الآن أستعيد هذه اللحظة المؤثرة، بعد أن قرأت الترجمة العربية للرواية العظيمة . ترجمها إسماعيل المهدوى، وصدرت مؤخرا عن دار آفاق للنشر والتوزيع، مشفوعة بمقدمة كتبها المهدوى فى العام 1966. الآن عرفت سر دموع ناجى أمامنا، إذ يبدو أنه فطن بحساسيته العالية، الى أن “الإخوة الأعداء” تنقل المعركة الأبدية الى داخل الإنسان. هناك بطل تراجيدى يضحى بحياته من أجل أن يولد إنسان أفضل وأكثر رقيا، إنه الأب ياناروس، ولكن الرواية ليست عن هذه التضحية وحدها، ولكن فى تلك المعاناة التى نعيشها معه على صفحات الرواية ( 350 صفحة). معضلة العمل الكبير فى أن الصراع فى داخلنا بلا نهاية تقريبا، هناك قوى خيرة وأخرى شريرة فى قتال داخلى مرير، ينتقل ياناروس معه من الإيمان الى التجديف وبالعكس، من اليأس الى التفاؤل وبالعكس، وهذه القوى موجودة داخل كل إنسان، مما يجعلنا كائنات مثيرة حقا للرثاء، ومع ذلك فإننا لا نتوقف عن الحلم بعالم مثالى لم يتحقق. هذه المسافة الهائلة بين ما نتمناه للإنسان، وبين ما هو عليه بالفعل، بين النضال من أجل المثل الأعلى، ودفع الثمن الفادح دون أن تتحقق الغاية، كل ذلك ربما هو الذى دفع الدموع الى عيون ناجى، ولعله يدفع الدموع أيضا الى مآقى كل من يقرأ الرواية.
يمكن اعتبار روايات كازنتزاكيس النموذج الناضج لروايات الأفكار الكبرى، مثلما هو الحال فى أعمال ديستوفيسكى.واللافت حقا أن قوة الأفكار لا تجعل الكاتبين الكبيرين يتنازلان عن فنيات الرواية، ولا عن براعة السرد، وتماسك البناء. الأفكار هنا ترتدى الواقع، وتخرج من بين تفصيلاته الصغيرة الإنسانية. هناك كذلك مزيج فريد فى روايات كازنتزاكيس بين مصادر شتى مثل المسيحية والتراجيديا الإغريقية والفلسفة الحديثة، وبالذات ما يتعلق بالماركسية والوجودية. ولدينا أيضا مزج سلس بين الحالة اليونانية بخصوصية تعقيداتها وحروبها وصراعاتها وطابعها المحلى الصميم، وبين الروح الإنسانية التى تحاول إنقاذ البشرية، والتى تطرح أسئلتها الكبرى المعلّقة بلا أى احتراس. فى رواية “الإخوة الأعداء” مثلا لايبحث الأب ياناروس عن خلاصه كفرد فحسب، ولكنه يبحث عن خلاص اليونان من حرب دامية أنهكتها بين الشيوعيين، وبين أنصار السلطة القائمة، أو بين أصحاب البيريهات الحمراء، وأصحاب البيرهات السوداء، كما يريد ياناروس أن ينقذ البشرية كلها بإحلال السلام، وحسم الصراع الداخلى فى اتجاه الخير و السلام والحرية.
ياناروس، المرشد الروحى المسيحى ذو السبعين عاما لقرية كاستللوس البائسة، لا يناقش فحسب مسائل هى فى قلب العقيدة المسيحية مثل فكرة المخلص والفادى الذى افتدى البشرية بالتضحية بنفسه على الصليب، ولكن ياناروس أيضا شخصية تراجيدية قادمة من الدراما الإغريقية، إذ يبدو كما لو أنه يندفع الى مصيره، بإصراره على السؤال، وبإصراره على أن يدفع ثمن معرفته، والمذهل أن كازنتزاكيس لا يبذل جهدا أو يتعسف فى هذا المزج، ولكنه يستجيب فقط لأفكاره الثرية، ولمعرفته الواسعة بالناس وبالأفكار على حد سواء، معرفته بالبشر وبالحجر وبالفلسفة وبالدين، ولذلك لا نفقد أبدا متعة الفن، ولا متعة الفكر، وبالطبع لا نحتاج الى التأكيد على أن أسئلة ياناروس ليست فى حقيقتها سوى أسئلة كازنتزاكس الحائر بحثا عن الحرية والعدالة، والطامح الى فردوس أرضى مفقود.
يشعر ياناروس بالأزمة منذ هُجّر من قريته فى البحر الأسود مع مئات المسيحيين ليصل الى اليونان. يشعر بالإحباط لأن السماء لم تتدخل لحماية الشعب الذى يعبد الله، ولكن البعض يفسر الهجرة بأنها نوع من الإبتلاء. يتضخم السؤال عندما ينضم ياناروس الى رهبان جبل آتوس، هناك يتعلم الرسم، ويشاهد رهبانا بدناء يأكلون ويشربون، دون أن يشعروا بآلام الفقراء الذين أضناهم الجوع والسوط، ثم يصبح السؤال عدة أسئلة عندما تبدأ الحرب بين الشيوعيين الباحثين عن العدالة، والذين يرفضون الدين والمسيح، وبين دعاة النظام القائم من الأثرياء المتخمين بالثروة، ولكنهم يتمسكون بالمسيحية، أو بمعنى أدق بما فهموه من طقوس المسيحية.
تهتز أفكار الأب ياناروس بشدة عندما يلتقى الراهب نيكوديم الذى يتحدث عن لينين باعتباره المسيح الجديد المخلص، الذى سيهدم العالم الظالم، تمهيدا لظهور المسيح الحقيقى فى آخر الزمان. تبدو الفكرة محاولة للتوفيق بين المسيحية والماركسية، بين ديانة روحية تتحدث عن ملكوت السماء، وديانة مادية تريد ملكوت الأرض. ربما يبدو الأمر كفرض نظرى، أو كحلم يحل بعضا من حيرة ياناروس أو كازنتزاكيس، فالحياة لا تستقيم دون قوة كبرى تحركها وترسم قوانينها، ولكنها لا تستقر أيضا بدون العدل، وقد رأى كازينتزاكيس أن الشيوعية تحقق العدل، وتطعم الفقراء والجوعى، ولكنها تفتقد جانبين هما : الحرية، والإيمان بالسماء وبالمسيح.
يفكر ياناروس بصوت عال، ويطرح شكوكه فى السماء، ولا يستوعب صمت المسيح أو وداعته بينما يموج العالم بشرّ حقيقى، حيث يقتل الأخ شقيقه، وحيث يتزعم ابن ياناروس الشيوعيين أعلى الجبل. ورغم احساس ياناروس أنه لابديل عن السلام، وإلقاء السلاح، إلا أنه يتمنى تسليح المحبة حتى تدافع عن نفسها، وتسليح الأخيار حتى لا يضربون بالسياط. يريد ياناروس مسيحا جديدا يناسب هذا العصر المعقد، ويناسب أيضا تقلبات البشر، وفقا لتقلبات الخير والشر فى داخل أنفسهم. يحلم ياناروس بمسيح لا يستسلم للصلب، رغم احتفاظه بروحه الخيرة، وبمحبته للإنسانية.
فى لحظة تجربة دينية، يختلط فيها الإيمان بالتجديف، يكتشف ياناروس أن السماء لا تتفرج على الشر كنوع من العجز أو عدم القدرة، ولكنها تريد أن نتحمل نحن (كأفراد وكجماعات) مسؤولياتنا فى مقاومته، تريد أن نختبر حريتنا وقدرتنا على الإختيار، وأن نكون جديرين بإنسانيتنا. يذهب ياناورس الى الجبل لكى يتوصل الى اتفاق سلام مع ابنه قائد الشيوعيين. القس العجوز يريد أن يحقن الدماء، وأن يسلّم قرية كاستللوس دون قتال، ولكن بشرط عدم الإنتقام بالقتل أو بالسلب أو بالنهب. يوافق الابن على الصفقة، ولكنه يتراجع عند التنفيذ، وينفذ أحكام الإعدام فى الأعيان، وفى القومندان قائد الجنود فى القرية.
حلم ياناروس بالسلام والحرية والعدالة يتحول الى كابوس. يحاول أن يقنع ابنه بأن يقتله مع الآخرين دون جدوى، يطارده الشعور القاسى بالذنب لأنه قام بتسليم القرية للشوعيين. فى لحظة استفزاز، يصدر الابن قراره بقتل الأب أيضا، حتى لا يوصف القائد الشيوعى باللين، وحتى لايتعرض للحساب مع زملائه. تصيب الرصاصة الأب ياناروس فى جبهته، فيفتح ذراعيه كالمسيح، كما يليق الأمر ببطل تراجيدى كتب على مقبرته قبل أن يموت : ” أيها الموت .. أنا لا أخافك”.
لا أعتقد أن رواية “الإخوة الأعداء” قد أجابت عن الأسئلة بقدر ما زادت من عددها، ربما لأنها لم تتعامل أبدا مع الأبيض والأسود، ولكن مع الإنسان ككائن رمادى تصطرع داخله الأفكار. روعة الرواية من الناحية الفنية فى تقديم منطق كل فريق بمنتهى القوة. كل فريق يعتقد أنه على صواب، ولديه حججه المنظمة، بل إن الشيوعى يموت دفاعا عن مثل أعلى كالمسيحى سواء بسواء، والشجاعة ليست حكرا على فريق، ولكنها موجودة أيضا عند بعض الأثرياء وعند القومندان الشرس. كل طرف يعتقد أن ما يدافع عنه سيجعل المجتمع أفضل، ويعتقد أن الحرب والقتل والدماء والأشلاء قرابين ضرورية للخلاص.
أما قوة الرواية من الناحية الفلسفية والفكرية فهى فى طرح الأسئلة، لا فى طرح الإجابة. صحيح أن ياناروس اكتشف حريته، ودفع ثمنها مثل أى مؤمن بالوجودية، كما اكتشف أن القيم الروحية لابد أن تتزود بالقوة المادية التى تحميها، وصحيح أنه انحاز الى مسيح الفقراء، لا الى مسيح الأغنياء، وانحاز الى قسطنطين الذى يسير على النار مشمرا ساقيه، ولكن كل ذلك لم يحل المشكلة، ذلك أنه افترض أن الآخرين يمتلكون نفس مثاليته. انتهى الإختيار بمأساة، لأن الحل لا يمكن أن يكون فرديا. المشكلة فى أن البشر لم يحسموا معركتهم بشكل جماعى. يبدو أن مسيحا واحدا لايكفى، وأن الحل فى قيامة البشر جميعا، لا فى قيامة المسيح فحسب، وهو أمر شديد الصعوبة والمشقة، ولعله من أحلام الإنسان الأبدية، و لذلك ستكون فكرة قيامة الإنسان والبشرية هى كذلك محور راواية كازنتزاكيس الكبرى “المسيح يصلب من جديد”.
“الإخوة الأعداء” رواية عظيمة لأنها تضع الإنسان فى مواجهة نفسه، وتجعله أسير اختياراته، ولأنها تنتصر لفكرة المثل الأعلى الذى بدونه يرتد الإنسان الى الغابة. كازنتزاكيس وضع بعض النقاط على الحروف: المادة ليست كل شىء، ولكن الروح الإنسانية هى الدافع والمحرك. لا خلاص إلا بالأمرين معا: الحرية والعدالة. لا يمكن لفرد أن ينوب عن البشرية فى أخطائها، كلنا مسؤولون، وكلنا سبب شقاء العالم، او سعادته. المعركة فى داخل كل فرد، والصمت تآمر ضمنى، ونحن نستحق الرحمة بسبب تلك المعاناة، أو كما قال ياناروس ملخصا مأساة وجودنا :” الإنسان بائس جدا لا يحتمل العدالة، وهو عاجز يبدو له الألم مريحا، وأوامر الله ثقيلة. والعدالة شىء حين بالتأكيد، لكن للملائكة. أما الإنسان فهو بائس جدا يحتاج الى الرحمة .
الإنسان هو المشكلة، وهو الحل أيضا، فقط إذا أراد. هذا هو جوهر الرواية، وجوهر معاناة ياناروس التى تبكينا على أنفسنا.