رسالة من رسام إلى شاعر

روبير فالزير
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

روبير فالزير

تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون

تقديم:

يُعدّ هذا النص، “رسالة من رسام إلى شاعر”، أحد النصوص البارزة في مجموعة  “حياة شاعر ” التي نشرها روبير فالزير في عام 1917. بعد عودته من ألمانيا إلى مسقط رأسه بييل في سويسرا. جمع فالزير في هذا العمل بين تجربة إفلاس الوجود وتأليه الإبداع الفني، ليقدم صورة نابضة بالحياة للشاعر في تناقضاته.

لا يمثل هذا النص مجرد تبادل بين فنانين، بل هو نافذة فريدة على عالم فالزير الفني، الذي يرى في الفن، سواء كان بالكلمات أو الألوان، وسيلة لجعل اللا مرئي مرئيًا وتفسير ما لا يفسر. وعلى الرغم من شهرته ككاتب، فإن فالزير، كما يظهر في هذه الرسالة، كان يعتبر الرسم امتدادًا طبيعيًا للكتابة، واستخدمه كأداة للتأمل الذاتي وإضاءة عتمات الدواخل.

في هذه الرسالة، يتحدث فالزير بلسان رسام، فيصف رحلته إلى جبال الألب، ويشارك تأملاته حول العلاقة بين الفنان والطبيعة. ولكنه لا يكتفي بوصف المناظر الخلابة، بل يعبر عن الصراع الداخلي الذي يواجهه الرسام أثناء محاولته نقل هذا الجمال إلى لوحته. يكشف النص عن رؤيته بأن الفن ليس مجرد محاكاة للواقع واستنساخا له، بل هو معركة شاقة وحميمية مع الطبيعة.

هذه الرسالة تجسد إيمان فالزير بأن الإبداع الحقيقي يتجاوز الموهبة التقنية ويتطلب صبرًا وشجاعة ومثابرة. إنها ليست مجرد رسالة بين صديقين، بل هي شهادة على أن الفن، سواء كان بالكلمات أو الألوان، هو رحلة روحية مستمرة لاكتشاف الذات والعالم.

***

رسالة من رسام إلى شاعر

عزيزي الشاعر،

لعلك تعلم أنني وجدتُ نفسي، يوم الأحد المنصرم، في شقةٍ كان صاحبُها قد راودته – ويا للأسف – تلك الفكرة الفجة والخرقاء: أن يغيب عنها. مكثتُ في غرفتك ساعة كاملة، قلّبتُ خلالها بعض صفحات الكتاب الذي كان ملقى على الطاولة، ثم، إذ تعذر الحديث مع صاحب البيت، اكتفيتُ بالحديث إلى الجدران الفارغة. يا له من حديث ساحر! بعد أن انتظرتُ عودتك عبثًا، غادرتُ المكان، لكن ليس قبل أن أترك لك مائة رسالة طيبة بل وأكثر. رافقني أسف لا ينتهي لتعذر رؤيتك، فوالله، كنا سنحظى، حقًا، بالكثير من الأمور التي كان بوسعنا مناقشتها وحكيها ومشاركتها. كم كنت أتشوق سلفا للذهاب معك لسرقة الإجاص، وهي مغامرة تفقد سحرها عندما تُقدم عليها وحيدًا، بينما مع رفيق، تصبح متعة لا مثيل لها.

لكن أين كنتَ مختبئا بحق السماء؟ كنتُ سأقص عليك بالتفصيل الممل نزهتي الجريئة والمتهورة التي قمت بها الأسبوع الماضي إلى جبال الألب، والتي قادتني إلى ممرات جبلية شاهقة تعلو حتى تحبس الأنفاس، تمامًا كما فعل “سوفوروف” في زمانه. تذكرته حينها، بينما كنت محاطًا بمسافات شاسعة من الثلج والجليد، وكدت أموت جوعًا وإرهاقًا. هذا ما كنتَ ستعرفه شفهيًا وبشكل مباشر، لو أنك تفضلت بالبقاء بهدوء في منزلك؛ أما الآن، فعليك أن تكتفي بملاحظة مكتوبة بسيطة، وهذا أحيانًا لا يفي بالغرض تمامًا. كيف حالك؟ إذا كتبتَ بعض القصائد الجديدة، فاعلمْ أن هناك من ينتظرها منك بفارغ الصبر ليقرأها ويستمتع بمحتواها. أنا الآن، يا عزيزي، أقيم في بلدة صغيرة وعتيقة بقدر ما هي ساحرة، بأسوارها القديمة وأبراجها التي لا تزال شبه سليمة، تقع في واحدة من أجمل وأبهى البقع التي قد يتصورها خيالٌ سليم وطليق. إن الديار المحيطة غاية في الجمال والخضرة، فاتنة وجذابة، رقيقة عذبة في نعومتها المخملية، حتى ليخال المرء أنها تليق بمقام أميرة. أؤكد لك أنني أسير هذا السحر، وأتمنى لو أمكنني أن أرسم لك بعبارات وكلمات تكاد تكون وافية هذا الانتشاء الفطري العميق، وتلك الفرحة التي لا تقل صدقًا عن عظمتها. أما بخصوص ما قادني إلى هنا، فاعلم أنني مكلف برسم لوحة في إحدى القاعات، وهي مهمة آمل أن أنجزها بخفة وبراعة، بينما أتخيل بسعادة أن أَجْر العمل سيكون أوفر مما توحي به سهولة التنفيذ. أقيم في إحدى الضواحي، في غرفة لطيفة ذات ديكورات خشبية داكنة، ومن نافذتها إطلالة على منظر ساحر جعلني لا أستطع مقاومة رسمه. تعال لزيارتي قريبًا، سيرًا على الأقدام، وسترى كيف أعيش. يمكنك الاعتماد على استقبال أكثر حفاوة، وجهّز نفسك لوفرة بل لفيض من الجمال الطبيعي، فالمناظر الخلابة هنا لا تُعدّ ولا تُحصى

إلى جانب مهمتي الرئيسية، أرسم من وحي الطبيعة، تمامًا كما تفعل أنت أو كما يمكنك أن تفعل في الشعر. أخرج إلى الهواء الطلق، أتملى بالنظر إلى مشهد الطبيعة الرباني، أحمل معي إلى المنزل انطباعًا عميقًا، أو مشروع لوحة أو رسما تخطيطيا، لأتمكن من إتمام تفكيري في غرفتي. وهكذا، فإن لوحتي ليست إلى حدٍّ ما لوحة “عن الطبيعة”، بقدر ما هي لوحة “تعلّمتُ منها الطبيعة”. يا أخي العزيز، إن الطبيعة عظيمة بطريقة غامضة ولا تنضب، لدرجة أن المرء في اللحظة التي يفرح بها، يشرع في المعاناة منها أيضًا. لكنني أدرك أنه لا مفر من التسليم بفكرة أن لا سعادة في هذا العالم تخلو تمامًا من ذرات صغيرة من الألم. باختصار، أريد أن أقول لك ولنفسي أيضًا، وبكل بساطة، أنني أخوض معركة شاقة. تتآلف الألحان مع الألوان التي يراها المرء في كل الطبيعة المحيطة. وتأتي أفكارنا لتنضاف إليها أيضا. علاوة على ذلك، ضع في حسبانك أن كل شيء يتغير باستمرار، في كل ساعة من النهار، صباحًا، ظهرًا ومساءً، وأن الهواء بذاته شيء فريد، وغريب وسائِل، يحيط بكل شيء، ويكسو أيّ جسم بعدد لا يحصى من المظاهر المحيرة، ويحوّل الأشكال كما لو أنه يمارس عليها سحره.

تصوّر الآن الفرشاة والمَلْوَنة، وذلك البطء الشديد في الأداة والجهد الحِرَفيّ المضنى، الذي يُفترض بالرسام الاندفاعي المتلهف أن يقتنص به الجماليات الفريدة والأطياف الشاردة، المتناثرة هنا وهناك والتي غالبًا ما تمر كلمح البصر، ليُحكِم حبسها في شيء صلب راسخ، وليُعيد خلقها في صور نابضة بالحياة، باهرة، تتفجر قوةً من أعمق أعماق روح اللوحة: حينها فقط ستدرك هذه المعركة، وحينها فقط ستفهم لماذا يرتعش القلب! آه، لو كان يكفينا الحب الذي نشعر به، ولو كانت تكفينا الفرحة الراضية والآسرة، والتطلّع البسيط، ولو كان يكفي أن نرغب بصدق وحرارة، ولو كانت مجرد تأملات نقية ومبهجة تكفينا!

دعني أقبّلك، واعتنِ بنفسك جيدًا. هناك أمر مؤكد: كلانا، أنت الشاعر وأنا الرسام، نحتاج إلى الصبر والشجاعة والقوة والمثابرة. عشرون مرة، ثلاثون مرة أقول لك: اعتنِ بنفسك، واحذر وجع الأسنان، وحاول أن تبقى — تقريبًا — قادرًا على دفع فواتيرك، واكتب لي رسالة طويلة جدًا، لدرجة أن أحتاج إلى ليلة كاملة لقراءتها.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم