رواية حذاء فيلليني، طبعة جديدة للتعذيب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عارف حمزة

يبدو أنّه مكتوب على كلّ بلد عربيّ أن يكتب روائيّ منه، واحد على الأقل، رواية عن التقدمّ الكبير للتعذيب في سجون ذلك البلد. بعد رواية "شرق المتوسّط" للكاتب السعودي الكبير عبد الرحمن منيف، التي تعتبر رائدة في هذا المجال منذ صدورها في عام 1975، ومنعها من التداول في أكثر من بلد عربي، ورواية "تلك العتمة الباهرة" للروائي الفرنسي، من أصل مغربي، الطاهر بن جلون، ورغم عدم تبنّي الرواية، التي نُشرت في عام 2001، لقضايا معتقلي "تازمامرت"، إلا أنّها عاشت عوالم ذلك التعذيب في سجن سيئ الصيت، ورواية "القوقعة" التي تجري أحداثها في سجن "تدمر" الرهيب، التي منذ صدورها في عام 2008 طبعت لمرات عديدة، وشهرت كاتبها السوري مصطفى خليفة.

“حذاء فيلليني”، الصادرة حديثاً عن دار المتوسّط، تختلف عن الروايات المذكورة من ناحيتين على الأقل. إذ لا تجري أحداث رواية الكاتب المصري وحيد الطويلة في سجن محليّ/ مصريّ، وبالتالي، لا تجري أحداثها في مصر، بل في سوريّة. من ناحية ثانية لا تلتصق أحداث الرواية، ولا تجري فقط، في السجن، بل تذهب إلى أماكن أخرى وأزمنة أخرى، تغطي مساحة زمنيّة غير معروفة مدّتها من تاريخ سوريّة، ولكنّها تجري أيام حافظ الأسد. هي تذهب كذلك لتحليل شخصيّة الجلاد وشخصيّات السلطة، وكذلك شخصيّات المُعذَّبين والغير مُعذبين. ورغم أنّ الرواي/ الكاتب يكتب “أنا لا أحكي عن التعذيب، فمائة رواية كتبها كتّاب من مختلف بقاع العالم لم تشف غليل أحد ولا جعلت السلطة تتوقف عن التعذيب، ولا جعلت الجمهور الغبي يقف ضد التعذيب”. ومع ذلك فهي رواية عن التعذيب بامتياز.

بتقرير غريب يُعتقل معالج نفسيّ اسمه “مُطاع”. يبقى ما يقارب الثلاثة أسابيع في “القبو”. وهو المكان الذي تعتقل فيه المخابرات المشتبه بهم، الذين يمضون هناك فترة قد تطول أو قد تقصر، قبل تحويلهم إلى السجون أو المقابر أو يُخلى سبيلهم، ومن بين أولئك المحظوظين المفرج عنهم، سيحتفظ قلّة قليلة منهم بالقليل من قواهم العقليّة أو الجسديّة. في القبو حيث “تتمنى لو أنّك حشرة تستطيع الطيران لتمرّ من أيّ ثقب إلى نافذة الحياة..”. “القبو مكان آخر غير السجن، جحيم آخر، القبو مكان تحت القبر، مكان الحساب على الأرض، يُقيمه آلهة من البشر، لم تمرّ عليهم كلمة الرحمة في قاموس الحياة”.

أثناء تعذيب مطاع يسألونه عن شخصين: مأمون وفيلليني. ثم يتبين أنّه جاء إلى القبو بالخطأ وبأنّه بريء. كان الذي يعذبّهم يناديه “مُطيع” وليس “مطاع”. كان يُريد منه أن يكون مطيعاً وليس مُطاعاً. خرج من القبو وهو محطّم الأنف والوجه والعظام ومُحطّم الاسم أيضاً. عليه أن يكون، كما بقيّة أفراد الشعب مطيعاً. يقول له الجلاد عندما يمرض بالعنّة وتأخذه زوجته إلى عيادة المعالج النفسي مطاع، بأنّه يجب أن يشكره لأنه جعل منه مواطناً صالحاً. حتى في مرضه وعوزه للعلاج يقول له الجلاد “نحن مَن اخترعنا الروبوتات قبل أن يخترعها اليابانيّون، هم يصنعونها من جماد ونحن نتفوّق عليهم بصنعها من البشر”.

