رحلة البحث عن وجه نعرفه (3)

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

 أميرة كُريم 

إن لم تجد لك ذكراً هنا

فاعلم أني لم أرك و أنا أمر

...........................

و أين أخفي وجهي المشوها

كيلا أًعكر الصفاء الأبله المموها

...................

هكذا سُمِح لي بمعاودة الإنضمام إلى القافلة، شعري قصير جداً كما أراد الحكيم و فمي مغلقٌ جداُكما أراد الحكيم، أسناني مُخبوءةٌ كما أراد الحكيم، و صوتي مُنكتمٌ كما أراد الحكيم.

ماذا أريد أنا؟

لا يهم. لا يهم.

مع الفجرتأهبنا للسير مرة أخرى،  بدأنا  كما جرت العادة بالتزود بالماء، و الذييسبقهأن نسقي واحدة من الماشيةالطاعنة أو تلك التيلا تدر حليباً  فلايكونضيّرٌمنأكلها، ثم ننتظر مدة من الوقتلنتأكد من صلاحية الماء، فإن نفقت نشويها أونقطعهالنقدد لحمها، و إن لا نشرب و نملأ ونتزود للمسير.

الهدفدوماًواضح على ضآلته، تأمين مأكلدائم لكل أفراد القافلةوتوفيرماء نقيمناسبليشربالجميع،و قصرالسير علىالدروب الآمنة المعروفة لكل القوافل،  الآهلة بخيام القبائل أو آبارهم على أقل تقدير،والحفاظ على الماشية التي نرعىلطالما هالتنيبساطة ما تصبو إليه قافلتي،فنحن لا نطمح إلى اتساع تجارتنا، و لا إكثار ماشيتنا لنبيعمنها،ولا البقاء في واحة للسكنى،ولا حياكة أقمشتنا كقافلتاالحريرو الصوف، لم نطمح يوماً لغناء أغانيناالقليلةفي عيد النار الجاذب لكبرى القوافل، ولا مشاركة الغجريات عيدهن الشهري للضحك، والحق أننا كنا نتجنب كل الواحات أثناء أعياد أهلها  واحتفالاتهم، و إن حدث أن أنخنا نوقنا بالخطأ قريبا من قبيلة تحتفل أو واحة ساهرة، أمرنا الحكيم بصرامة بالنوم مبكرًا و عدم المشاركة و لاالمشاهدة.

 

أما عيدنا نحن فكان يأتي باهتاً، حائل الألوان،هادئاً بلا شيء مميزكمرآة لمسيرناو كل ما نفعل،كنت أرى أفراد قافلتيدوما يسيرون ببطء و بلا حماس، حديثهمالدائر أبداًعن واحة هنا أو بئر هناك، أصنافطعام منوعة جديدة نتعرف إليها من  القبائل التي نمر بها أو القوافل العابرة مثلنا،يدور حديث رتيب  مُعادعن الأطعمة والملابس، وأحيانا قليلة جدا عن غانيات المسير الحافيات مبهرجات الثياب، نحمل أمتعتنا بلاهدف سوى السير نفسه، سيرٌ هادئ، بليد، متشابه، بلا أغنياتٍ سعيدة، منظم في كثير من الأحيان علىبلادته، الأدهى من ذلك أن سيرنا كان  منعدم المبتغى، بلا وجهة نهائية، لم نكن نروم الوصول لواحة بعينها، لم نكن نبغي  بحراً ولا أرضاً و لا شيء، ولم تبدُ من جدوىحقيقية لما نعمل غير تأمين أنفسنا من الجوع و قطاع الطريق ، فعلى الرغم من وضوح الطريق المرسوم، لم تكن هناك وجهةٌ محددة في الحقيقة، الأعجب أنه ذلك كان لا يستدعي تذمر أي أحد.  

و الحق أن أمي في وقتٍ سابقٍ، لم تكن تشبه أفرادالقافلة، ولم يشغلها إطعام الماشية ورتق الثياب طول الوقت، كانت شديدة المرح، تشت أحيانا عن المسير وتصحبني لنستكشف بئراٌ أو نصطاد أرنباً أو غزالا، تحب مداعبة كل شيء، كانت تغني لي كثيراً وأنا طفلة، وهي أول من ذكر لي محاسن النفق و كنوزه في لحظة صراحة مضيئة، كانت أمي محبةً لألوان ملابس الغجريات  للفرح والأناشيد، لكنها منذ بعيد أغلقت فمها و لم تعد تغني ولا حتى في الليل.

لم نطمح يوماً للوصول إلى النفق، لم أسمع عنه أي شيء سوى أننا نتجنبه بحذر وتصميم، و لما سألت مرة قيل أن أسوداًضخمةً تحرس الحديقة الموصلة لمدخله.

