أتذكر حين شربت قهوتي وقلت في نفسي إن تذكر اسم أستاذ الصولفيج في نص البارحة لن يتم إلا عبر كتابة نص آخر يتمحور حول حذائه الواسع و أصابعه التي تعزف في الهواء.
أقف أمام زر الكهرباء وأقنع نفسي بأن الألم الذي في ركبتي لن يفقدني السيطرة على باقي جسمي. كانت الكهرباء هنا قبل الثانية عشرة ليلا. ومن المؤكد أنها ستعود. ستعود وسيكون الألم قد خفت أو زال وسألقي بأصابعي إلى لوحة الحاسوب.
وسأكتب.
سأكتب لحظة خروجي من المقهى، تشغيلي لمسّاحتي زجاج السيارة، إشعالي للضوء كي أبصر جيدا كل ما يتحرك أمامي، رؤيتي لرجل ملقى على جانب الطريق، دراجة هوائية مرمية بعيدا عن سيارة بيكوب.
سأكتب مرتاحا أن ّالنهار والجزء الأول من الليل مرّا بسلام. وعَدا الرجل الملقى غير بعيد عن دراجته التي فقدت شكلها الأصلي جراء الارتطام كان كل شي عاديا إلى أن استيقظت في الليل مباشرة بعد أن ضبطت الألم الحارق يهجم بغتة على ركبتي كما لو أنه جني مقبوض هناك ويود الخروج.
سأكتب أنني حاولت أن أطرد الألم بالسخرية حين قلتُ لي:
وهل أنت أيها الألم أعمى كي تترك ركبة أجمل لتستقر فيها؟
ثم فجأة نهضت وشغّلت الهاتف، نظرت إلى شاشته وتأكدت من أن الوقت يتجاوز الثالثة بقليل وقد مر الآن على نومي خمس ساعات بالتمام والكمال.
هذا الألم جادّ في هجومه وهو حين يطرد النوم من عيني فإنه يذكرني فقط بأن الأيام القادمة ستكون أخطر.
نضبطت الألم اأنأأااااااا لا كهرباء. لا كهرباء بعد منتصف هذه الليلة وبطارية الهاتف ستفرغ هي الأخرى وليس في الغرفة شمع.
أشعل المصباح اليدوي. أقربه من ركبتي. أرفع كُمَّ سروال النوم الرمادي لأحدّق في صابونة الركبة. وتخترق شاشة ذهني اللولبية صورة ركبة ماجدة، أستاذة الإنجليزية وزميلتي التي أهداها الله كل شيء،هكذا يقولون. أهداها الجمال والطول و’التجْبيدة’ والوظيفة ورجلا موسرا يُنعتُ بالسعودي. ماجدة التي كانت تموت على الأولاد وترى أنه من حق رحمها أن يمتلئ بأطفال و بنات يملأون بيتها زقزقة . غير أن الله القاسي القلب رأى أمرا آخر. رأى أن ماجدة كما فينوس كافية بما لديها وهو إن أهداها كل ما تريد فلن يأتي شخص مثلي ليكتب عن ركبتها.
كل زبيبة في مؤخرتها عُودٌ. ولكل آخيل كعبه، يقول زميل لنا لم يكن قد عثر بعد على شريكته.
وكان كعب ماجدة يتمثل في فراغ البيت الكبير الذي فيه استضافتنا، نحن زملائها مدرسي الإنجليزية. ولأول مرة أنتبه إلى تفصيل اعتبرته دوما تافها:
أفضل ما يُهدى لامرأة باقة ورد.
ركبة ماجدة التي رأيتها ووددت أن أضع رأسي عليها تنبعث الآن، والألم يقطع ركبتي من الداخل، من قعر الذاكرة وتحاول أن تمدني بالجلد الذي أحتاجه لأتجاوز الظلمة والألم الشديدين.
أعرف أن الألم المفاجئ آت من تحت الجلد، أن الموت إن أتى على إثر شَبع لا يهم أن يكون هناك ترحّم أم لا كما كان يقول أبي مازحا. وأن السحلية الصغيرة التي تقتسم معي الغرفة لن تترك وجبتها الدسمة من العناكب الصغيرة التي في زوايا السقف لكي تهتم لألمي. هي هنا في الغرفة ساكنة ولا ترى الشر في عيني حين أرمقها مارة تحت السقف، وأنا لا أشغل نفسي بالزاوية التي تستقر فيها. من المؤكد أنها مرتاحة و مطمئنة.
أقبض بكفي اليمنى على الركبة لأتحسس الألم. أضغط. لا ألم في ركبتي ناتجا عن الضغط. الألم الخارج من مفصل الركبة يفتح ثقبا لا مرئيا في الجلد ويطل. يبدو لي كما لو أنه كان هناك منذ الأزل وهو فقط كان ينتظر أن أعبر الطريق من حديقة الطفل الذي كنته إلى غابة الكهل الذي صرته كي يضغط علي لأُخرجه أو أخرج الركبة مني. أتصوره يصرخ قائلا: كفى. قضيت هنا ما يكفي من الوقت.
أضغط على شفتي وأقول لنفسي أنت كبير ولا يليق بك أن تئن أو تتأوه بصوت مرتفع. ثم إن الغرفة توجد في مكان معزول تماما وقد يرق كبد السحلية صديقتك وتبكي. وهي إن بكت وسقطت دموعها على أي شيء حوّلته إلى إزار أبيض.
الثالثة وسبع دقائق وهذه العقارب اللامرئية لساعة الهاتف تجدف في الوحل فيما الألم في ركبتي يشتد. أنهض بصعوبة ، المصباح في يدي و أنا أحاول أن أضع برفق قدم رجلي المؤلمة على بلاط أرضية الغرفة. أنهض و أتذكر قول أمي لأبي و هما في وسط الدار.
أترى كم أنت الآن دْرِويشْ و بْعاقْلك؟
دوما كنت كذلك يا هذه .
و أتذكر أنه في بيتنا لم يكن كهرباء، أن أبي كان أول من قدّم طلب ربط منزلنا بالكهرباء في الحومة و أنني رأيته ذات ليلة يخرج من غرفته البلدية منكس الرأس. كان يستند على كتف أمي. وقد سمعته يقول لها:
الله يرحم يمّاك يا بنت بنصغير. اسمحي لي كثيرا على إتعابك معي.
وكانت أمي تكتفي بالنظر إلى حيث تضع قدميها كي لا تزلاّ ونحن هناك نرقبها بكثير من التقدير.
الثالثة وتسع وخمسون دقيقة، الألم كمطرقة يدق بقوة على ركبتي وأنا الآن جالس على السرير. الظلام أشدّ وهو يسخر من كلاب تنبح خارج الغرفة خائفة .
وأنا وحيد هنا ألعن ركبتي . ألعن بطارية الهاتف والحاسوب والمصباح التي فرغت بينما الكهرباء لم تعد بعدُ.