2
يستهل محمد رحلته التي ستطول بقرطبة، ربما لم يكن يعلم ذلك، إذ ظن أنه ما إن يصل هناك حتى يلتقي أخاه ويعود, فهو لم ير غير غرناطة حملها في قلبه واسرج فرسه وودع امه ومضى يعبر نهرا وفضاء وروائح أرض تفوح وتذهب, رأى اسماكا وطيورا بيضاء ووردية وحمراء, وغابة حور وصفصاف وقمرا وناطور اطعمه وآواه وقص عليه اسطورة عن عين ماء بكنيسة قرب غرناطة تفيض بالنهار ماء “يشقى ,غادره محمد بعد ان اهداه عملة نقش عليها اسم موسى بن نصير وما ان شاهد الصفصاف العملاق حتى بانت قرطبه ,التى سيلتقي فيها بالرجل الذي خبره عن اخيه ,يقيم عنده الخريف بطوله ولم يأت البلنسي بل والشتاء ورحل في الربيع،.صبره رؤية شاب بعسكر عند النهر يؤكد له انه رآه قيل ذلك بالصيف ..همس محمد :كان هنا .
3
في الطريق يقابل محمد “الليل والظلام والسهول والجبال ويلتقي الوديان والطيور والمستنقعات وجداول مياه وزراعات حبوب وأرز وقصب سكر وشمندر ومدنا للبرتقال كما سماها “بحار بيضاء عطرة من بساتين البرتقال المزهرة” ومر بنهر لبلاد الفرنجة فأحاط به عسكر وقتلوه فرسه وضربوه فشطر وجهه, لكنه لم يمت .
وجده أسباني, طيب جرحه ومنحه فرصة مغادرة المدينة إلى جنوة وكلمات هذا الاسباني عن اخيه ظلت تؤرقه: “خطيئتك انك لا تعرف متى أخطأت, تعرف متى أخطأت؟ أخطأت حين لم تشعل نارا “تدله الى الطريق”. وفي السفينه اسر مع اخرون وسياط وسلاسل وصرخات حتى أنقذه البربر فأخذوه لسبته في المغرب ومن هناك لتطوان والقيروان التي عمل بها ناطورا ثم حط بتونس. مر بفاس ومكناس وسيدي عيسى حتى تونس التى ظل بها سبع سنين ,عمل وتزوج وانجب وغادرها كعادته لهدفه الوحيد :اخيه .
4
حلم بأخيه وموت ابيه، ومرض كثيرا وحكى كثيرا عن قصته وضياع الخراف وامه وحبه لنسخ الكتب التى فتحت له ابوابا للطب والجغرافيا والتاريخ فيحكي كيف بنيت القيروان في ايام معاوية وكيف عمرت وقبل ذلك حكى عن الرازى وكتابه “الحاوي في الطب “وسيحكي لاحقا حين يغادر للقدس، بحثا”عن البلنسي، عن “دفع الاحزان للكندي “وعن بلاد سيقطعها ويصفها كأهلها عن خليج الحمامات وقابس ودمياط وقبلها عن الاسكندرية وكلام ساحر عن بياضها الشديد والذي لايكاد يبين دخول الليل منه “كان الناس يمشون فيها وفي ايديهم خرق سود خوفا على ابصارهم وكان الخياط يدخل الخيط في الابرة بالليل “لقوة بياض الحيطان والطرقات “ثم النيل وشمسه وقمره وطيوره وتفاح وعنب كالزبرجد الاخضر والياقوت الاحمر واللؤلؤ الأبيض, والقدس وبيوته وقبابه ولبناته الذهبية الحمراء وطرابلس وزيتونها حتى مستقره الاخير بانطاكية التى وجدها “سور استدار في نصف دائرة حول المدينة والتحم عند طرفيه بالجبل الذي يسندها من خلف .على رأس الجبل تربعت قلعة وفوق السور تعالت مئات الأبراج “بهكذا يصف بدقة كمن زار المكان بزمنه”.
5
عند القلعة دخل دكانا عجيبا مملوء ذهبا وعاج وفضة وياقوت ومسابيح وغلايين وقناديل اعادته لسنوات الطفولة وشدته لرائحة غرناطة ليجد اخيه الربيع امامه والذي كان كما هو في الثالثة عشر من عمره .لم يكبر ..
قال محمد :اردت ان اراك .ناديتك تلك الليلة
قال الربيع: كنت اسمعك ..لكن العتمة .
قال محمد :لواشعلت نارا…
قاطعه الربيع :ماكانت تدلني .. اذهب الى اولادك ..
بكى محمد على اخيه الذي مات من يومها ..صحيح ان حزنه كبير,لو كان يعلم ذلك لما قطع كل هذه الرحلة من العمر والوقت والصعاب والبلاد والوجوه المارة معرضا حياته للموت وللضياع ..ولكن كفاه انه تأكد ان اخيه رحل وانه ليس ذنبه وانه سافر ليلتقى امرأته وينجب الاولاد ويختبر الحياة ويجد نفسه للمرة الأولى في حياته ..ويستطيع ان يحبس انفاسه وينام هانئا مطمئنا ويمارس الحياة …
6
ابسط ما في القصة هي القصة ذاتها بعمقها وشرحها وتفاصيلها الدقيقة الصغيرة والكبيرة من اماكن عديده للمكان الواحد بلونه ووصفه وابوابه وانهاره وطيوره ومروجه .تراها كما لوكانت شريطا سينيمائيا خياليا عن هذا الزمان دون تكلف او تعال او مرواغة من الكاتب الذي وأنت تنهى قراءته، تعلم أن لديه الكثير والكثير من التفاصيل لم يخبرنا بها ربما احتفظ بها لجولة ثانية في التاريخ والجغرافيا للمكان الذي لولم يكن موجودا لاخترعه هو.
ربيع جابر يكتب لغة متفردة وموسيقى داخلية مطمئنة وووجوه تبحث عن مستقر واماكن زارها النسيان يمسح عنها وعنا غبار تاريخ مضى.