في بدايات الرواية يكون هناك راو واحد هو الكاتب، أو الضمير الغائب، ثم يخرج علينا الراوي مُطاع. وبعد أن يخرج من القبو نحصل على راويين هما مطاع ومطيع. ولكن بعد ذلك يزداد عدد الرواة؛ الجلاد، زوجة الجلاد، الشيطان، فيلليني.. الحدث الذي تقوم عليه الرواية هو الصدفة المؤلَّفة بأخذ زوجة الجلاد للجلاد إلى معالج نفسي لعلاجه من العنّة. وهنا المعالج يكون هو مطاع/ مطيع نفسه. الزوجة التي تروي لنا، في مقطع يعتبر من أجمل المقاطع في الرواية، شذوذ زوجها وقسوته واغتصاباته لها وللأخريات، عن معرفتها لعدد ضحاياه في القبو من خلال جرائمه التي يرتكبها معها في البيت. كما وقع مطاع بين براثن الجلاد بالمصادفة في ذلك القبو الجهنّميّ، يقع الجلاد بين نيران الانتقام التي تستعر داخل مطاع في عيادته. هنا تكمن كتلة الرواية في تقريب أو إبعاد مطيع عن التعذيب أو القتل مباشرة من دون تعذيب أو قطع عضو الجلاد فقط وتركه. لا بدّ لفيلليني، المخرج الإيطالي المعروف، أن يطلب من مطاع أن يُسامح الجلاد ويلتفت لحياته. ولا بدّ لزوجة الجلاد أن تطلب منه الاشتراك معاً في تعذيب زوجها وقتله، ولكن ما يُثير أن يطلب الشيطان منه أن لا يقتل الجلاد، وأن يرحمه. وهنا تدور حواريّة بينه وبين الشيطان عن عوالم البشر وعوالم الشياطين، لدرجة نظنّ أن الشيطان هو رسول الجلاد إلى مطيع.

استخدام تقنية تعدّد الأصوات من قبل صاحب رواية “ألعاب الهوى” ليست بجديدة في عالم الكتابة الروائيّة، ولكنّها تقنية خطيرة؛ قد تجعل الأمور تذهب لصالح العمل الروائي، وقد يحدث العكس. خاصّة أن بعض المقاطع قد تبدو وعظيّة وثقيلة عندما تذهب لتكون مثل علاج نفسيّ، من قبل كثير من الرواة، للمعالج النفسي بطل الرواية. رغم أنّ هذا الدفع نجو الانتقام ودرجاته أو التسامح ودرجاته هو تعذيب أيضاً لمطاع في عيادته هذه المرة وليس في القبو. وحتى حوار مطاع مع مطيع هو تعذيب شخصيّ حيث “لا أحد يستطيع أن يُعذّبنا كما نُعذّب أنفسنا”.

الأمر الخطير الآخر الذي قد يجد نفسه فيه صاحب رواية “أحمر خفيف” هو أن تجري أحداث روايته كلّها في بلد غير بلده مصر. ولكن المثير أيضاً أنّها تجري في سورية التي لم يزرها الكاتب، أو لم يُقم فيها مطولاً. ولكن هذا الأمر ليس بغريب على الطويلة الذي تجري أحداث روايته السابقة “باب الليل”، التي صدرت في خمس طبعات وحصلت على جائزة ساويرس في مصر، في تونس. هي أمر خطير تجاوزه الكاتب برش اللهجة المصريّة وأمثالها ومرحها على الأماكن والشخصيّات السوريّة لتبدو أنها من صنعه، وتصلح في النهاية لكلّ بلد غادره الأمل منذ اعتلاء الديكتاتوريات لسدة الحكم فيها.

يظهر مأمون، ومأمون هو الاسم الذي يُطلق على المخبر الذين يخرج من أقبية وسجون المخابرات باتفاق أن يعمل معهم، وهناك “مآمين” يُحاولون خداع الضباط المسؤولين عنهم بإعطائهم معلومات خاطئة لإنقاذ بعض المكلفين بمراقبتهم، وهكذا سيُعطي مأمون ما، اسم مطاع بدل اسم معالج نفسيّ آخر كان يشكّ أحد الجلادين بوجود علاقة بين زوجته وذلك الطبيب. “كل ما حدث معي كان بالخطأ، كان يمكن أن تنتهي حياتي كلها لمجرّد خطأ (..) واحد كان مقصده نبيلاً من وجهة نظره فوقعت أنا تحت سنابك مَن لا يرحم”.

بظهور مأمون تكون خيوط الرواية كلّها بين يدي القارئ. هكذا سيظن أحدنا، ولكن الطويلة لا يتخلّى عن الفانتازيا الممتعة؛ ففي القسم الأخير من الرواية يبدو الأمر وكأنّ فيلليني يصوّر مشهد الانتقام؛ قتل الزوجة للجلاد وعودة مطاع ومحو مطيع. مشاهد شديدة الجماليّة والغرائبيّة وتجعل الرواية تتحوّل ببساطة إلى مسرحيّة تارة وإلى فيلم تارة أخرى. هكذا تستحق رواية “حذاء فيلليني” أن تكون مسرحاً وأن تكون فيلماً يُضفي جماليّة جديدة على المشهد الروائي المصري.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم