فرج مجاهد عبد الوهاب
فى زمن السرعة والمكتبات الإلكترونية، والوجبات السريعة والوقت الذى أصبح أغلى فى الذهب، يتساءل القارئ العجول عن جدوى حبس الذات وإرهاق الحواس وزهق الأنفاس وهو يقرأ (ستمائة واثنين وأربعين) صفحه لعمل روائي طويل جداً فى وقت انحاز النشر فيه إلى القصة المعتدلة التى تقاس بعدد الأسطر، والقصة القصيرة جداً المرهونة بعدد الكلمات.
فكم من الوقت يحتاجه قارئ فى زمن عثرت فيه القراءة، وندرت الكتب الجاذبة حتى ينهى قراءة ذلك الكم من الصفحات التى حوت كل شيء بدءاً من التوصيف والترسيم مروراً بالخيال والتخييل نهاية بالمبالغة والفانتازيا، وما يتماهى مع الواقع حقيقة ومعيشة، ودخول حر فى عوامل مختلفة ومتنوعة ومتداخلة مع ما هو محسوس وملموس وممارس، وما عبر جسر الترابط بين الواقعين: الحقيقى والخيال، وهما يفرضان على القارئ أن يتمسك بالصبر، ويلوذ بالاحتمال، فهو مضطر لأن يقرأ ويفكك، ويحلل، فلا مهرب فى أن تنكب على القراءة ولو بعينيك من دون حواسك اللاقطة فأنت أمام مسرود حكائي روائي اجتهد مبدعه الروائي “عمار على حسن” اجتهاد غير عادى حتى جمع خطوط روايته الطويله جداً “جبل الطير” التى امتدت على مساحة (642) صفحه توزعت على سياقات (اثنين وسبعين فصلاً) مرقماً اتحدت فى خمسة أقسام أيضاً مرقمه، فلا عنوان سوى عنوان الرواية فقط، جاءت على الشكل التالى:
- القسم الأول ص9- 187 رقم فى الفصل 1 حتى الفصل 17
- القسم الثانى ص191-350 وفى الفصل 18 حتى الفصل 36
- القسم الثالث ص351-456 فى الفصل 37 حتى الفصل50
- القسم الرابع ص459-546 فى الفصل 51حتى الفصل 61
- القسم الخامس ص547-642 فى الفصل 62-حتى الفصل 72
وإن عُني كل فصل فى الفصول الثلاثة الأولى بأمكنة أثريه مختلفة فرضتها طبيعة بطل الرواية “سمحان” الحارس الليلى فى مصلحة الآثار فإن الفصلين الأخيرين على الرغم فى وجود المكان، فقد عنياً بقصة حب البطل المسلم من جميله المسيحية وما آل الزواج إليه بعد اكتشافه وتدخل فى الجماعة الإسلامية وإدخال الأحداث فى فضاءات التخييل الفانتازي الذى حول “سمحان” إلى رجل صاحب كرامات وإلى ساحر فمسحور ليتشظى السرد فى محاور متعددة كشفت عن خفايا كثيره، ومعلومات مهمه وحكايات خرافية أفرزت الآثار الفرعونية كثيراً منها لعنة الفراعنه. ص88 وغضبها ص116-117، وشر سارقي الآثار ولصوص ص170-218 والبحث الدائم عما تبقى فى آثار الفراعين ص164 ومعلومات عن فائدة البحث عن الآثار واكتشافها إضافة إلى ماحملته قصة الروايه من اتكاءات واضحه على الطقوس الكنسية فى ليلة مولد السيدة العذراء والسحر الأسود ص228 والساحرة الشريره ص232-233 والتصوف ص239 ودور كل راهبه فى الدير ص265 وحكم الزواج من كتابية ص304. لاسيما زواج مسلم من مسيحيه “مسلم ينوى الزواج فى مسيحيه، ما أسهل هذا فى الشريعة، وأصعبه عند ناس يزعمون دوما أنهم يتمسكون بها … أنزل الله الدين لإسعادنا فأشقينا به أنفسنا 313-314 ليدخله ذلك في مواقف القديسين في هذا الزواج المرفوض من قبلهم “الرشفة الحقيقية هى ماتفعلونه بى وبهذه المرأة المسكينة التى اخترتها من كل نساء الدنيا.
نهروه جميعا وتطوع أحد بالنيابة عنهم:
– بل أنت الذى فعلت بها، وطأتها وهى لا تحل لك.
– لم أطأها كما تتوهمون، قبلتها بحرقة، واحتضنتها بلهفة، وتبادلنا حرارة جسدينا المخبئين تحت ملابسنا الثقيلة.
– وهل هذا قليل أيها الجاحد بكلام الرب؟
– قليل علي عاشقين تعاهدا أن يكونا معا روحا وجسدا إلي الابد.
– أنت تتحدث عن النسق، ونحن نتحدث عن الزواج، طريق الرب إلي السكينة والذراري الصالحة، ألم تقرأ يوما ماقاله بولس الرسول: لأن الرجل ليس في المرأة، بل المرأة في الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل ، غير أن الرجل ليس من دون المرأة، ولا المرأة من دون الرجل في الرب، لأنه كما أن المرأة هي من الرجل هكذا الرجل أيضا هو بالمرأة، ولكن جميع الأشياء فى الله، ص345.
ليدخل السرد في مقاربات الايحاء مابين الانجيل ص419-473، والقرآن الكريم وآياته الكريمة ص74- 468-505-599، وما جاء في نبض الأحاديث الشريفة من أتي عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل علي محمد(ص) ثم كلام آخر يقوله (الحسن ابن علي): الساحر ليس له دين ويقول (ابن عباس): ليس له نصيب في الايمان. ص512.
هذا الكم في السرد ومثله كثير جدا وقد تنازعته الأحلام والاحتلام والطقوس المختلفة التي منها الدفن غرب النيل حيث لا يوجد غير الرمال، أما الصخر فهنا في الشرق تحت سفح الجبل الصامد في وجه الريح ولذا طاب هنا دفن الموتى. ص 69
وماترتب علي ذلك من طقوس يجب أن تمارس خلال الدفن وأهمها التحنيط وطريقته ص70-74، وعبادة آمون وعقوبة من لا يعبده ص80، ويستعين بذلك إلي ترديد الأناشيد الفرعونية التي لها علاقة بآمون. ص80
ورحلة الانسان نحو الحقيقة ص:99، والوصول إلى المعرفة ص107-109 ، والتصعيد بقيمة كل من في الروحانيات ص101-156.والمناجاة ص144، وما قرأه علي التابوت في الغيبيات ص36-47.
أمام هذا الحشد المسرودي كان في البديهي أن تطول مساحة السرد وتمتد عموديا على حساب المد الأفقي المغيب خلف الأحداث والمحدثات، وكان من البديهي أيضا أن يأخذه مبدعه إلي فضاءات متداخلة إلي كل من المونولوج التذكري والعودة الي الخلف الذي كاد أن يكون قاسما مشتركا بين فصول الرواية جميعا حيث وجدناه حاضرا في كثير من الصفحات يأتي في اهمها (53-185-191-199-247-252-254-275-281-307-362-399-433) هذا التذكر وغيره في الإرهاصات والروحانيات وحكايات الجبل وقصص الفراعنة ولصوص الآثار قادته إلي أنماط من التخيل الذي أوصله إلي المبالغة في الفانتازيا ومثل هذا التخيل نراه في الصفحات(69-230-234-524)حتي وصلت إلي الفانتازيا الموزعة مابين نوم ويقظة واحتياجات الجسد ونداءات الجميلة والاحلام والكوابيس إلي الانكار علي حكايات ألف ليلة وليلة وارتفاع الحصير عن الأرض كبساط ريح “ارتفع الحصير عن الأرض ودار دورتين فى الهواء، ثم حط عند سن الجبل، هل هو الجبل الذى يعطيه سمحان طوال الليل ظهره أم هو جبل آخر” ص275
