حينما تسير كل الدروب لغاية واحدة؛ هي الاندهاش من كل هذه التفاصيل المكونة لتلك العوالم الخفية والغرائبية، والتي تحمل حدا فائقا من الادهاش والواقعية في آن واحد، فأنت حتما بين دفتي رواية”طرق الرب” الروائي شادي لويس. والذي يبدأ سفره المدهش بآيه من أرميا”الآباء أكلوا حصرما، وأسنان الأبناء ضرست.” فكل منا يحمل تاريخ آبائه على كاهله كصليب سرمد لاينفك حتى يسلم للأبناء كما هو، كلنا سجين صورة أبيه، تبدأ المسافة بعيدة عند قاعدة المثلث وما تلبس أن تتحد بنقطة واحدة عند رأسه، من منا يستطيع امتلاك خياراته بعيدا عن تلك القاعدة الجبرية التي تطبق بحذافيرها على كل منا. تبدأ المسافة شاسعة عند قاعدة المثلث وبالضبط حينما قرر “شريف” القبطي المصري الزواج من “إستر” الألمانية المتعربة، ولأنه قبطي شرع بالزواج من أجنبية فكان عليه ملأ أكبر كمية من الوثائق، ومنها شهادة خلوه من الموانع الكنسية للتزوج بألمانية، ولأن من الصعب ومع التعدد التاريخي الطائفي للأسرة، وصعوبة تصنيف انتماءها لكنيسة طائفة مسيحية بعينها، ومما صعب المهمة عدم مواظبة شريف حضور قداسات كنيسة بعينها، فكان لزاما عليه الاجتماع بأحد الكهنة الأرثوذكس لاختبار إيمانه المسيحي القويم. ولمنحه شهادة الخلو من الموانع الكنسية تلك، فلاتحسبنها مهمة سهلة بأي حال متخيل أو غير متخيل. وكان سؤال أبينا أنطونيوس هو المفتاح” من أين نبدأ؟!” ، وإجابة شريف “جعفر هو جد أمي، ومنه تبدأ الحكاية!”.
ليس جعفر اسما مناسبا لقبطي بالطبع، ولكنه وكما جرت العادة بعائلة الأم لم يكن الاسم الوحيد، فجعفر له اسم آخر هو حنا، وأمه نفسها كان لها اسمان مرية ومايسة، وخاله أيضا يدعى جرجي وهاني، ليس بغرض التخفي والتقية، أو إنكار المسيح، فخاله الآخر اسمه مايكل وتدارس، وآخر أديب ومسعود، ربما كانت العلة في التخفي من الأرواح الشريرة كوسيلة لتضليلها. “ولكن وبالرغم من أنني عجزت على إيجاد منطق واحد لتفسير جميع حالات الازدواج في أسماء العائلة فإن اسم جعفر على الأقل كان له تفسير واضح ومجمع عليه…” فقد تمتعت عائلتهم بحماية قبيلة الإشراف الجعافرة.” إلا أن جعفرنا قد نال اسمه تيمنا بالقبيلة، وأن ذلك الاسم كان لعنة أصابت صاحبه، وإن كان والده قد أدرك الجرم الذي ارتكبه لاحقا …” فنظرا لكونه “أسود عبد” فلم يسعد الأشراف الجعافرة اسمه، ونظرا لكونه ينتسب لعائلة من البيض الشقر، فاتهمه الناس في نسبه، وأدى ذلك لكثرة مشاحناته ومشاجراته، حتى نبذه أحدهم “بابن الحرام” ففصل جعفر رأسه عن جسده، مما أدى لحبسه خمسة عشر عاما، خرج بعدها ضيق الخلق جدا. “لم يرض اسم جعفر لا الله ولا الناس، فالمولود كان لسبب ما، أسود البشرة، أسود عبد مش أسمر، استاء الجعافرة من الأمر، فليس من المشرف أن يحمل اسمهم عبدا، وربما ابن حرام أيضا، (…) سرعان ما نسي الجعافرة الأمر، إلا أن الله ،بالطبع، لاينسى…” أرسلت العائلة جعفرا بعد خروجه من السجن للشرقية، اتقاء للمشاكل، وأرسلت معه قدرا من المال اشترى بها أرضا عاش على ريعها، وأنجب أربعة صبيان، إلا أن جعفرا كان كثير العراك والمشاكسة مع رعية كنيسته وكاهنها. انتهى أمر جعفر حينما هرول بابنته “فراولة” والتي ولدت مبتسرة حال ولادتها، ليعمدها