رسالة من الصعيد.. بعيدا عن السماء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شوقى عبد الحميد يحيى

        لن أمل من التأكيد على ان الإبداع رسالة، يستقى مبناها –المبدع-من مجتمعه، ليصوغها بصورة إبداعية، ويرسلها إليه هو-المجتمع-. وقد أعاد لى ذلك التوكيد قراءة العمل الإبداعى للروائية والقاصة جمالات عبد اللطيف، حين قدمت روايتها الأحدث “بعيدا عن السماء”[i] التي أشعرتنى بالحياة، وتقلباتها، بين الشتاء والصيف، بين الربيع والخريف، فتأرجحت مشاعرى مع صفحاتها، وأشعرتنى بأن خامة هذه المادة، مستخلصة من طين أرض الصعيد، بخصوصيته، وطباعه، وعاداته، إلا انها موجهة إلى عموم أرض مصر، التي تتأرجح بين السلف، والخلف، بين ما رآه السلف قدس لا يمس، وما يراه الخلف، كان يناسب الأمس لكنه لا يناسب اليوم، ومصر تقف مكتوفة اليدين، فكتبت جمالات هذه الرواية/ الرسالة، علها توقظ النيام، أو تخاطب الضمائر للتفكير “بعيدا عن السماء”، مؤكدة أن السماء، بكل ما أرسلته من رسل يحملون رسالتها، التي تحمل في جوهرها، بؤرة الروح الإنسانية، وما يجمع البشر، ليكون وحدة واحدة، اسمها .. الحب.

حيث تبدأ الرواية في نوفمبر 2002، حين كانت عمليات الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين قد تكررت، مثلما كانت أحداث الخانكة في العام 1972، واحداث الزاوية الحمراء في 1981، وكانت فتنة قرية الكشح في محافظة سوهاج في العام 1999، والتي اقتربت من الكاتبة التي تعيش في سوهاج، لتثير مشاعرها، وتشرع في استخدام تلك الواقعة، لنسج روايتها بصورة محكمة لتخرج للنور في العام 2002.     

فتبدأ الكاتبة رسالتها/ روايتها، بانها لا تكتب رواية، ولكن أوراقا جاءتها، من مجهول، وعبر مجهول، وطُلب منها نشرها للأجيال {أرسل لى مظروف يحتوى على كمية كبيرة من الأوراق.. كُتب على ظهره: يصل إلى الأستاذة /جمالات عبد اللطيف (يسلم باليد لأهمية وسرية وخطورة ما تضمنته تلك الأوراق)}. وتلك الأوراق، تحمل قصة “مريم” وحكايتها مع “يوسف”. ف”مريم” مسلمة مات زوج أختها، وكما تقضى العادات، عليها أن تتزوج من زوج اختها، لتربى بناتها. لكنها ترفض تلك العادة. خاصة أن هناك حبا مستترا يكمن في أعماقها ليوسف، الذى ترقد أمه في المستشفى، وتفاجأ “مريم” بشى عجيب لم تألفه، فيوسف يقرأ من الإنجيل، ثم يتلو آيات الذكر الحكيم، ولتعلم بعد ذلك أن يوسف ولد لأب مسلم وأم مسيحية، وعاش بين الحالتين، دون أن يرضى عنه أحدهما { لكن لا المسجد شفع لى عند أهل أبى، ولا الكنيسة شفعت لى عند أهل امى، كلاهما كان ينظر لى ويتعامل  معى على أنى هجين.. ابن حرام} ص49.

 و تتعرض أم يوسف لحالة تستدعى نقل دم بصورة سريعة، وفى غياب يوسف، وبدافع إنسانى، تدفع مريم بذراعها ليخرج الدم منها إلى أم يوسف. فتحبها أم يوسف. وأمام إصرار أم مريم على زواجها من زوج أختها المرحومة، لا تجد من وسيلة إلا الهروب مع “يوسف للزواج” وتتعجب هي نفسها مما سيحدث {كان القلب يدق بعنف، قد انفجرت كل ينابيعه دفعة واحدة، ينابيع الفرح والخوف، الجمال والقبح، الأمل والقلق، الحزن والمرح، الأنانية والشغف. تمازجت جميعها سأهرب من البيت ليلا، وسوف أتزوج غدا من هذا الرجل الرجلين في ليلة واحدة. سأتزوج من يوسف محمد السيد هريدى وسيعقد القران بحضور عمه مصطفى السيد هريدى في مقام الحسين وذلك بعد صلاة العصر وكلانا يأمل .. اقصد أنا ويوسف أن يوافق الشيخ الشعراوي على مباركته لعقد زواجنا. وفى مساء اليوم ذاته سأتزوج من يوسف عماد زخارى وسيتم الزفاف في كنيسة العذراء بشبرا ويباركنا خاله القس عازر راعى الكنيسة. سأتزوج من هذان الرجلين. فكلاهما يحبنى وأحبهما معا} ص6. فتهرب “مريم لتصل إلى بيت “يوسف” لتجد المعاملة قد تغيرت من والدته-المسيحية-وخاله، بينما يخرج بها “يوسف” ليقدم إليها شبكة، وعقد أرض يملكها في “طن ضار” الواقعة ضمن مساحة سيوة على الحدود الليبية. لتصبح شركا بينهما. وفي الوقت ذاته يكون أحد أفراد عائلته قد قدم  شكوى بأن المسيحى “يوسف عماد زخارى” سيتزوج مسلمة باسم “مريم” كى يتمكن من الهرب إلى أمريكا، فيتم القبض عليها بواسطة أمن الدولة، وتلقى هناك من المعاملة ما يسيئها، ولتجد عمها يُوقِع على إقرار(شكلى) بألا يتعرض لها أحد، أو يقتلها. ومن معاملة عمها الذى اصطحبها، تعلم أن مصيرها القتل، فتهرب منه في القطار. لتواجه العديد من الصعاب حين اضطرت للعيش بمقالب القمامة، والأكل منها، ومرارة الإحساس بأنها كانت فريسة الوقوع في حيلة استخدمها “يوسف” للهروب إلى أمريكا. بينما عمها يصدر أوامره بان زواج “مريم” من زوج أختها سيكون في الغد/ وطلب من زوجته أن تقوم بدور “مريم” ويتم حفل الحنة، وقبيل الفجر يعلو الصراخ، ويُنشر بأن مريم اشتعلت فيها النار في المساء وماتت، ويبلغ الخبر بموتها إلى يوسف، وهى لاتعلم عن ذلك شيئا.

التقنية الروائية  

        اعتمدت الكاتبة على تقنية الاتجاه التصاعدى للحدث ، مصحوبا بلغة بسيطة تناسب فعل الحكى، دون أن يكون هناك تلاعبا في الزمن أو الحدث، دون أن تترك للقارئ ما يُعمل فيه فكره. مثلما جاءت بعض العبارات مباشرة، لا تحتاج لتأويل، مثل {ولماذا يُقتل يوسف، او اُقتل أنا ما ذنبنا؟ ما نحن إلا تكملة لقصة بدأت فصولها قبل ان نوجد في هذه الحياة. موروث حملناه معا. جئنا إلى الدنيا فألفيناه. قُدر علي من سبقنا، فأورثوه لنا}ص62.

{أيمكن أن أكون مخطئة؟ أعطيتنى يا رب حق الاختيار فسلبونى إياه فهل أنا مخطئة؟!} ص103. حيث أن مثل هذه الاستنتاجات كان للقارئ أن يصل إليها دون تصريح. فكأنها تسعى فقط لوصول الرسالة التي أرادتها، فكان تركيزها من البداية على تلك التي بدأت بها الرواية، أن تكون الأوراق المرسلة، مُجّهلة، من الراسلة إلى الكاتبة، وكأن الرسالة قادمة من المجتمع ككل، ولتنتهى أيضا ببلاغ من مجهول-حتى وإن ذكر اسمه، تحقيقا للواقعية- تفيد أولا بأن طلقا ناريا على شاب وفتاة يزرعون الزيتون، وكأن ال(شاب والفتاة) قد تحولا إلى رمز يمثل الديانتين معا. ثم بلاغ آخر يفيد بأن الشابين “يوسف ومريم ” قد أصيبا، وتم نقلهما إلى المستشفى. ولم تفصح الرواية عما إذا كانا قد ماتا أو أنهما على قيد الحياة. وكأن الكاتبة تعلن عن استمرار الوضع لما هو عليه، وأن حلا لم يبدو في الأفق. إلا ان لقاءهما على أرض يملكانها، يعنى أن الأرض لهما معا، وأن الحادثة لم تزل مستمرة، فالفكر لم يتغير، والبلد لم يتغير فيها شيء:

 {قال: سنتزوج.   قلت: بعيدا عن مقام الحسين؟

قال: وخارج جدران الكنيسة. سنتزوج فحسب.

سنتزوج قبل ان أسجن بتهمة التزوير في أوراق رسمية-لكونى أحمل بطاقتى هوية بديانتين! ثم أردف قائلا: سأطالب بسجن هذا البلد معى فهو يحمل في قلبه وفى أوراقه الرسمية. ديانتين! تماما مثلى} ص162.

ويعلو الحب فوق الأحداث، وتتناسى “مريم” كل ما ذاقته من ألوان التشرد والشك والتوهان، فالمهم أنها التقت بحبيبها، الذى لم يخنها. ففى فرح زمزم ابنة الحاج على، وحصول يوسف على موافقتها بالزواج، وقبول الحاج “على” وكيلا عنها، تسحبها زمزم للرقص {أخذتنني زمزم من يدى، ودخلت بى تلك الدائرة لأشاركها الرقص. فرقصت. بعيدا عن تراب قريتى ورحبة عائلتى رقصت. بعيدا عن حضن أمى وجدتى رقصت، بعيدا عن فرحة إخوتى رقصت، بعيدا عن عائلتى وجيرانى وأهل بلدتى، انا رقصت} ص166.

ومثلما كان تعبير الكاتبة عن القلق وترك الأهل والأحبة قبل الهروب، بحريتها في الاختيار، ومواجهة التقاليد المفروضة على الجميع كحد السيف، بما فيه من روح الرغبة والقلق، الأماني والخوف، كان استخراج روح الأنثى عندما تحب، وإن كان القلق لا يفارقها. فبعد أن وصلها خطاب يوسف، الذى يسرد فيه تاريخ حياته وتنازعه بين الجبهتين، وكانت الصديقات في العمل يرسلن النظرات اللائمة إليها، فاضت مشاعر مريم: {لو جربتن. لو جربتن لعذرتمونى. وما لمتننى!  يغمرنى شعور بأننى أسير فوق السحاب، وبأني الأجمل بين كل النساء. دسست الخطاب في صدرى. قلب حبيبى وآهاته، وكل مشاعره هنا. اخبئهم في صدرى} ص54.

كما أن تصورا تشكيليا نستطيع أن نلمسه في رسم الرواية، التي ازدحمت في البداية، بالعديد من الشخوص، من الجانبين، فنتعرف في عائلة “مريم” على أمها وأخويها التوأم سلامة وعامر، والأخ المسافر إلى السعودية، والخال والعم. وكذلك في عائلة “يوسف” نتعرف على الأم والخال، والعم. وكأننا في زحمة من البشر، ثم يقل البشر من حولهما في سيوة، أو في قرية طن ضار فلا نجد إلا القليل من الغرباء، مثل الحاج على وابنته زمزم، والأخ سنوسى، ثم لا نجد في النهاية غير “يوسف” و”مريم”. وكأننا أما صورة جماعية، ثم ركز المصور كاميرته (زوم) على أثنين فقط من بين الجموع، وكأنه يخصهما بلقطة مميزة، فكأننا اما مصور محترف، يلعب بالكاميرا ليقدم لنا توحد الإثنين، وانفصالهما عن المجموع. ولم تكن الفنون التشكيلية وحدها الموجودة في الرواية، وإنما نجد الشعر والغناء، والعدودة عند الأحزان، والأهازيج عند الفرح، وكان الكاتبة تجمع فنون القول، المرتبطة بالأماكن الت تتحدث عنها، فتضيف إلى خبرة القارئ، المعلومة عن الجغرافية الاجتماعية.

كما لم تقتصر الكاتبة على ذكر تلك التقاليد المتحكمة، والحاكمة، كزواج الأخت من زوج أختها حين موتها، أو اعتبار البنت التي تخرج عن التقاليد، نشاز والقتل مصيرها. إلا انها تعرج على ذكر بعض الأمور التي تؤخذ على الدولة التي أهملت الأطراف، مثل ما رأته الساردة في قطار الصعيد عند ركوبه مع عمها {أرض القطار غير نظيفة بالمرة. تمتلئ بقشر البيض واللب والفول السودانى، وأغلفة الحلوى واللبان} وقال أحد الركاب{ قطر الغلابة زحمة دايما. أصل الغلابة كتير} ص101. ومثل ما وجدته الساردة في تلك القرية الحدودية “طن ضار”، من عجزها عن فهم اللغة التي يتحدثون بها، وكأنهم لايتبعون تلك الدولة، وكأن الكاتب تنعى عدم وجود مدارس للتعليم في تلك المناطق. وكذلك الإشارة إلى محاولة أحد اللواءات اغتصاب الأرض على أساس انها مجاورة لأرض يمتلكها هناك.

كما تأتى المبالغة من ضابط أمن الدولة الذى يحقق معها بعد أن تم القبض عليها {أنتم وأمثالكم تريدون تمزيق هذا البلد، تمزيق خيمته لنبيت جميعا في العراء. تتآمرون على أمنه ووحدة صفه. لا تريدون لهذا البلد أن ينعم بالهدوء والسلام. يا أولاد الكلب. يا حثالة}. لتقول مريم في نفسها {زواجنا يعكر الصفو؟ حبنا يمزق الصف؟ أي وطن هذا الذى تهزمه المحبة وتمزقه؟ أي وطن هذا الذى يُسجن أبناؤه بتهمة الشروع في الزواج؟}. ص98. فضلا عن تلك المعاملة غير الإنسانية التي وجدتها في سجن القسم {لليوم الثالث احتجز داخل هذا الجحر النتن، البارد، البائس …. كان يبارزنى بكلام حاد، وكنت أبارزه بالسكوت، وأغض السمع عن سعير اسئلته، وشتائمه البذيئة} ص98.

إلا ان أهم ما يمكن عدم إفاله، هو إمساك الكاتبة بقارئها منذ البداية، يتقلب مع ظروفها الاقتصادية والمناخية، دون أن يعلم وقع النهاية التي أبت أن تجعلها نهاية تقليدية، حيث يتزوج الحبيب من الحبيبة، وإنما فتحت النهاية ليتساءل القارئ، وتتساءل الدولة، هل الحب والأخوة شيء بعيد عن السماء، أم انه من صميم دعوة السماء؟.    

………………………

[i] – جمالات عبد اللطيف-  شعلة الإبداع للطباعة والنشر- 2020.

مقالات من نفس القسم