كنت قد أدركت منذ قديم أن كل من بالقافلة يخافون الحكيم، يخافونه و إن أضفوا على خوفهم كلمات كثيرة أنيقة مختارة بعناية،منمنمةٍ و منمقة كثوب ابنة تاجر الأقمشة، يخافون إغضابه و يدعون ذلك حباً، ترتعد فرائصهم من نقمته ويسمون ذلك تكريماً وتقديراً، يتجنبون مناقشته مدعين أن ذلك لثقتهم المطلقة في حكمته و تقديره لطريق القافلة الأسلم، ثم يمسحون على بطونهم و أعناق ماشيتهم قائلين، وأعينهم تلمع كذباً، أن الحكمة الكاملة الصافية والأمان التام في التزام ما يرى الحكيم صوابا وأن نِعم الرأي رأيه و مشورته.  كثيرا ما نقمت دون تصريح عليه و على ابنته، وعلى جبنهم، أعينهم تطفح بأمواج الخوف والأسى اليائس، أمواج لا يصدونها ولا يقاومونها،  بطونهم ممتلئة و أرواحهم خاوية، يواجهون اللامعنى بالحديث عن الطعام والماشية، ويجابهون اللاشيء بأنجاب المزيد من الأطفال، و ينتظرون مالا يعلمون.

كان الماء نقياً و لم تُبدِ المهرة العرجاء ألمًا بعد سقيها، وددت لو أنها نفقت فهي بطيئة و مقززة، قالت أمي، حسناً كُتب لها عمر جديد، ملأنا القرب قبل أن يتصدر الحكيم القافلة آذنا ببدأ الإرتحال، مر بقربي وهو يسيرمتفقدًا، وتباطئ لكنه لم ينظر صوبي مباشرة و لم يحدثني، رأيت عينه تسترق النظر إلى عيني المنتفخين بالبكاء و شعري القبيح و فمي المقفول استجابة لأمره، و سيمر زمنٌ طويلٌ و سيطول شعري مرات و مرات، قبل أن أغفر له أو أنسى.

  سرنا ستة أيام متوالية، أحمل فوق ناقتي متاعي وصوتي المحبوس و ذلك الحمل المغلف بإحكام الذي كان يثقل يوما بعد يوم دون أن أعرف ماهيته. تمسكت به و أنا أقود ناقتي، أما دموعي فقد جفت، لكنها طمست كثيراً من ملامحي و أورثتني  وجهاً مقطباً ناقماً.

وفي اليوم السابع لاحت واحة الجدَيالصغرى، و كانت واحة فقيرة السكان قليلة النخيل لكن ماؤهاشديد الصفاء، قال أبي إذهبي للترطيب يا ابنتي، وكلي من النخيل، كلامنا مقتضب و مباشر، نتحاشى إلتقاء أعيينا المنكسرة بحرفة .

  جريت نحو الماء بعدما عقلت ناقتي بسرعة، فماء الواحة يسمح بالإستحمام و هو دوماً أبردمن مياه الآبار،خلعت خفي الجديدو تخففت من ثيابي، إنحنيت نحو الماء لأرى كيف صار شكلي فرأيت وجهاَعلى صفحة الماء يحملق فيّ، ثم نطق الوجه

  • من أنتِ؟ سألتني
  • من أنا أجبت بتعجب لم تسألين ؟
  • نعم، من أنتِ و ماذا تفعلين هنا؟
  • أنا ابنة الرجل الواقف هناك أمام الخيمة المنصوبة عند النخلة، نحن قافلة الحكيم نسيم.

تقاطعني بعصبية :

  • أنا أعرف من أنتمجئتم هنا مرات تسبق هذه، انا أسألك عنكِ أنتِ لا عن أباكِ و لا عن نسيم.
  • نسيم استعدتها بذهول كنت أسمع اسمه عارياً من اللقب لأول مرة

* ماللسانك منعقد يا صغيرة؟

تسألني و تضحك بإستهزاء، ماذا دهاكِ ، أتخافينه أنتِ أيضاً، أصبحت مرعباً يا نسيم، تضحك بصوت عالٍ، لقد كنت عشيقته في زمن لابد وانه سبق ولادتك، كان يأتيني شاباً ضاحكاً لنرقص ونشرب سوياً عرق نخلاتنا اللذيذ، ما بالك مذهولة هكذا

لم أحرَ جواباً، لها صوت دسمِ عالٍ و وجه رجل، طويلة و قوية  كنخلات واحتها القليلات

سألتها ماذا تريدين مني؟

قالت أنا بائعة الآذان، تعالي يا ذات الوجه الصغير أهديك أًّذناً، فلدي الكثير، إنظري، و أشارت نحو قفص مصنوع من سعف النخل يمتلئ عن آخره بالآذان البشرية من كل الأحجام و الأشكال

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.

الأجزاء السابقة 

رحلة البحث عن وجه نعرفه (1) 

 رحلة البحث عن وجه نعرفه (2) 

مقالات من نفس القسم