رحلة مفقودة

عبد الرحيم حدا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحيم حدا

سمع صوت ماء الصنبور يتدفق بقوة، هاله الغضب المفاجئ الذي سيطر عليها بدون سبب حقيقي مباشر،هي تراكمات الدقائق والأيام والسنوات، تراجع إلى كرسي الصالة، وبدأ يتأمل وجه طفلتيه الصغيرتين، تعودتا على زفرات التذمر، وارتطام الأواني بقوة على المغسل.

  بدأ محمود يزعق أمامهم، ويسب و يزبد، رشق الكنبة بكتاب – كيف تتحكم في غضبك – حفظ كل تعليماته سطرا سطرا،  لكن سرعان ما يرغب في تمزيق أوراقه، ينبعث من صدره هواء ثقيل، وكأنه محمل بغبار المناجم.  تهدأ هي مرة أخرى، ووجهها ينتفخ وكأنها وضعت عليه صباغة بنفسجية، يستمر هو في صراخه وندمه على كل خطوة أوصلته إليها. لكنه يحب طعامها، و حرصها العائلي.. يحب طفلتيه التوأم. يريعه تذمرها اللامتناهي، صباح مساء، تمنى لو استوعب شبنهاور مبكرا، أوعلى الأقل لو قرأ أصل العائلة بشكل فردي. ضاق صدره من لغطها، واندفع نحو الخارج بلا وجهة. فقط يريد أن يفر من لهيب الغضب  الأحمر الساطع منها، ومن منظر الصغيرتين اللتين تحملقان وتديران رأسيهما  بين فرح سبونج بوب وصراخ الأبوين.

حاول أن يتمالك نفسه وهو يلهث، فوجد نفسه محاطا بالأضواء و الفتيات يرقصن حوله، ثمل دون أن يعرف متى وكم شرب، خرج من غرفتها وقد أصابه الدوار، وأسرع إلى خارج الحانة وبدأ يتقيأ، إلى أن صحا من دوخته. عاد إلى المنزل لم يجد أحدا إلا بعض الدمى المتناثرة هنا وهناك، وبيانو صغير، يعيد تلقائيا مقطوعة بيتهوفن التي كانت تذكره بوصول  شاحنة قنينات البوتان.  لطالما كانت الطفلتان تشغلان هذه الموسيقى لخداع الجيران.

 نزل إلى بيت جارته، وسألها عن أسرته، ربتت على كتفه وحضنته، ثم أغلقت الباب في وجهه، متوجسة منه، عاد إلى بيته، وأخذ الهاتف، اتصل، أرسل الرسائل….لكن لا أحد يملك هذا الرقم. بعد هنيهة تلقى اتصالا مجهولا، يخبره بضرورة الحضور إلى مقر الشرطة، فزع من مكانه، فهو غير معتاد على زيارة المخافر،  تلعثمت كلماته، لكنه قال نعم سأحضر، توجه إلى مقر الشرطة لعله يسمع جديدا عن أسرته، وجد في انتظاره شرطية، وبجانبها شابة تحمل رضيعا يشبهه تماما. ربما هي تعرف خبرا ما عن أسرته، تقدمت الشرطية، وقدمت لهما أوراقا للتوقيع.

 -ماذا هناك!؟

 – لا شيء سيدي، فقط هذه الفتاة تقول أنك والد هذا الطفل، وهي قد طالبت بالتحقق من الحمض النووي حتى يمكنه الاستفادة من ثروتك..

 – أنا لا أملك ثروة سيدتي، وقد جئتكم هنا لأتقصى خبر أسرتي المفقودة.

وقع الوثائق التي أمامه كما لو أنه استعاد سكرته بعد عراك زوجته، حين هرول إلى الحانة المتواجدة خارج المدينة، أخذ يشرب، ويشرب وكأنه يريد أن يروي عطش غضبه، أخذته شابة إلى غرفتها وأكمل السكر معها، وناما معا، ثم استيقظ في غفلة منها وخرج ، فتش حقيبة نقوذه، تذكر أنه سدد ثمن كل شيء الشرب و الجنس. عاد أدراجه إلى أسرته. وجد المنزل مقلوبا ، مملوء بالشباب والشابات و قنينات الخمر، بدأ يصرخ:

 أين أسرتي؛ طفلتاي، وزوجتي..؟

 أشار له الجمع في استغراب هاهي زوجتك أمامك، قد عدت معها من الحانة، وهاهو ابنك الذي حبلت به، في غفلة منك.