ولهذا توزعت المستويات السرديه، اقتربت تارة، وابتعدت تارات أخرى لتؤدي دوراً مرسوماً فى بنائية النص السردي نفسه، البناء الذى بدأ باستيقاظ الشيخ سمحان وفتح النافذة فلم يجد الجبل مكانه، حملق بشده مصارعاً جيوش النمل التى زحفت فى شرايينه، ثم عصر عينيه وفركهما بقوة، وعاد ليرشق بصره فى كل شىء أمامه والدهشة تملؤه ممزوجة بالحيرة والخوف هذا الموقف تكرر مرة أخرى فى نهاية الفصل الثامن والستين فى الصفحه 610 حيث نقرأ: وكررت جميله هذا فى الليله التى سبقت غياب الجبل، بعد أن هز جسدها ثلاث مرات وهو فى هذا السن كان متمشيا وسعيدا وفعل كل ما يستطيع معاها وكأنه ينزف آخر قطرة شهوه فى جسدها استعدادا للحظه التى تحتاج فيها روحه فى صفاء تام . كانت هى غارقه فى النوم ووجهها مورد وكأنها عادت بنت عشرين سنة، بينما سمع هو هاتفا يناديه: قوم ياسمحاااااااااان وقام وفتح النافذة فلم يجد الجبل مكانه فما بين الاستيقاظ الأول والنداء توقع هذا النداء فى نصية الرواية بشكل ملفت للأنظار “سمع من يناديه سمحان” ص:42
وعاد الصوت يناديه : سمحان ص57 ، وسمع من يناديه من جديد : سمحان ص58 ، كان مغمض العينين وهوا ينشد، ثم فتح عينيه فجأة ونادى: سمحان ص81 ، أحيانا كانت أمه تناديه من نافذة البيت المطل على الجبل: سمحان ص92 ،سمع نداء يأتيه من عند السفح المتعرج سمحان ص223 ، وفى عمق الليل الممتد بين الجبل والنهر سمع من يناديه سمحان ص151 ، فنادى أبتوب – سمحان لم يكن أمامه خيار فى تلبية من ناداه سمحان. ص274.
لكنه فجأه سمع صوتا يناديه:ـ سمحان ص306
ولكنه لم يلبث أن سمع نداء: سمحان ص340
جاءه صوت فى طرف المقبره: سمحان ص398
ثم تقدم مره أخرى وعنده وقف وناداه: سمحان ص428
سمع من يناديه فى ليله من ليالى الأسبوع التالى سمحان ص523
سمع هو صوتا يناديه قوم ياسمحان ص610
النداء الذى تكرر مابين الصفحه42 والصفحه610 تكرر خمسة عشر مره كان المنادى فى معظمها غائبا وغير معروف مما يزيد فسحة التأمل لمعرفة إن كان المنادى الداخل فى نفسه الذى يوقظ فى أعماق أشياء نائمه أو ليحثه على ممارسات بحاجه إلى البحث والمعرفة.
هذه الأنساق جميعها أداة تحريض لحراك غواية الأسئلة وصراعها والتى ملأت مسرود الرواية بدءا فى السؤال الأهم فى الصفحة11 “هل سجل حياتنا يحدده من نراه فى النوم فى رؤى وأحلام وكوابيس أم هو مايضنينا وما نبتهج به فى اليقظة ؟” لتتكرر الأسئلة وتتداخل في صراع غواياتها على اختلاف أنماطها: أهيه الذكريات المحفورة فى خاطره تقفز لتملأ الحاضر؟ أم هو الأمر الساكن داخله الذى يدفعه إلى أن يذهب بذهنه بعيداً عما يقف عنده أقرانه الفارقون فى تفاصيل أيامهم الدينية ؟ أم هي الرغبة فى كشف المستور وتجلية الغامض واختراق الحجب؟ ص93
- هل الآدميون يعيشون وحدهم على الأرض ؟ وهل الأرض هي المكان الوحيد الصالح للعيش فى الكون ؟ ص97
- من أين جاء ؟ وإلى أين ذهب ؟ ص110
- هل كان هو الأخر رؤية ليل ؟ أم مر من هنا وذهب ؟ ص111
- هل تنتظرين أن ينعم الرب عليك بالنوم هنا؟ أم تريدين وقتا أطول للتسكع والمساخر ص297
- وماذا فهمت أنت فى كل هذا يا شيخنا ؟ ص304
- ألم تزن عيناك ؟ ألم تزن أذناك ؟ ص317
- كيف تحل البركة مع الدم والنار ؟ ص355
- إذا كانت العاصفة قد شقت النهر، فمن جاء بالماء؟ وإذا كان الماء قد انحبس من الحجر أو تتدفق فى جوف الأرض فمن الذى جعل هذه الحشائش تنبت فى أقل من ساعة ؟ ص367 .