الكاهن، لتضمن ابنته مكانا بالملكوت، إلا أن الكاهن رفض تعميدها، لتأخر الوقت، ولمشاكسة جعفر الدائمة معه. ماتت فراولة، وحرمت الملكوت، وحكم عليها بالهيام بمنطقة بين السماء والجحيم. وكاد جعفر أن يجن فوق جنانه. “كان الرجل الضرير قد بدأ بالهذيان بأمور هي خليط بين الكفر والجنون، فمرة يعلن عن عزمه إحراق الكنيسة، ومرة يجدوه في المقابر ينبش تربة ابنته حتى يقوم باستخراج جثمان ابنته وتعميدها بنفسه، ومرة يدعي أن فراولة قديسة وتظهر له في المنام، وأشياء آخرى من هذا القبيل. اختفى جعفر فترة، ليرجع معلنا عزمه بناء كنيسة كاثوليكية تنافس تلك الأرثوذكسية في قريته، ويشرع في الإجراءات والتي تنتهي بعد خمس سنوات بموافقة الدولة، فيما عده الناس أحد معجزات الرب. كانت خطوة انتقامية من الكاهن الأرثوذكسي الذي رفض تعميد ابنته ليحرمها ملكوت الرب. “هذه كنيستي، وملكي أنا، بنيتها، حتى لا أدخل ملكوتك، ولا أرى وجهك…”
مات جعفر وهو يصرخ بتجديفات كثيرة من هذا القبيل، وبعدها دفن بجوار فراولة، حسب وصيته. إلا أن الجد الأسبق والمسمى “أسعد”، والذي كان مستهدفا بسب الجد السابق”الراجل العرص، ربنا يلعنه في كتاب…” فأسعد الفلاح الفقير ذو السبعة أبناء قد تنازل عن ابنين من ابنائه لأحد الإرساليات التبشيرية البروتستانتية ليكون الانتماء الطائفي الثالث بعد الأرثوذكسي والكاثوليكي. وهكذا تنساب حكايات شادي لتتواز مع أحداث ماضية حول علاقته بإستر، وانخراطهما في هروب متكرر من السلطات التي اتهمتهما بالانضمام لحركة “كفاية” مرورا بأحداث فص اعتصام السودانيين بالمهندسين، وتردد أصداء الفتك باعتصام المسيحيين بماسبيرو، ومحاولة تزوج “شريف” بإستر للهرب خارج البلاد، وتخلى إستر عن شريف، وسجن شريف بتهمة إهدار عشرين جنيها من أموال الدولة، وفصله من عمله المؤقت. ثم مكوث شريف الاختياري بالكنيسة، لير كيف تنهمر أقدار الله لتدفعه بالسير في طرقه. “لم يكن شريف تعيسا جدا في النهاية، فهو لم يعد لديه مايشغل باله في المستقبل، فكل معاركه بخصوصه قد حسمت بالخسارة بالفعل، وهذا أمر مريح، فالغد قد أصبح محسوما ومنتهيا إلى الحد الذي معه كان الممكن لشريف أن يدعي أن علاقته بالمستقبل تنحصر في تذكره، نعم تذكر المستقبل، أما عن الماضي، فكان لازال مفتوحا على احتمالات عدة للاختيار بينها، ففيه مايكفي من الأحداث لحبك أقاصيص كثيرة، ومعظمها بلاتفسير، أو رابط منطقي بينها(…) وكثيرا ما كان يختم حكاياته التي تتغير أحداثها بحسب مزاجه وأمزجة المستمعين، بأنه لولا ذلك، لما رجع لأحضان الكنيسة، فطرق الرب عجيبة، وعصية عن الفهم…وهو أنه ولو لم يكن له رجاء في المستقبل، فعلى الأقل هناك أمل في الماضي بالتأمل فيه وتدبر حكمته…”. فالقاعدة مقلوبة عند شريف بتبني الحكي عن الماضي كوسيلة للخلاص والأمل. تبدو “طرق الرب” عالما مكتملا من شخوص ذات اختبارات مستقلة وغريبة في الحياة، ومع أسلوبها الساخر الفاقع بالكوميديا السوداء، والمتخم بفلسفة عدمية صريحة، إلا أنها تمثل مأساة بطريقة ما؛ مأساة الحرية والاختيار، وما يتبعهما من مسؤولية قد تكون مميتة وقاسمة للظهر بأحيان كثيرة. “
طرق الرب” رواية لشادي لويس بطرس صدرت عن “دار الكتب خان 2019.