تذكر جيدا حين غسلت قضيبه بلطف، كأنها تحلبه، سألته عن عمله، فكذب عليها، وأدعى أنه ورث ثروة محترمة، ليكسب احترامها، فقررت أن تسرق حليبه المنوي من القمامة، ودسته في رحمها.

جلس على الكرسي في الصالة وسمع صراخها، وهي تضرب الأواني على المغسل، وصراخ الشباب يسكرون في بيته، والطفل الذي قيل أنه إبنه ، وقد أتبث الحمض النووي ذلك.

– تبا..لماذا لم أحمل وحوشي المنوية في جيبي؟

  لكن ماذا سيقول لأسرته المفقودة. حاول أن يشرح لها وضعه، والتزاماته السابقة، لكنها هدأته بحقنة،  فارتمت على شاب بجانبه تقبله. وهي تردد مشفقة:  مسكين لم يستوعب بعد أنه فقد أسرته منذ زمن بعيد.

استيقظ من كابوسه الفظيع، وفر من الحانة إلى منزله ليسترضي زوجته، ويلعب مع طفلتيه، لم يجدهما، كما اعتاد، في المنزل خرج إلى الحديقة المجاورة، هناك رآهم وتنفس الصعداء، تمنى لو يعود به الزمن إلى الوراء. تقدم منها، واعتذر لها عن أشياء لم يفعلها، وانهال عليها بالوعود، ومقترحات النزهة.

لم تعره اهتماما، أخذت من جيبها الهاتف، وأرته موعد الرحلة الجوية إلى مدينتها، لم يتذكر متى فعل ذلك. ربما هي نوبة الغضب جعلته يضغط على تطبيق الرحلات الجوية. صفعته، وبصقت على وجهه، فتلتها قهقهة ساخرة من الطفلتين:

 أبي لماذا فعلت هذا؟ ألم تعدنا بالسفر معا على متن السفينة؟ نريد أن نرى الباخرة وهي تمخر عباب البحر..

 بدأت قهقهة طفلتيه وزوجته تتعالى إلى درجة لا تطاق، حاول أن يغلق أذنيه براحته، لكن تحول الأمر إلى جلبة أثارت كل المارين والجالسين في الحديقة. اقتربت منه  الشابة ومعها الطفل، وأخذته من يده، وجرته بقوة.

  • لم أتخلص منهن في البحر، لم أتخلص منهن في البحر. كان يصرخ في وجهها، وينطر يديه.

– ألم  تستوعب بعد أن زوجتك السابقة وطفلتيك ابتلعهن البحر؟ لقد أرسلتهم عنوة إلى بلادهن،  ليخلو لك الجو. وها أنت الآن قد استرحت منهم إلى الأبد.

لم يبق لك إلا أنا وهذا الطفل، وهؤلاء السكارى الذين يزورونني كل ليلة، كيف سأطعمك وأطعم طفلك بدونهم؟

أخذ يغسل الأواني كأسا وراء كأس، صحنا وراء صحن، كلما ظن أنه انتهى تبعث الأواني المتسخة من بطن المغسل، تتناسل كالصراصير، بدأ يلهث لعله يكمل آخر صحن، لكن تحت كل صحن ركام من الصحون، بدأ يهمهم ويتنفس بصعوبة، و يصرخ في الشابة وزبنائها، ويطلب منهم أن يغسل كل شخص أغراضه. لا يسمعه أحد، الكل في عالمه الصاخب، انتفخت أوداجه، وصار لون وجهه بنفسجيا، نزع وزرته،  رفع الصحون إلى الأعلى ورمى بها على الأرض بكل قوته، تهشمت وتطايرت شقفاتها في كل اتجاه، فر الجميع من المنزل، حتى لا يرميهم من الشرفة.

نزل مسرعا إلى الحديقة المجاورة، تناهى إلى سمعه، صخب طفلتيه، وهما تتدافعان بجانب الأرجوحة، جلس على الكرسي المجاور، جاءت زوجته من الخلف، ووضعت يديها على كتفيه، وربتت عليهما وقالت له:

ألم أقل لك.. أنك لن تتحمل الوقوف يوما واحدا أمام مغسل المطبخ.. يجب أن نرحل من هنا.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال