إبراهيم عرفات
لا يملك “مظهر الباز” مظهراً واحداً يدل على ما يختلج بين أضلعه ويُشقي عقله. شاب متوسط القامة نحيل القوام، يبدو ضئيلا للغاية مقارنة بزملائه. عيناه غائرتان يحلق فوقهما حاجبان كثيفان يزيدان نظراته اللامعة غرابة والتباساً. يُقطّب جبينه دائماً كلما تكلم لأنه اعتاد أن يزم بقوة بين حاجبيه. كانت حيرته من كل ما يجري على الأرض أكبر بكثير من عمر شاب في مقتبل حياته. غاضب لكنه لا ينطق.
لم يكن أساتذته وزملاؤه في الجامعة يخاطبونه باسمه وإنما ينادونه بعاقد الحاجبين لشدة الامتعاض الظاهر على جبينه وهو يضم حاجبيه إلى الداخل. كانوا مع ذلك يحبونه ويقدرونه حتى وهم يسخرون منه. وقد كانت سخريتهم امتداداً لسخرية القدر من خلقته الهزيلة وتكوينه الجسماني الفقير. حرمته الطبيعة من الوسم والرسم لكنها وهبته ما لا يحلم به مخلوق من النباهة والألمعية. ولذلك كانت سخرية أقرانه من شكله تمتزج بإعجابهم بملكاته العلمية الفذة وبشهادة كبار أساتذة كليته في صفه.
لم يكن “مظهر” يتبرم من التسمية التي خصوه بها لأنها تذكره بقيثارته المعشوقة فيروز التي وجد في دفء صوتها جسور الرحمة التي تأخذ الناس بعيداً عن مذلات الأرض إلى ملذات السماء. كان يهواها ويشعر أنها تغني له وحده وهي تنشد “يا عاقد الحاجبين”.
كان مظهر يؤكد في كل يوم يمر في دراسته الجامعية للفيزياء أنه شعلة وهاجة من العبقرية ينتظرها مستقبل واعد. صلبٌ لا ينام إلا قليلاً ولا يأكل إلا قليلاً ولا يبدد وقته بعيداً عن المكتبة والمعامل. لا يذكر زملاءه أنهم رأوه في رحلة أو حفلة موسيقية أو مسابقة رياضية. رآه بعضهم في مناسبات ثقافية نادرة كانت تنظمها كلية العلوم حول شؤون عامة مختارة من قبل أمن وإدارة الكلية لكنه لم ينبس فيها ببنت شفة. لم يكن يجيد إلا التفوق. كان ولعه جنونياً بالرياضيات والفيزياء. لقد كانا كل حياته. ومع أن له حياةً أخرى لم يكن يعرف عنها أحد، إلا أن حياته السرية لم تكن مليئة بالتسكع وراء البنات أو مهمومة بالبحث عن عظات يقدمها المشايخ وإنما حبلى بأسئلة شاب حائر ناقد وناقم لما يراه على الأرض من مواجع. لم يكن يخرج من المعمل أو المكتبة إلا ليعود إليهما بأقصى سرعة حتى لا تسيطر عليه تلك الأفكار الانسانية المبغضة للناس والحياة على الأرض. وكثيراً ما تصاغرت حيرته أمام المعرفة وهانت أمام هلعه من مشكلات الناس. معاناته مع الفيزياء كانت رحمة عن دموع سكبها من بؤس الأب وهجر الأم وجفاء الجيران وغدر الأصحاب. كان الناس في عينيه مآسي حائرة ومحيرة. لم ير فيهم، برغم تعاطفه مع شقائهم، إلا حيارى تافهين ولم يرد أن يصبح مثلهم. فهم يعيشون على تراب الأرض وهو ينظر إلى رحاب السماء. هم يفتشون عن حلول فانيات وهو يسعى للباقيات. هم يغرقون في كهوف المذلة وهو يجتهد ليفتح أفق الضياء. قصصهم مملة وأحلامهم جوفاء. يحلمون بلقمة عيش مضمونة أو ورقة تزكية لوظيفة أو بضعة أمتار يعيشون عليهما. لا يشغلهم سوى تدبير قوت اليوم أو زواج البنت أو منع هروب الولد. يحاربون بإسم الوطن فيقتلون ويُقتلون دون أن يعرف أحد لماذا. أمور بشرية مضطربة كانت تشغل خواطر “الباز” من حين إلى آخر. ولم يكن انشغاله المتسرب إلى نفسه بها بدافع هوس إلى مقارعة طواحين الهواء وحل مشكلات الأرض وإنما لأنه كان يمقت البقاء في مكان يجبره على التفكير في الهموم ويدعي الهدي وهو يتستر على الضلال. كره “مظهر” خطاب الساسة الزائغ وخطاب الدعاة المائع. ولم يكن له إلا أن يكرههما فهما الوحيدان المتاحين أمامه. يتجملان أكثر فيكذبان أكثر. ولم يكن يحتج أبداً عليهما في العلن لأن المجنون وحده من يخوض معارك لا أمل فيها.