لم يخل فصل فى فصول الرواية من أكثر من سؤال منها ماله علاقة بحياته ونداء الجميلة الذى تكرر فى الصفحات (250-255-261) وصراعه مع القساوسة وأبنوب من أجل زواجه من جميلة المسيحية ومنها ماله بالغيب والغيبيات وكلها كانت سبيله فى البحث عن المعرفة من خلال ما تراءى له فى أجوبة كانت مطموره تحت ركام أوجدته المتاعب التى كابدها فى رحلته من الطفولة إلى الشباب، أما الإجابة الكبرى وكل الإجابات الصغرى فقد كانت تجرى كريح هادره فى رأس سمحان تخزه وتضنيه، ويظن أحيانا أو يتوهم أنه قادر على أن يقبض عليها، لكنه فى كل مره يمسك الفراغ، ليس لأنه فراغ ولا يوجد فيه ما يمكن الإمساك به فى الحقيقة إنما ما يريد أن يصل إليه، يحتاج إلى مجاهدة لم يبلغها بعد، ولا يملك سوى ظنون تغمره بأنه غير كل الذين يدبون ويثرثرون حوله. ص255
إلا أنه مع ذلك كله فإنه لم المجاهدة التى يمكن أن تصل به إلى الحقيقة، أما الدروب التى سلكها فى مجاهدته تلك، فقد توزعت بين:
- المرئيات التى تستشفها مداركه وهو ينعم النظر فيما حوله.
- الدخول فى مراحل فى الغيبيات الوجدانية والصوفية. ص36-47
- المناجاة التى اعتمدت على أغنيات الموروث الشعبي فى أشعار صوفيه نراها فى كثير من الصفحات (59-192-195-391-393-432-452-456-469-478-501-502-530-531-567-590)
- المقبوسات العديدة الداعمة لمواقفه والمستنبط معظمها من آيات القرآن الكريم أولاً ثم الإنجيل ومزامير داود ثانياً، وكلها شواهد دينية كانت محرضاً أساسياً لمجاهدته وهو يبحث عن الحقيقة فى أية زاوية فى زوايا الحياه المتشعبة التى أوجدت نفسه فى حالة صراع دائمة وهو ينشغل بعمله من مكان إلى مكان حارساً ليلياً على آثار بلاده.
- اتكائه الواضح على ما عرفه أو قرأه أو سمع به عن (جلال الدين الرومى وأبى حيان التوحيدى ص453 – وابن عطاء466، وأشعار الإمام الشافعي الصوفية ص469) والحيلولة: والآن صار داخلي وخارجي أراه بعيني ، يجلس أمامي ، لكنني أشعر أنه يجلس فى قلبي ويتربع وابن عربي 478- والحسن البصري ص541 – وعمر بن عبد العزيز ص541 – 470
هذه الأنساق التى تداخلت وتصارعت فى حياة سمحان الذى استغرقت مكابدته زمن الرواية كله والانتقال به من مكان إلى آخر ومن مرحله أدنى إلى مرحلة أعلى على المستوى الثقافي والفكري ومثاقفته مع ثقافة الدير والسيدة العذراء وجه لجميلة المسيحية وإيمانه الذى لم يتزعزع رغم المضايقات أسهم ذلك كله فى بناء معمار رواية طويله جدا ولكن على نسق واحد كان اتجاهه عموديا باستمرار أما البناء الأفقي فلم يحظى بذلك الاهتمام الذى أنصب على المعمار العمودي ولذلك تراجعت دوافع أفقية المعمار بسبب ذلك الكم الكبير والضخم فى مسرود الحكايات والمواقف والدخول فى الأحلام والخيال والتخييل والمبالغة فى الفانتازيا من أجل كشف كل ما أحاط “جبل الطير” من معارف وأسرار حركت غواية الأسئلة ونباهة الأجوبة.
وسواء أكنا مع هذا النمط فى الأسلوب السرد الطويل والطويل جداً أم كنا ضده فإننا لا نستطيع إلا وأن نتفق مع كل ما جاء على غلاف الرواية نفسها فى أن هذه الرواية تقييم جسراً بين الواقع والخيال يجتازه القارئ فى يسر عبر نسيج سردي محكم يبدعه الكاتب بدأب فلاح، وتبتل ناسك، مانحاً شخوصه لحماً ودماً، يجعلها تتسلل فى قلب التاريخ البعيد لتدب على الأرض بيننا وتشاكس البشر والحجر والشجر، إنها رواية تطرح ببراءة وبراعة صورة حياتية، وحالات إنسانية شيقة، وشائكة، تلامس الواقع بقسوته والخيال بنعومته، فى حضرة الوجد والعرفان، وفى ظل مصالح الشك مع اليقين لتصنع “واقعية سحرية” عربية تلفت الانتباه بقوة.