خير هنا يستعذب نزاهته في مجموعته الجديدة ويلعب معها وبنا لعبة أخطر بكثير..، نزاهة تتطلب منه مزيداً من الاخلاص في ملاحقة الكائانات المسكينة التي يرتاد خير عوالمها غير هياب ولا وجل ولا متراخي ولا مرتخي، ليكشف لنا في اقتدار -غير متشف- عن الوجود الذي يتشكل بحضور تلك الكائنات فينكأ العدم. وهو وجود استثنائي –استغفر الله- بل وجود فريد بكثير –جداً- مما تحمله الكلمة من معان.
المطالع لربرتوار النقد المدرسي الأكاديمي وهواة التصنيفات -المكحلصة من أمثالي- سيجدون القاسم المشترك الأهم بين حكايات المجموعة يضعها بين دولابي العبث والوجودية المتلاصقين. وإن تكن أقرب شبر أو بضع شبر إلى دولاب الوجودية. والذي هو تيار فني عمده باقة من فلاسفة وفنانين من القرن العشرين حوت جان بول سارتر والبير كامو وجان جينيه وجان أنوي وسيمون دي بفوار وكوكتو وآخرين. تبنت فهما للكون يتجاوز فعل الخلق كما كرسته الفلسفات المادية والمثالية على السواء، وما جمع بينها، من أسبقية تحدد ماهية الانسان على وجوده المادي لمبررات إيدولوجية، غير أن الوجودية جعلت الوجود أسبق من الماهية وحررت بذلك الانسان من تبعات أي إنتماء قبلي لم يختره هو بنفسه في لحظة الفعل؛ وهنا تحددت ماهية الانسان وقت اختياره، وكانت تبعات هذا الاختيار من مسئولية وقلق وهلع وجزع.
فإن تكن الوجودية هي سؤال الوجود الانساني المعذب فإن مثلبتها العظيمة جمالياً كانت في أن طموحاتها الجمالية لم تلب غالباً حجم التغيير الاعتقادي والفكري الهائل الذي احدثته في الفكر الانساني، ولا يعني هذا أن الأدوات والمشاريع والتقنيات الوجودية قليلة الشأن أو الأهمية في سجال النقد والجمال إطلاقاً، فقط ربما يجدر الاشارة إلى أن الطموح التقني لم يكن يوازي تماماً تماماً الانفجار الفكري المتواثب.
محمد خير في مجموعته يطعي درساً معملياً للتجرع الاقصي التجريبي للذخيرة التقنية الوجودية في مجموعته ليعتصرها وآية ذلك :-
الوجوديون حين يعتقدون أن ماهية الانسان تتحدد بوجوده وأختياره يعني هذا موقفاً صارماً من كل ما لم يختره بنفسه لنفسه، ويتساوى هذا التنصل من تبعات كل العلائق و العلاقات الأسرية والتاريخية والجغرافية والوطنية والأصولية والذاكرة والماضي و القبلي والرجعي و هلما جرا .
في حكاية عيسى: تموت زوجة لرجل في حادثة على الطريق وتتلفظ بأسم عيسى ليكون آخر ما تناديه في الحياة، والزوج لا يعرف أي عيسى ولا يعرف ذات انسانية تحمل هذا الأسم تملك استحقاق أن تكون هي آخر ما تتناجا به شفاه عرفها العمر كله. العلاقة مع زوجته لا تنتهي بزوال احد طرفيها من الحياة، ومن ثم يفشل القانون المادي في أن يحكم وجود العلاقة. الزوج يتجاوز واقع لم يختره، ويظل أسير وجود هش أكثر تماسكاً لديه من كون مادي مهما ترسخ. بين العبث والوجودية تنتهي حياة الزوجة على يد غريب، بين أيدي غرباء ينقلونها ويسعفونها ويشاركونها لحظاتها الأخيرة!
وفي استدعاء؛ وشائج الصلة التي تربط شاعر –خرع- يحيا في مدينة بأصول ريفية تطالبه باستحقاقات هذا الانتساب وترسل لتستدعيه وتستعديه ضد من لا يعرف ومن لا يريد –بالاحرى- أن يعرف، إنه يحاول أن يعمل القوانين التي ابتناها لنفسه فيرواغ مواجهة لم يخترها لكنها اختارته، ولكن الأم تضع سلاح قبيلته بين يديه، وتفر القصة قبل أن تشهد خاتمة غير معنية بملاحقتها ، يكفي القص ان يصيغ سؤالا مثل إلى أي مدى تملك ذات الشاعر الفرار من تبعات الانتساب لقبيلة، مهما طالت ازمنة الفرار، أو استطالت مسافات الغربة، ففي لمحة قد يأتي الاستدعاء. ومن جماليات القص هنا أنه يستطيع تشفية تلك اللحظة، دونما تجريد أو دون تزيد في التفاصيل تخرج ولو قليلاً عن نطاق التشخيص المطلوب بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة.
الكيان الوجودي لا يعترف بأي استحقاقات لسلطة لم يختر ترسيم حدودها ويناضل في الانسلاخ من المعتاد المفروض وكياناً من هذا النوع يتشكل بين يدي القارئ في بينج بونج ليعيد ترسيم حدود العلاقة بين نص يحتال على موقعه كهامش وبين نص يصدر نفسه كمتن، وبدلاً من أن يفرغ مركز الحدث لمتابعة واقعة تاريخية هي انتحار جار بحضور زوجته، يتم استبدال التاريخ بالخطاب، الحدث بحكايات، الواقع بنصوص؛ رجل وطليقته عن هذا الذي حدث، نصوص الهامش تلك هي كل ما نملك فعبرها نتعرف الحكاية، هذا اللامركز يمارس طغيان امتلاك الحقيقة فيكون بينج بونج لتنتهي الحكاية بنا وقد عرفنا لماذا كان من المحتم أن ينفصلا بكل هذا اليقين القار في تسويغات ومبررات وتماسكات في منطق السرد والسارد.
قل مثل ذلك في غفوة التي هي طقس اعتراف كنسي معكوس، وفيها يحكي كل ضحية حكاية خيانته العظمي حين يتقمص عبر الحكي دور الشخص الذي مارس عليه خيانته، رهاب التقمص هو رهاب يشير إليه فرويد يستحيل عبرة الضحية إلى جلاد، الصغار يخافون من العم المرعب فيحتضنونه ويلتصقون به ويتحولون إلى جزء من الرعب ليزول عنهم شعور المرعوب، القصة هنا تبني العكس تبني رهاب المتقمص رهاب الخائن المدلدل، وهي أن تحكي بلسان مزعوم تعيد تأسيس الواقع وتتنصل من التاريخ مهما كان ما حدث.
الخروج من الليل : تجاف المعتاد كالعادة، والمعتاد في التعامل مع رؤية العالم تحت تأثير المخدر أن يتم تبني الفانتازيا؛ الكابوسية منها أو الماجنة، وليسئ ثمة مبرر لهذا التكرار، هنا وبكل حسم مع إنقلاب رؤية العالم المفترضة عبر المخدر يجري الكاتب تجربة بالغة الغرابة في بساطتها إنه يفضل الواقعية كأسلوب للسرد، قيمة مشابهة الواقع- وهو الواقع ذو الطبيعة الخاصة- اقتضى جدية معينة وصرامة في التنصل من الهستيري النموذجي التصوري واللعب على مستويات الإدراك ومتاهات الافاقة التدريجية.
ومن الوجودية أن يخرج الشيء من منظور اعتياد رؤيته إلى راحبة المجهول، يخرج الشيء من سياق التلقى التقليدي فيكون العصفور الذي يمكن أن يستدعى قواميس شعرية وأدبية لا نهائية يستحيل إلى أداة رعب حين يكون ضيفاً خارج سياق الحديقة والفيلم والمعرض والقفص حين يقفز إلى الصالة في الطائر، كذلك يكون صباع المرهم الذي ينبغي تقديمه للقاتل جمعة الذي مازالت حبة محتقنة حمراء تحت ظفره تذكره بفعل القتل، ويتواطى السارد باعطاءه المرهم، وينتهك مع الجميع من خلال الاحداث العادية اليومية أي جلال أو تقدير أو ذكرى لحدث قتل نفس بشرية. أو في الآثر الجانبي للمطر المفاجيء حمى يصاب بها فتى لم يحب فتاة ألا حين وقف ينتظرها تحت المطر، ذلك أن المشهد يليق به أن يشكل العلاقة، وليس السلوك إنعكاساً لحقيقة وجودها. الوجود يعاد تأسيسه عبر الفعل، وهو حين يصاب بالتهابات الحنجرة وعبر خطأ مهني يستحيل صوته الاجش المبحوح لمطرب، مرة أخرى الفعل في حضرة السياق الحب يصنع الواقع؟! هوية تتشكل بمصادفة لكنها الصدفة التي تأتي لمن يستجلبها.