أنهى “الباز” دراسته الجامعية بسرعة وتفوق إلى درجة لم يحققها أحد في كليته منذ سنين طويلة. لم يتردد في رفض الوظيفة الجامعية برغم وجاهتها ومناشدات الأقرباء والزملاء بسرعة تسلمها حتى ينعم بأمانها ووجاهتها. لم يكن يشغله الأمان الوظيفي لأن الوظائف لا تؤمن حد الكفاف. ولم تسترعيه مسألة الوجاهة لأن الطبيعة لم تخلقه من أجلها. كان متمرداً صامتاً على أوضاع الأرض كما عرفها في بلده. ومع هذا لم يظهر تمرداً قط ولم يحاور أحد قط لأنه كان مقتنعاً بعبثية النقاش مع عابثين يتلهون بنقاش عقيم حول قضايا هي في ذاتها عبثية. كان مقتنعاً بأن الاحتجاج مهما علا صوته يبقى عاجزاً أمام كرابيج القمع. عرف الحل مبكراً منذ أن كان بالسنة الثانية في الجامعة. لا بد من مغادرة الأرض والذهاب في رحلة بلا عودة إلى واحدة من بلدان الشمال.
هاجر “الباز” مرحباً به طالباً في واحدة من أكثر كليات العلوم تقدماً في العالم. كان لثلاث سنوات يعد نفسه للهجرة في صمت. لم يكن باقياً على شيء في مكان لا يبقي على شخص. هناك استقبلوه وعرفوا كيف يستفيدون منه. لم يقدموا له منحة دراسية كاملة إلا لأنهم يعرفون أنه سيمنحهم نصيباً من المنح السخية التي توفرها وكالة الفضاء للجامعات التي تستقطب المتميزين. ولم يخيب “مظهر” أساتذته الجدد. لم يمر سوى عام واحد على قبوله في برنامج دكتوراة الفيزياء بالجامعة إلا ووكالة الفضاء العملاقة في العالم تمنحه فرصة للتدريب لديها وتضاعف قيمة المنحة التي خصصتها لجامعته. كان ابن الثانية والعشرين عبقرياً في الفيزياء والرياضيات. منذ صغره رأى الخلاص في حركة المادة والمعادلات الرقمية وكم أنها تصعد بأحلامه بعيداً عن الأرض. فكل ما على الأرض مرئي يمكن حسابه والتحسب منه. أما في السماء ففيها ألغاز تشد الانتباه وحريات بلا نهاية. تذكر وهو يوقع أوراق المنحة الجديدة ما كان يؤرقه في بلده وحمله على الابتعاد. المرأة والرجل، الدين والتقاليد، الطعام والملابس، الإدارة والسياسة، الفقر والصناعة، الشوارع والشعر. كلها كانت عطب وغضب وصخب. عاودته صورته وهو يفر من أرض نفاق بخسة مليئة بالمهاترات والسخافات والمؤامرات. وتذكر عندما صعد على متن الطائرة التي أقلته إلى الوطن الجديد خشيته من أن يواجه فيها بعض عذابات الحياة التي عاشها في الوطن القديم.
تعجب “مظهر” بعد أسبوعين من بداية برنامجه الدراسي. فقد بدأ همس يدور من حوله ثم ارتفع ليسمع بعض زملاءه وهم ينادونه the frowning fellow. “يا ربي”…قالها لنفسه وهو يبتلع أول سخافة تناهت إليه. ها هم ساكنو الأرض الجديدة ينادونه أيضاً بعاقد الحاجبين. لكنه لم يهتم. بقي كما هو. ابن المعمل وقاعة الدرس وردهات المكتبة. وبقي أيضاً ذلك المحتج الصامت. راقب الحياة والبشر على الأرض الجديدة. وجد صور السعادة والوفرة والحرية والنعيم السائدة عنها ليست خاطئة لكنها ليست كاملة. أرض تبغض كما تحب. تُبعد كما تجذب. تهدد كما تعد. قاسية قلبها من حجر فلا تعطي إلا لتأخذ أكثر. برغم ما فيها من حريات ومتع إلا إنها لا تخلو من هشاشة المشاعر وخواء الروح ومادية مفرطة لم يكن يكرهها بالكامل لكنه بدأ يتحاشاها. غرق في دراسته. ولم يكن يشغله عنها إلا هيامه بالتحليق إلى أبعد نقطة يجد فيها مهرباً من حيرة الأرض. كان فكره تماماً مثل لقبه، باز يتوق إلى التحليق ليرى بدقة من مسافة بعيدة. فالمحلقون في السماء ليسوا كالمنحطين على الأرض. تصور دائماً أن الارتفاع هو الحل وأن الانخفاض هو العيش في حيرة. كان طائراً تواقاً لفرد جناحيه في أي اتجاه يبقيه طليقاً. لم يكن يصبر لو حطت قدماه عن غير قصد على أرض التفاهة والحياة الرخيصة الغارق فيها معظم البشر.
