أسرعت نحو البئر كمن ينجو بحياته من حريق، خالطني االشعور بالذنب طوال اليوم، على الرغم من أن أحداً غيره لم يرني، أو هكذا ظننت حينها على الأقل، كنت أجيئ و أذهب و نظري مسلط للأسفل، وطأة صمته أشد عليّ من العتاب و العقاب، عاد من طقسه الصباحي كأن شيئاً لم يكن، لو أنه صرخ بوجهي بغضب، أو لطمني، لو أنه لامني، ربما أوجد لي مجالاٌ لأطلب صَفحه، لأسترضيه، لأشرح له شيئأ عما أشعر به، عن وحدتي المميتة هنا، عن خوفي من كل أحد و كل شيء، لكنه صمت و فقط. إعتمل بداخلي إشتياقي لأبي كأقوى مايكون يومها، ذكرت كم كنت سعيدة في كنفه، أو آمنة على الأقل، عصف بي حنينٌ مزلزلٌ رجّ ضلوعي فغصصت لكني لم أبكِ، و شعرت بالرثاء لنفسي و لما آل إليه حالي، تذكرت مافات على كرُهٍ من حديث نسوة قافلتي عني الذي لم يهدئ أبداً، لا قبل ذهابي لرحلتي المشؤمة القصيرة و لا بعد عودتي، وتساءلت بقلبي لماذا أنا هنا؟ وهل كف كلامهن عني؟
ما معنى أي شيء؟
مع إرتفاع الشمس في كبد السماء بدأت الغجريات و الغانيات بالخروج متكاسلاتٍ من الخيام المتفرقة، قليلات من يبدين تراخياً مبتهجاُ و راحة، يسرن ببطء و دعة، تفوح منهن رائحةُ ندية خصبة كالأرض بعد المطر، يقبلن على الطعام و يأكلن بشهية، منهن المرأة التي تلصصت عليها منذ ساعات قليلة، هانئة كانت، فاترةالشمائل، مسترخية الوجه حمراؤه كشفق المغيب، تتمايل في مشيتها المتئدة كأنما ترقص، عينيها لامعتين وعلى وجهها إبتسامة راضية بلهاء، لكن أكثرهن يخرجن للإفطار مقطباتٍ، منتفخات الأحداق، كأنهن يكتمن رغبة في التقيؤ، على ذلك فهن يأكلن بشراهة و سرعة كمن ينتقم من شيئِ ما و لا يتحدثن. تشي نظراتهن لبعضهن بمعانٍ متباينة، كأنما بين عيونهن لغة بلا صوت، حديث أكاد أوقن أني أسمعه لولا أنه غير منطوق، يلقين باللقمة تلو اللقمة بلا مضغ، شعورهن منتفشة، يترامقن حيناً ثم ينظرن إلى اللاشيء فجأة كأنهن على وشك البكاء.
أتحرك بسرعة لخدمتهن قبل أن يإن ميعاد رحيلهن، مفرطة في إتقان عملي علني أكفرُ عن ذنبي أمام مولاي، جرت العادة أن يتناولن طعامهن في كل الصباحات وحيداتٍ قبل خروج الرجال من الخيام، ثم تنادي فيهن أجملهن بالذهاب. لكنها اليوم دعتني إليها بلا سبب، هرولت نحوها:
- أمرك يا سيدتي.
- إجلسي بجانبي أود أن أحدثكِ.
- لا أستطيع. (أجبت.)
- بل تستطيعين. أنا آمرك. إنتظري إستديري أولاً. حسناً. إجلسي الآن.
- يا سيدة. عليّ خدمتكم لا الجلوس بينكم.
- قلت إجلسي . لا تودين إغضابي أليس كذلك؟ ( نظرت إلي بعينين فيروزيتين ساحرتين و صوتٍ جميل رقيق لا يقاوم).
- علكِ تطلبين لي المغفرة إن رآني أحد رجال القبيلة، لديهم من الأسباب ما يكفي لكرهي . (و جلست.)
- إسمعي. أنتِ جميلة الوجه و تعجبني أسنانك. أريني شعركِ. قالت و هي تشد الغطاء عن رأسي. حسناً شعركِ لا بأس به كذلك. هل لكِ صوتٌ يصلح للغناء؟ أو أنكِ تجيدين شيئاً من الرقص؟ أنا أرقبك منذ جيئ بكِ و لا أرى داعياً لعملك هنا. ما اسمك بالمناسبة فأنا لم أسمع أي أحدٍ يناديكِ به.
- لِم يا سيدتي؟
- لِم ماذا؟ أسألك عن إسمك.( و ربتت على كتفي بهدوء و حنان). أريد أن أضمك إلينا فأنا أرانا أجدر بكِ و بجمالك و طلاوتك من قبيلة الرجال هذه.
- إسمي لُبنى. لكني لا أستطيع الإنضمام إليكن. أنا أعمل هنا في كنف الرئيس و تحت حمايته بعدما أنقذ حياتي من موت محقق. فأنا مدينة له و لكرمه. كما أني، يا سيدتي الرائعة الجمال، لا أراني أستطيع أن …أن…
- ماذا؟ قولي لا تخافي. لا تستطيعين أن تكوني غانية مثلنا؟ هل رأيتني أدخل إلى أي خيمة يا لُبنى؟ أتعلل كثيراً بوجعٍ في رأسي أو أسناني، بالحر و بالبرد و بالقيظ و بالليل، ألف سبب هناك لتقولي “لا” متى ما شئتِ. تعالِ معنا و سأطعمك و أكسوك و أعطيكِ أخفافاً جديدة. قومي بخدمتنا، و هي في كل الأحوال أفضل من خدمة أؤلئك القساة. ألا تعلمين ماذا فُعلوا بحبيبة الشاعر؟ كيف تبقين هنا؟ ما رأيكِ؟
- هل تطلبين رأيي؟ أنى لي ترك القبيلة؟ لا أستطيع.
- حسناً. عرضي قائم في كل الأحوال متى رغبتِ. و لا يرفض الرئيس لي طلب.
- هل لي أن أسألك شيئا؟ ( قلت بتردد)
- ماذا؟
- كيف تتجنبين الخيام و الرجال يا سيدتي؟ و هل ترومين بلوغ النفق؟
شخصت ببصرها نحو النخلات كمن يلوك حنظلاً قائلة بشرود:
- لست حجراً. عشقت قبلاً، و أشتاق الحب كثيراً، لكنني أمقت الذل و الهوان، لم أرث ما يكفيني و لا قافلة لي. تعرفين، أردتُ الإبتعاد عن كل الرجال بعدما تركت حكيم واحة الجدي الكبرى، الخائن قبيح الطوية، لكني كما ترين لم أستغنِ عنهم بالكلية، إستطعت أن ألهو بهم و أرد خيباتهم إليهم. ترين كيف يتدله أمامنا رجال قبيلتكِ التعساء، و أؤلئك الخائبين الأغبياء من قبيلة السعد، هم مهزمون أمامنا دوماً.
- هل ترومين بلوغ النفق؟ ( أذكرها )
- لا لا. ما الداعِ لذلك. هو بعيدٌ كما تعرفين. كما أن ما يشاع عنه غير حقيقي بالمرة. النفق حفرة خاوية خالية كالقبور. لا شيء به. تعلمي ألا تصدقي مالم ترين بعينيك. حسنأ متى تجيبني؟
- لا أعرف يا سيدتي. أشكر كريم دعوتك على كل حال.
قمت أكمل عملي بينما طفقت نسوتها في لملمة أغراضهن إستعداداُ للذهاب، و قد لاحظت أن رجال القبيلة ينتظرون دوماً داخل الخيام ، و أن إستفاقوا، مغادرة كل الغانيات قبل أن يطلبوا إليّ الطعام أو الماء. ولم أفهم أبداً كيف تتبدل مشاعرهم نحوهن بتلك السرعة بين شوق بالغ و هيام بالليل، إلى نفور منهن و رغبة كاملة عنهن بالنهار.
رأى الرئيس حديثنا لكنه لم يعقب. و الحق أن كلام المرأة هيج خوفي من القبيلة و رجالها و لم يكن خمد تماماٌ أبداً. نظرت نحوه متفكرة كم أني أرغب في سؤاله عن أشياء كثيرة، لم إختطفوا حبيبة شاعر الصحراء و من قتلها و كيف وافق هو على ذلك، ماذا يعرف عن حكيم قافلتي، و ماذا يعلم عن حكيمة واحة الجدي الصغرى تاجرة الآذان، و لم يرأس قبيلة ذات صيتٍ وحشي مخيف و هو مثال للنقاء والجدية و العمل، و لم يسمح لرجال قبيلته بما يفعلون؟
كيف صرت هنا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأجزاء السابقة