إيناس نور الدين
“صباح الخير أيها العالم.”
لتكن شرائح البرتقال التي ابتدأ بها حديثنا دليل الشمس إلى قلوبنا إذا ضلت طريق النور.
كان حسيسا مميزا، تضايقه أساليب معينة في الحديث فيحددها بداية بوضوح، وإذا قرّب أحدا أفضى إليه باسمه المحبب ألا وهو البومبو.
وتمر الأيام والسنين، ويدرك المقرب من البومبو أن الاسم نفسه معنى (١) وقيمة إذا اقترب منه وتماهى معه انضاف إليه، فعاد هو كذلك بومبو، ودواليك.
لست أكتب لأحكي هذه المرة، إنما أكتب علِّي أخفف ما يعتلج قلبي من الحزن، عليه، علينا، على فوات الجمال، إنما لله حكمة لسنا ندركها، ربما نستطيع البوح لنتعلم شيئا ونتأمل أشياء.
مقامي ليس مقربا بما فيه الكفاية منه لأحيط بكل شيء كنبذة عن سيرته وسير حياته، إنما اقتربت القرب الكافي ليمسني الشرار، شرار النار أو قبس الأنوار، ليدخل في النماذج الأولى عن تعريف الإنسان.
كانت مدة تعارفنا قصيرة ولقاءنا مرة أو مرتين، واحدة مرتبة وربما أخرى غير مرتبة، لكن الأرواح لا تحتاج أكثر من هذا لتتآلف وتتآخى وتتحد للأبد، هذا إيماني بالإنسان، لكن البومبو لم يفعل هذا فقط بل رسم على روحي اسمه، بطلا ونجما يستأنس به قلبي في الظلام.
لم يكن من السهل أن يكون الأبطال الذين تأثرت بهم حينما نضجت عباقرة وعلماء وفلاسفة والاقتراب منهم مستحيل أو ضرب من الجنون، وأنا الطفلة الغِرة التي بقيت ألعب التِنِس في حديقة عمارتي لغاية سن 15، كيف لي أن أقارب كانط أو الرافعي أو ابن القيم، أو الشافعي، لكن بومبو كان مقاربا لي في السن يعيش في نفس الحِقبة التاريخية الخَرِبة التي ابتلينا بها، سهلا ليِّنا لا يتكلف شيئا، ربما يساير التيار إلى أن يعاكسه.
الجميل في البومبو روحه المقاومة، وجهه الباسم، بريق عينيه ولُطفهما في براءة، قد يحكي مأساة وهو يبتسم، ويتعجب مع المستمع كيف واجهها بمحبة وعناق إلى أن ذابت وعادت ندبة في قلبه تزينه وتشد أزره، حكى لي تجربته العصامية (2) في تعليم نفسه ومواجهته الصعاب التي بدأت مبكرا في حياته وتركه الدراسة وملاحقته لأحلامه في الاكتشاف وشغفه بالمعرفة والاطلاع غير الطبيعيين ومن هنا بدأت البطولة، فليس البطولة في تخطي الصعاب وكفى بل فيما بعد التخطي، التصالح مع النفس والناس والواقع، وجعلها محطات بناء لصرح الشخصية.
فرغم اليتم والمشاق والظلم الذي واجه بومبو غير أنه لم يستسلم، صبر واجتهد وواجه بإقدام واعتنى بنفسه وعلَّمها، وأخرج لنا أجود ما في الإنسان، المحبة الخالصة للجميع وطاقة الفرح والتفاؤل والإصرار والتفاني في تحقيق الأفضل على الدوام.
والسعي وراء العلم والمعرفة والاستمرار على قدم وساق في سبيل تحقيق الأهداف والأحلام التي ربما ظنناها مستحيلة.
ليس من السهل أن تحب العلم والثقافة وتسكن منطقة نائية بعيدة عن المدينة نويبع مثلا، وتُكَوِّن مكتبتك الخاصة في كوخ تبنيه بنفسك بما يتلقفه أصدقاؤك من قمامات الأجانب قبل حرقه من مدن أخرى قريبة، وتشاء الظروف وتعمل في أعمال السباكة فتحيطك بتفاصيل غير مريحة لكنك تقاوم وتعلو بكتبك عن كل ذلك.
وتنجح في إتقان لغتك وتحب الكتابة بحكم القراءة، فتكتب وتسرد وتشارك بروايتك(3) وتنجح بجائزتين، وتتعلم لغة أجنبية من الراديو وتعمل بها مترجما وتشيد الناس بجودة ترجماتك، ثم تترك مجال الكتابة لأنك بلغت بُغيتك وكانت الفلسفة فتخوض غمار الوصول، ولن يكون متاحا بشهادة الإعدادية، فتحاول التقديم في التعليم المفتوح وتنتظر لأن نظام الدولة في التعليم بيروقراطي عقيم، ثم تزداد العقبات ويلغى تماما فتقرر تحصيل الشهادة الثانوية لتستطيع التقديم في كلية الآداب قسم الفلسفة، ثم تلتحق وتتعلم وتمتحن وتنجح وتدخل الكلية وتلقى معشوقتك الفلسفة يوميا في محاضرات الدكاترة والأساتذة وفي بحوثتك الموجهة والمتابعة وبعد بلوغك القمة بتخرجك ترتفع بعيدا في مقامك العالي فوق في السماء. وتنسحب من كل شيء كأن لم يحدث شيء، بل والله حدث الكثير الكثير.
كان التحاقك بالكلية وطلتك التي تخرج بها علينا من خلال بوست على الفايس بصورتك مبتسما من حديقة الكلية صباحا انتصارا لي ولكثير من أصحابنا الحالمين، الشغوفين بالمعرفة، المُصرين على أهدافهم مهما لاقوا من عقبات، كان فخرا وزهوا وكأننا هزمنا العدو ورفعنا الشعلة.. كنت أفرح مثل طفل صغير تائه رأى علامة من أهله، دليلا على الطريق، نظرة صدق وسط الزيف، خَبَرا ثِقة عن وجود نور في آخر المضيق وكم كان مؤنسا هذا الخبر.
لست أدرك قدر وفاتك لكني أسّلم الأمر لله وأحمده على نعمة وجودك بيننا ربما التي لم نُقدرها حق قدرها وأحمده على ما أعطاك من نِعَم، فما أعطاك من نعم فضلها ليس شخصيّا فحسب بل غَيْريّا، وإن كنت أذكر وقع خبر وفاتك عليّ، كان في بداية صحوي وبدأت العمل، رأيت خبر نعيك انفجرت بالبكاء والذهول لأني رأيت انطفاء الشعلة وسقوط الراية أرضا ولا أستطيع التحرك لأفعل شيئا سوى هذا الألم بداخلي عن فقدك، عن فوات الجمال، عن غياب بطلي وهو في أوج انتصاره، عن التفكير في الشعلة، عن من سيقول صباح الخير أيها العالم؟ بتلك الطاقة التي تنقلنا لأبعد من خيالنا ثقة بك، ثقة بجمال اليوم عن الأمس، وضرورة اقتناص الفريسة وسط الألغام ثقة بمدد ولطف الله تعالى.
لن أستطيع الإحاطة بكل لفتاته المهمة والمميزة، حتى وهو يستهل مقطعا أو بوستا بجملة: “على مدار حياتي القصيرة التافهة” كان يقول شيئا مهما ذا قيمة، ربما بالنسبة لي وهذا يكفيني، لكنه أثبت لنا كيف لم تكن حياته تافهة، سواء ما شاركه معنا في عموم كتاباته ومداخلاته، أو ما لم يشاركه معنا، لأن النتائج تحكي لنا وتدلنا على ما كابد بشرف وصبر ومثابرة وإصرار منقطع النظير، وعبّر لنا عنه بطريقته الهزلية في مقال كتبه عن انتقالاته من السباكة إلى كلية الفلسفة، حينما قال وحش يهزمني وكان يقصد به مادة الرياضيات والرد بعد ذلك بوحش أهزمه حينما سجل في ثانوية عامة منازل ونجح أخيرا بعد ثلاث رسوبات في النجاح والالتحاق بما يريد وفيما بينهما الهروب الكبير من نويبع إلى القاهرة.
للأسف عندنا وحش أو وحوش نباريها كل يوم ليست في سلمية الرياضيات، لكنها لم تكن سلمية معك وكلفك ذلك اجتهادات لسنوات طويلة، ونحن كذلك لا نزال على ذمة صراع ومباراة، ربما ننام اليوم فرحين بانتصار لنقع في الغد مع وحش ومكابدة جديدة.