كان يبحث عن الرفاهية في الفيزياء وحركة الأجسام. كلما حقق انجازاً في دراستها سارع إلى ما بعده. لم يقنع يوماً بما وصل إليه ويحلم دائماً بمكان أفضل. فالأرض كلها لؤم وخبث وضغائن حتى في أرقى الجامعات. الأرض أرض لا تُرضي ولا تَرضى. في وطنه القديم والجديد على السواء الناس هم الناس. عشرتهم صعبة والاقتراب منهم خطر والتأفف من أفعالهم لا يتوقف. عاش “الباز” على الأرض اضطراراً واعتبرها مكاناً لا يستحق سخاء القبول. وها قد تكشفت أمامه أكثر من موقعه في مركز بلدان الشمال. كلها دماء وأسلحة، إفقار وحروب، مؤامرات وأمجاد مصطنعة. علامات تجارية ودعايات فارغة. غش وسفك ونصب. جيوش تحارب وتقتل بعضها من أجل زعماء يعرفون بعضهم.
تمنى أن يهرب ليحلق بعيداً. لم يكن يعرف أن أمنيته ستأخذه يوماً إلى واحدة من أغرب التجارب. فقد اختارته وكالة الفضاء الجبارة بعد فحص قدراته وبراعاته ليكون ضمن ثلاثة رواد ترسلهم إلى محطة الفضاء التي زرعتها بعيداً عن الأرض قبل عشرين سنة. لم يتردد في قبول التجربة. ويا لها من تجربة. أخيراً سيبعد “الباز” عن الأرض ولو إلى حين. فكم أزعجته وكادت بهمومها أن تقضي عليه. وصل مع رفيقيه القادمين من بلدين أوروبيين إلى المحطة وأقاموا فيها ثلاثة أشهر، عاد من بعدها زميلاه إلى الأرض بحسب الاتفاق المعقود بين حكومتي بلديهما ووكالة الفضاء التي أشرفت على الرحلة. بقي “الباز” وحيداً في السماء في انتظار رواداً آخرين يحلون محله. عاش وحيداً في الفضاء لشهر كامل. تحققت أمنيته وسكن السماء…لكن صمت السماء صدمه مثلما صدمه ضجيج الأرض. جرب الخوف كل ليلة لثلاثين ليلة فكان يسامر نفسه بحديث مفتعل إليها. “كم موحش هذا السكون؟ كم مقبض هذا الفراغ اللانهائي. نعم نحن أهل الأرض المزعجون الوحيدون وسط هذا الصمت الكوني المطبق…لكن ضجيجنا أفضل من هذا الخرس السماوي القاتل. إنه صمت يهددنا ويتحدى هوياتنا ككائنات ناطقة. كم من أسوار على الأرض حدت حركتي، وهذا لم يكن بالطبع يرضيني… لكن هنا في السماء لا أجد أسواراً تطمئنني وتحميني. ولا وجود لأصوات تؤنسني وتواسيني… ليس لي هنا صديق سوى الفراغ، ويا له من صديق لا يفيق…فهو غافل دائماً. أهذا كل ما يكون؟ ما تلكم النجوم البعيدة؟. إنها صوامت لا تنطق…أيتها الأرض كم أنت جميلة…ولكن فقط من بعيد… من بعيد لا أسمع صخبك ولا ضجيج من عليك ولا أرى بؤس ما يصنعون. لكنك مغرية. لديك أصوات وأشجار وبحار وجبال وأنهار وعربات وعمارات ومتاجر. وكلها كانت تؤنسني. لكنها كانت أيضاً تتعسني. هنا هدوء وسكينة…نعم….لكنه سكون أسوأ من صمت القبور… من أنا؟. ماذا أريد؟. هل الحيرة قدري؟ على الأرض وفي السماء؟” كان كل يوم وليلة يسأل نفس الأسئلة…وبعد أن انقضى الشهر حان موعد عودته إلى الأرض. عاد إليها حاباً وكاره تماماً مثلما ترك السماء. وجد الحيرة تقهره على الأرض وتطارده في السماء…أيقن أن الحيرة أبقى وربما أمتع من كل محاولات الوصول إلى جواب.
…………………
*كاتب وأستاذ بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة