رفعتُ عينيّ إلى سماءٍ زرقتها شاسعة وشمسها فادحة. ثم تأملتُ ما حولي في سأم؛ يتريَّض البعض في أجواءٍ مناخية يعتبرونها لطيفة، هناك قطة تتشمَّمُ الأرض بحثًا عن شيءٍ تأكله، و”جيرمان شبرد” بالغ البهاء يتمشى مع صاحبه. هبطتُ بعينيّ مرة أخرى لأرى امرأةً تسير على الكُتل الجافة بالأسفل وقد احتضنتْ شيئًا ما. شدَّت هيئة المرأة وما فعلته انتباهي تمامًا وأخرجتني من الوتيرة الرتيبة للمشهد المحيط.
كانتْ تسير في خطواتٍ وئيدة على البحر، ترتدي حذاء كونڤرس ملونًا وعباءة سوداء فضفاضة حول جسدها النحيل، تغطي رأسها بوشاح أسود قصير يُظهر معالم كتفيها وتخفي وجهها بنقاب معقودٍ خلف رأسها، وتحتضن كيسًا بلاستيكيًّا كبيرًا بداخله شيءٌ مسطح. مع تقدُّمها، تركتْ الكيس ينزلق ليظهر ما بداخله، الذي بدا من الانطباع الأوَّل عن هيئتها ومن الزخرفة الظاهرة على غلافه أنه مصحفٌ كبير. وقفتْ تنظرُ إلى البحر وتحتضن ذلك الشيء بشدة، ثم أبعدتْه عن صدرها على امتداد ذراعيها وطوَّحتْه في البحر بحركة رام قرصٍ متمرِّسٍ في الألعاب الأوليمبية. عقدتْ ذراعيها ووقفت دقائق طويلة تراقب الشيء الذي ظل طافيًا وقد أخذ الموج يتلاعب به، كتلميذٍ هزيل البنية ألقاه حظه العاثر بين طغمةٍ من الأولاد المتنمِّرين، يتبادلون تلقُّفه وضربه.
أظهر تقلبه بين الأمواج معالمه، ليتضح أنه صندوقٌ هزيل من الورق المقوى، أحد تلك الصناديق التي تُباع فيها الأوشحة النسائية في محلاتٍ مثل “تاي شوب”، وقد تم تغليف قاعدته وغطائه بورقٍ مزخرفٍ نحاسي اللون، وإحكام ضمهما بشريطٍ لاصق عريض من المنتصف، ولكنهما بدأتا تنفصلان قليلاً من الأعلى والأسفل.
ولأن الموج لم يكن حازمًا في شدته، كما لم يكن البحر جادًّا في غضبته، عادتْ إليها خبيئتها لترسو على إحدى الكتل المسودَّة بفعل الطحالب، وارتمتْ كغريقٍ أُنقذ في اللحظة الأخيرة.
وقفتْ الفتاة/المرأة تتطلع برهةً إلى الكائن الذي يأبى عليها أن تقتله غرقًا، ثم شمَّرتْ عباءتها، وهبطتْ الكُتل المائلة بحركاتٍ رشيقة بدت عجيبة مع ردائها، وخاضت بحذائها القماشي الزاهي في الماء حتى وصلت إلى ضحيتها، وطوَّحتها بلا شفقة في البحر من مسافةٍ أقرب. وظلتْ واقفةً حتى اطمأنتْ أن قوة السحب ستأخذها بعيدًا، وإلى الأعماق.
كنتُ أُنقِّل بصري بشكلٍ محموم بينها وبين الصندوق الذي ينازع الغرق، أتعجَّل ابتعادها وأخشى ابتعاده، في نيَّتي إذا أعاده البحر أن أهبط لإنقاذه، ليس عن فضول، ولكن عن تعاطفٍ مع شيءٍ عزيزٍ كهذا، أن يضيع في البحر، كفردة حذاء بالية.
كانت نيتي تلك لا أخلاقية بالمرة، ولكن حضر إلى ذهني بقوة صوت نجاة تقول في يأس وتسليم: “ونطعمُ النارَأحلى ما كتبناه”، عن حدسٍ قوي بأن هذا الصندوق لا يتسع إلا للأوراق. أما كانت النار أكثر أمانًا وأعظم تقديسًا لكنزٍ كهذا من بطون السمك؟
غاب الصندوق تمامًا عن ناظري رغم تحديقي المستمر في الماء. وانصرفت الفتاة في خطواتٍ متمهلة كالتي جاءت بها عاقدةً ذراعيها أمام صدرها بعد أن اطمأنتْ إلى اختفائه، ولكنها هذه المرة كانت تحتضن الفراغ. رفعتُ عينيّ المجهدتين إلى سماءٍ شديدة الصفاء إلى درجة الاستفزاز، كنتُ ممتنَّةً أن أوراقي لن تحتاج – إذا استلزم الأمر- إلى أن أقوم بمغامرةٍ على الكتل الخرسانية المبتلة، ولا إلى افتعال حريق، فضغطةٌ واحدة على مفتاحيْ shift + delete كافيةٌ تمامًا.