ربما هذا ما كان يقصده داوود عبد السيد وهو يعزف لنا سيمفونية “رسائل البحر”، وربما تكون تلك هي الرسالة التي لم نستطع قراءتها خلال أحداث الفيلم، رسالة ترثي ما آل إليه حال الإسكندرية، المدينة الكوزموبوليتية المنفتحة على العالم، والتي تحولت الآن إلى مقبرة للتراث المعماري، ودائرة تضيق على قاطنيها من العروق والأجناس المختلفة، لتلفظهم خارج البحر، وتكتفي بعرق واحد، وطريق واحد لا يؤدي إلا إلى مزيد من القبح.
يضع أمامنا داوود عبد السيد القبح المعماري الذي يغزو مدينة الرب، وإلى جانبه القبح الإنساني الذي يستشري كورمٍ خبيث يأكل جسد المدينة، وبجانبهما الأرواح الشريدة، الآتية من زمنٍ آخر كانت به الإسكندرية لا تتلعثم في حديثها، أرواح تبحث عن مخرج، عن خلاص، عن مساحة خاصة وحرة، دون أن يكبلهم مجتمع الإسكندرية الجديد.
فبطل الفيلم “يحيى” ذهب إلى الإسكندرية هروباً من ضيق القاهرة، على أمل أن تكون الإسكندرية أكثر براحاَ، لكنه فوجئ أن المدينة لم تعد كالمدينة التي عرفها منذ عشرة أعوام، فما عاد إليه .. وجده على وشك الرحيل، ولم يتبق منه سوى تذكارات، لأناس عاشوا هنا في حقبةٍ زمنية ماضية، وسيتم محوه، في حقبةٍ تالية.
فشخصية يحيى كانت متلعثمة في الحديث، تماماً كالمدينة، وكتلك الأرواح التائهة التي لا تجد متسعاً لها في هذا المجتمع الجديد، ربما لأنها لا تجيد لغته، وبالتالي لا تجيد التحدث معه، لكنها بالتأكيد تستطيع التحدث مع “نفسها” مع من يشبهها في مجتمعات جانبية صغيرة .
ويضع أمامنا داوود أحياء الإسكندرية الشعبية القديمة متمثلة في شخصية “قابيل” كواجهة للأناس الشعبيين الذين لم يؤثر عليهم القبح، ومازالوا يحتفظون بهويتهم القديمة.
أما شخصية نورا .. فهي الموسيقى التي تصنع التوازن بين العالم القديم والجديد للإسكندرية، والتي أصبحت هي الأخرى مطاردة في المشهد الأخير، حيث لم يجد يحيي ونورا متسعاً لهما يهربان إليه سوى البحر، ربما لأنه هو الشيء الوحيد الذي لم ولن يتغير حتى وإن نسفوا أسماكه بالديناميت.. وربما لأن طبقة الأثرياء الجدد من طراز ” فضة المعداوي” في مسلسل الراية البيضاء، فقط يستطيعون أن يلفظوهم خارج أسوار منازلهم لتتحول إلى مولاتٍ ضخمة وعماراتٍ كبيرة قبيحة المنظر وبائسة، لكنهم لن يستطيعوا أن يلفظوهم خارج البحر.
ويترك لنا داوود عبد السيد النهاية مفتوحة، لنسأل أنفسنا: هل سيستسلم السكندريون الذين اعتادت أعينهم على كل ماهو جميل للقبح ؟!
“رسائل البحر” هو استغاثة / جرس إنذار لحقبة يتغير بها شكل الإسكندرية ليس فقط المعماري وإنما الخليط البشري أيضاً، والإجابة لن نستطيع أن نعرفها خلال أحداث الفيلم، لأن المدينة هي التي ستجيب في السنوات القليلة القادمة.
فكما قال لورانس داريل في الجزء الأخير من رباعية الإسكندرية “كليا” إن الإسكندرية أصبحت مبتذلة ولا طائل منها. أعتقد الآن أن تلك الإسكندرية المبتذلة التي تحدث عنها داريل، تلفظ أنفاسها الأخيرة.