لكن المميز فيك أنه رغم هذه الصراعات والوحش الرابض وغير ذلك كنت بابتسامتك وروحك المرحة تحول كل شيء إلى متعة فتصنع بها رفاهية من نوع خاص ومميز بك في الرحلة، فتحكي لنا الطرائف والنوادر برحابة ورضى قلب ممتلئ امتنانا ومحبة..
ورأيت ولا أزال أرى بريق الانتشاء في ظلال نظرتك.
وليكن كيك الشوكولاتة قربان المحبة للإنسان الذي نؤمن به، هديتي لك يوم قابلتك التي فرحت بها كثيرا وتشاركتها مع زملائك في العمل، وكأني بك تضحك من قصتي التي لم أحكها لك من قبل عن الطواف على صينية الكيك.. نعم تطور بي الحال مع معنى الكيك ولم يعد سبيلا للتصالح مع النفس والعالم وعاد طقسا أمارسه ليعيد لقلبي انتعاشه فأصنعه بتفان واستغراق في بيتي الصغير الذي أنشأته على حافة النهر ولم يرضَ به النهر فأتى عليه فغرقنا جميعا لكن طفا الكيك وحده سالما ينتظر من يقدس الشعلة من جديد.
يتردد صوتك الآن على قلبي وأنت تسأل وتقول(3):
“هل علينا أن نتمسك بالحياة؟
وتجيب: أي نعم يا حلوتي، علينا أن نتشبث بها بكل ما أوتينا من قوة، لأن ثقة كهذه في الغد تتطلب أول ما تتطلب الحب والإيمان به، أظن -وبعض الظن إثم- أن الحب قد يكون هو الاسم الأعظم الذي نحار فيه حتى الآن ويدلو كل بدلوه عساه يصيب منه شيئًا.
الحب يا حلوتي في جوهره حرية، حرية أن نمنح أحباءنا أجنحة للطيران ومع ذلك يفضلون البقاء بجوارنا، تلك هي شيم المحبة الخالصة. قليلون من يستطيعون إدراك هذه الموازنة أو حتى من يقدرون على تحقيقها.
حسنًا يا حلوتي، في هذه الحياة تمر علينا لحظات نشعر فيها بالضياع وربما فقدان الأمل، مثلما تشعرين أنت الآن، إنما نواصل المسير من أجلنا ومن أجل أولئك الذين يحبوننا ويعلقون علينا آمالهم، لا عيب في الشعور بالتعب، إنما العيب كل العيب في الاستسلام، وفي السماح لأفكارنا المظلمة واليائسة عن أنفسنا أن تسيطر علينا.
الحق الحَق أقول لكِ أن ما يبقينا أحياء هو هذا اليقين بالنجاح، إننا فقط لا نتخيل أن كل ما يحتاج إليه الأمر هو أن لا نفقد إيماننا بأنفسنا وأهدافنا مهما حدث.
إن الإنسان هو ابن الأمل ووريث كل أولئك الذين حاولوا عيش الحياة وفهمها فيما مضى، نسميهم الأسلاف وهي في حقيقتها حلقة متصلة من الحب، حب الأخرين وحب ذواتنا فيهم، حينما تكون مرآة القلب مجلوة، فإن كل المعجزات ممكنة.”
ربما انطفأت شعلة(5) بغيابك لكني أعدك وعد حر سأرفعها من بعدك إيمانا بها ووفاء لك ما حييت وأتحاكى بها وبجمالك وبجمال الإنسان الذي نسعى إليه ونريد.
…………………………………
-1) بومبو: لفظ يحيل إلى المحبة والتقدير، قاموس بن نجدت. نشره على صفحته 2024/02/19.
-2) https://almanassa.com/stories/4902
-3) رواية بعنوان مورفين، عن دار الحضارة للنشر، طبعة أولى يناير 2015، رابط الرواية على الجودريدرز:
https://www.goodreads.com/ar/book/show/25945383
-4) نماذج من بوستات نشرها على صفحته على الفايس بوك.
https://www.facebook.com/Ihab.Nagdat?mibextid=JRoKGi
-5) صدقة جرية له: بوست مجمع فيه قائمة لمكتبات رقمية جمعها ونشرها على صفحته 2024/06/13.
https://www.facebook.com/share/p/Bp2MhRTejZotdKrw/?mibextid=xfxF2i