من أكثر الحيل الدرامية حضوراً في الاعيب الوجودية مخاتلة للتاريخ بفكرة ضمور الذاكرة أو فقدانها وما “مسافر بلا متاع” جان أنوي “سوء تفاهم” ، “كاليجولا” كامو من ذلك ببعيد، خير ينهل من موارد رفيقاه القدامى، ويعرضنا للإنسان المقذوف خارج نطاق الماضي في الايام المفقودة، والشخص لا يحن لما لا يعلم بقدر ما يريد ان يعرف، فإن يكن عكس العلم بالشيء الجهل فعكس المعرفة الانكار “فعرفهم وهم له منكرون”، وسؤال المعرفة /الانكار/، الوعي/ الذاكرة، سؤال سيعاد طرحه في 35 مليم حين يعيد الرجل فعل الجدات، رغم البعاد فلا يتعرف الفيلم من المسلسل بالرغم من بعد الزمان والمكان، لكن ما أن يبلغ عتبه تلك اللحظة حتى تكون معارفة ووعيه جزء من كيانه، وليس حاكما لرؤيته للعالم كما كان من قبل حين.
وفي الدبيب بنية تنتهك نفسها ونكون امام كيان ذاتي الاقصاء يلتهم نفسه ويقرقشه، الجمل الاعتراضية تبتلع المتن الافتراضي، والجملة الاعتراضية هي الحضور الأكثر حيوية واقتراباً من الحضور الافتراضي الحي التفاعلي للقاريء، الاعتراضية هي الجملة الأكثر موثوقية هنا، وهي تعيد بنينة القص لتقترب بضراوة من البنيات المشهدية لمواقع التواصل الاجتماعي مثلا، حيث هامش يمكن النقر عليه فيحتل الصدارة كده هه، ويعاد تأسيس فعل التلقي، الاعتراضية ابداً هي المركز البديل، وهي تشكل حضور درامي مثقل بالدراما، والدليل أن كل الملاحظات التي تخص الزملاء والزميلات موضوعية، أو دعها تدعى أنها كذلك، لكن في آخر سطر نكتشف أن هبة هي الزوجة، وهي التي منذ لحظة التعرف عليها، أستسلم السارد للاموضوعية بازعان يليق بمحب، والشطارة أن يؤجل الفاجر –اعني الكاتب لا الشخصية معاذ الله- هذا الكشف لأخر سطر.
وفي الكلام يتعرض طبيب لاشاعة منهجية تفقده عالمه ويتاح له أن يلتقى بمن تم استجاره لاطلاقها، يتحسر مطلق الشائعة على التدني المهني الذي يمزج ما بين الشائعات الاصيلة من الزائفة فينحو بالقارئ إلى اشكاليات خارج نطاق الاشكالية الاصل، النصاب المهني التكنوقراطي المتماسك بعيداً عن سياق الأصل أو الحقيقة أنه السوفسطائي المعاصر القادر بالتماسك الشكلي إعادة مسائلة ثنائيات مثل الحقيقة/الخداع، المنطق/العبث، الواقع/الفن حيث تتساوى كل تلك المنظومات في كياناتها البنيوية. هل هذه كارثة كوارث العصر الحديث؟! حيث لا تملك إلا أن تعجب بدأب وأخلاص ومثابرة مايكل كورليوني وهانيبال هيكتر وغيرهما في استكمالهم لمشاريع وجودهم المستحق؟!
أما أنت يا رمش العين الرقيقة الزهرة التي يبحث عنها أب مكلوم في ابنة ولدت وماتت في ثوان، وسط سياق لحياة ممتدة لصديق يحيا خزعبالاته الاعتقادية في نوبات لا اصل لها الا في وعيه، ليبحث الاب عن زهرة رمش العين، وتجاسر التاجر بمنطقه الافحش من سيستهلك زهرة تموت في يوم! من سيقبل واقعة بمثل تلك الرهافة! هل ستدندن غنوة انغام قائلا ردا على مثل هذا السؤال “الا انا” يا خير؟! القصة تتنازعها حياتين ومنطقين المتناهي في الجدية، والمتناهي في المسخرة، لنكون بحضرة حياة مجانية للهزءة وموت مجاني لرمش العين.