب” الذي لا يكلم احدا الا في الظلام (رجل طاعن في السن، كان يمشي على الجسور قبل الغروب، يحط يده على عينيه ويتابع الشمس المذبوحة عند الأفق الغربي، لا يكلم أحدا حتى يغطيه الظلام الذي يرمي السواد على الزرع وماء الترع والأشجار والنخيل، فيصير هو خيطا معتما يتحرك وسط كتل سوداء تهتز في نسائم أول الليل).ص41

تبنى الكاتب في عمله تقنية التداعي السردي، مقيما على أساسه العلاقات بين الشخوص في نصه، فليس هناك بناء درامي بالمعنى المعتاد، ولكن هناك حالة من السرد المفتوح، حيث ينتقل الكاتب من شخص إلى أخر أو موقف لآخر عبر آليات التداعي، مما ساعده على الانتقال بسهولة تامة عبر الأمكنة والأزمنة التي شهدتها الرواية، بدءا من طفولة السارد وعلاقته بأبيه وأمه وأخيه “مرزوق” الذي ذهب إلى ليبيا ولم يعد، وعلاقته بشخوص قريته الذين بات يعرف كل أسرارهم، بما فيهم العمدة الذي روت له زوجته عن ابنه الوحيد، ذلك الذي أنجبته من لص اعتدى عليها، وحين علم العمدة بمعرفة السارد للسر قرر أن يتخلص منه على غرار ما يفعل دائماً في خصومه، أو من يشكلون ازعاجاً له، لكن غيبوبة الكبد جاءت السارد فقرر العمدة دفنه والخلاص منه، وحتى شخوص المقابر الذين أتوا ليسرقوا رؤوس الجثث ويبيعونها لتجار المخدرات، وما دار بينه وبينهم من حوار طويل كشفوا له فيه سرهم، ومن ثم قررا أن يبلغوا العمدة بأن قتيله مازال حياً، فأتى الأخير برجاله لينهوا المهمة التي لم تكتمل، غير أن السارد دفن نفسه بين الجثث فظنوه ميتاً.

هكذا ساعد التداعي السردي على الانتقال ما بين عوالم الموتى والأحياء، والحفاظ على خيط السرد ممتدا دون انقطاع، إلى أن أتى رجل ليعاشر زوجته بجانب المنامة التي بها السارد، فيعلم الأخير سر عدم انجابهما، وسبب مجيئهما إلى المكان كي تنحل عرى التعويذة التي وضعت لهم في القبر أو المنامة، ومن ثم يخاطبهما السارد بوصفه الجني الخادم للمشعوذ الذي ذهبا إليه، وحين يتمكنا من فتح المقبرة ومساعدته على الخروج يسقط عنه كفنه، وتتعرف عليه السيدة، فقد كانت جارة له في الشارع، ومن ثم تطارده هو وزوجها، لتبقى النهاية مفتوحة، حتى وإن أوحى السارد بأن كل ما بقي له في الحياة لا يزيد عن أيام.

قامت الرواية في مجملها على التجريد، فلم تتورط كثيرا في سرد التفاصيل، وظل خيطها السردي محافظا على التجريد الذي بدأ من خلاله، حيث كان الكاتب معنيا برصد البعد النفسي لسارده في المنامة المليئة بالجثث والظلام، وحيث الأصوات التي يسمعها والشخوص الذين يتعرف عليهم من خلالها، والرغبة في الخروج من المكان، وتأزم الموقف دائما، فقد فشلت كل المسارات التي سعى فيها، ومن ثم فقد احتفت الرواية بالبعد النفسي أكثر من سرد التفاصيل والوقائع، مما جعل اللغة تنتمي إلى عوالم لشعر أكثر منها إلى اللغة الروائية، فهي لغة بسيطة ذات إيقاع وصفي سريع، لغة تجريد أكثر منها لغة رصد للتفاصيل ( من بوسعه أن يأتي الآن وصوت الذئاب يهز المكان؟ لا أحد، وحتى لو عادت الذئاب إلى جحورها، فمن ذا الذي يأتي؟ وإن أتى، فكيف سيسمع صراخي إن عاد إلى الألم؟ وكيف سيسمع نقري على الباب الحديدي الموصود؟).ص62

رغم هاجس الموت الدائم في أغلب أعمال الروائيين لكن رواية “صاحب السر” تتقاطع من بعيد مع أعمال عالمية كبرى مثل “الكوميديا الإلهية” و”رسالة الغفران”، وبدرجة أقرب مع “طرف من خبر الآخرة”، فدانتي أليجيري وأبو العلاء المعري كتبا تصورهما عن عالم ما بعد الموت، أما عبد الحكيم قاسم فقد صور الطقس الجنائزي كاملاً، حيث الموت والمقبرة والملكان والحساب، بينما صور سارد “صاحب السر”، المقبرة وما بها من رهبة وظلام وجثث، معتقدا أنه مات ونهض ليحاسب، لكن عبد الحكيم قاسم كان مهتما بمناقشة كيفيه الحساب والمساءلة، طارحاً أن هذا الحساب والهدف منه على غير ما هو مطروح لدى العامة والفقهاء، في حين شغل عمار بتقديم أمثولة سياسية لما يجري في الواقع، حيث العمدة الذي بنى مقبرة خاصة ليدفن فيها من لا يرغب فيهم.

جاء العنوان صاحب السر اختصارا لما يمكن تسميته بمالك الأسرار، حيث أن مرزوق الحر أصبح مكمن أسرار الجميع، وبات يعرف كل شيء عن أهل القرية، بما فيهم العمدة وابنه الذي ليس من صلبه، وهو السر الذي جعل العمدة يقرر أن يتخلص من السارد، فلن يفكر في الخلاص من الطفل الذي سيخلد هذا الاسم، ويرث معه كل ما لدى العمدة من مال وأرض، ومن ثم فصاحب السر أو السارد هو الحلقة الأضعف التي يمكن الخلاص منها.

 لكننا لا يمكننا أن نتلقى النص على هذا المستوى من الرؤية الفنية البسيطة، فثمة بعد أعلى من ذلك، بعد يضع المثقف ـ بوصفه صاحب السر ـ في مواجهة العمدة ـ بوصفه صاحب السلطةـ، ومثلما تصبح الأسرار هي المعارف، والجثث التي تواصل معها السارد هي الكتب التي يقرأها المثقف، فإن السجن هو المعادل الطبيعي للمنامة أو القبر الذي يتم التخلص فيه العمدة من غير المرغوب فيهم.

هكذا يمكن قراءة “صاحب السر” وفقا لمستوها الفني، وما احتوت عليه من لغة شعرية وجهد عكف عليه كاتبها، مما ينقلها من مستوى الأعمال البسيطة ذات البعد الأحادي إلى مستوى الأعمال ذات البعد السياسي والفني، على نحو ما فعل جورج أورول  في روايتيه “مزرعة الحيوانات” و”1984″، طارحا الأمثولة التي تعد معادلا فنيا للواقع المعيش، وما به من إشكاليات لا يمكن التعبير عنها بشكل مباشر، ومن ثم يتم اللجوء للفن لإثبات الحقيقة قبل أن تمحوها ريح النسيان، وقبل أن يُتهم المثقف بأنه شاهد وعاين وصمت، لتصبح الرواية في مجملها صرخة بأننا في منامة وعلى الموت واللاموت، وأن المعرفة هي الطريق الوحيد للنجاة.

……..

*نقلا عن موقع “ذات مصر”

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم