رحلة إلى أرض النور

أحمد الشريف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الشريف

المسافة بين مدينة “فردركس هافن” الساحلية في الدانمارك، وبين مدينة ومنطقة ” سكاجن/ Skagen نحو نصف ساعة أو أقل  بالقطار. قضيتها في مشاهدة المساحات الخضراء المنبسطة والمزارع التي بها الكثير من البقر الذي يرعى بوداعة، إلى جانب مساحات شاسعة تعدو فيها الخيول هنا وهناك.

سكاجن/Skagen  

محطة سكاجن صغيرة ذات طراز قديم. أخذتُ طريقي للخارج، ثم تمشيت في شوارع المدينة، شوارع غير عريضة والبيوت على جانبيها مطلية باللون الأصفر، الأسطح بالأحمر، أما الحواف فهي باللون الأبيض. لقد تم الحفاظ على شكل البيوت ولونها منذ فترة طويلة، صار تقليدًا، فالبيوت تطلى كل عام، تحديدًا في عيد الخمسين أو العنصره. يتم خلط الجير مع لون المغرة الأصفر (أكسيد الحديديك) لقد صارت البيوت بلونها وشكلها معلمًا أيضًا من معالم المنطقة، كأنها أو هي بالفعل لوحة فنية تضاف إلى أعمال الفنانين. بعد نحو عشرين دقيقة من السير، وصلت إلى الشاطئ.  جلست في أقرب مكان، مستمتعًا بالبحر واللون الأزرق والضوء الفريد، ذلك النور/ الضوء الناعم المميز الذى يغطي المنطقة، لذلك سميت سكاجن “أرض النور”، بعد ذلك اتجهت إلى متحف المدينة، أو المعلم الرئيسي للزيارة.

نبذة عن المتحف:

منذ عام 1870 حتى نهاية القرن، كانت منطقة “سكاجن” مكانًا دوليًّا لملتقى صغار الفنانين. كان القاسم المشترك بينهم، استلهام طبيعة المنطقة  وهوائها الطلق، والبحث عن أماكن وموضوعات جديدة لأعمالهم. في عام  1880 تحولت المنطقة بالفعل، إلى مستعمرة للفنانين، حيث كان لكل فنان غرفة للعمل وقضاء العطلة معًا. لقد فضل الفنانون المواضيع الخاصة بالصيادين، كانوا يرونهم يعملون على الشاطئ، لذا رسموهم وأكواخهم الصغيرة. كذلك رسم هؤلاء الفنانين لأنفسهم مشاهد من حياتهم اليوميَّة والاجتماعيَّة، صارت بمثابة بورتريهات شخصية وتسجيل وتاريخ لهم والمنطقة. وبالفعل أنجز فنانو سكاجن على مدى عمرهم فنًا متميزًا ومعارض، كان لها سُمعة طيبة في الخارج. من أشهر هؤلاء الفنانين: “آنا” و”مايكل أنكر”، “كوريير”، “هولجرد راشمان”، هذا الأخير كان شاعرًا ورسامًا. سأتوقف بعد قليل عندهم. أيضًا هناك فنانون من الشمال، ساهموا جميعًا بوضع “سكاجن” على الخريطة.

أسس متحفSkagen  في عام 1908، من أجل جمع وحفظ أشهر  أعمال فناني مستعمرة الفنانين. أنشئ في وسط المنطقة التي عاشوا وأبدعوا فيها. ومنذ عام 1920-1928 ثبت المتحف وصمم في ذلك المبنى القائم حتى الآن. صمم المبنى المهندس Ulrik plesner وضم له حديقة بيت، حيث اعتاد عديد من الفنانين استئجاره للإيواء، وضم له مخزنًا للحبوب. جرت توسعات للمبنى/ المتحف، عام 1988 – 1990. يضم المبنى والمتحف حاليًا، أكثر من 1800 عمل، ما بين اسكتشات وتصوير ورسم وأعمال حفر ونقش وتماثيل، وأعمال فخار وسيراميك،  جميعها أو  معظمها أنجز في الفترة مابين 1870 – 1930.

الفنانون وأعمالهم:

في مدخل المتحف وعلى الجانب قليلًا، لوحة كبيرة للفنان “كوريير”.  يعتبر “كوريير” و”آنا” و”مايكل أنكر”، من أشهر الفنانين في تاريخ منطقة ومدينة سكاجن. كما أن لهم النصيب الأوفر في الأعمال المعروضة. لوحة المدخل تعد نموذجًا لأعمال كوريير،  لقد رسم زوجته “ماريا” في مواجهة البحر، تقف باستمتاع وتأمل أمام شاطئ سكاجن الذى لا مثيل له. يظهر جانب وجهها بوضوح وجمال، كلبها يقعي جوار رجلها بهدوء، كأنما هو أيضًا يتأمل البحر واللون الأزرق والضوء من حولهما. كان كوريير يرسم ماريا دائمًا، كأنها النموذج الأجمل في العالم، ظهر هذا في أكثر من عمل له. كان يحب أيضًا رسم “الساعة أو الساعات الزرقاء”، هذا الوقت من اليوم الذي يتحول إلى ليل. لقد سحره وجذبه كثيرًا، مزاجيًّا وعلى مستوى اللون كذلك. لو حللنا اللوحة، سنجد الأفق يبدو ممتزجًا مع زرقة البحر، القمر وأشعته، ينكسران وينعكسان على سطح المياه وفي داخلها، هذه الانعكاسات تفضي إلى رحابة وعمق وكثافة وتباين في الألوان والرؤية.

“كوريير” ذلك الفنان المبدع، لم يرسم ماريا فقط بل رسم بروعة وكسائر فناني المنطقة، الصيادين والناس على شاطئ البحر والشارع والبيوت وسائر مفردات الحياة اليومية. توفي “كوريير” في نوفمبر عام 1909 بعد سنوات مع المرض. هناك في “سكاجن” فندق يحمل اسمه..

انتقل الآن إلى “آنا” و”مايكل أنكر” وأعمالهما. نعثر في لوحات “آنا” ونرى الحميمية التى عاشتها ورسمتها من داخل البيوت أو من خارجها، فهناك الصيادون الذين يتحدثون أمام وقبالة منازلهم في نور القمر، أو امرأة تقرأ، امرأة مع طفلها، رجل يتناول طعامه وكلبه يقعي بجواره، أو عجوز يسترخي ناظرًا صوب حذائه الضخم، أو فتاة صغيرة تقرأ وترسم، هذه الفتاة ابنة الفنانة، وقد تكرر رسمها أكثر من مرة، لكن في أعمال الفنان والزوج مايكل أنكر. لقد تميز “مايكل” في رسم البورتريه، خاصة  بورتريهات الصيادين المعبرة عن خشونة وصعوبة طريقة حياتهم. بعد وفاة مايكل عام 1927 و “آنا” عام 1935، تحول منزلهما لمزار ومتحف لأعمالهما وأعمال ابنتهما الفنانة هيلجا.

الفنان الرابع، هو “هولجرد ريشمان”، كان معروفًا كشاعر. لقد درس ليكون رسامًا بحريًّا أو ملاحيًّا، لكن عند زيارته الأولى إلى سكاجن، ظهرت خصوصيته ومواهبه الفنية وأصبح في المقدمة.  استقر في المنطقة وسكن في منزل يدعى “Villa pax” مع زوجته الثالثة صوفيا عام 1903.

أعمال دريشمان تشمل: شعر، قصص، نقد، صحافة، رسم. اهتم كثيرًا بحياة الناس، وصار محبوبًا في المنطقة. بعد معاناة مع مرضه، الاضطراب العصبي، مات في يناير 1908. هناك منزلٌ يحمل اسمه، مثل منزل “آنا” و”مايكل أنكر” .

أعود للتجوال داخل المتحف، ومشاهدة أعمال الفنانين الآخرين الذين رسموا المنطقة بصياديها ومكانها وطبيعتها الفريدة، هؤلاء أيضًا حاولوا اقتناص والتقاط النور/ الضوء الخاص للمنطقة، وذلك اللون الأزرق المتعدد الدرجات، ووضع كليهما، النور/ اللون في لوحاتهم جوار أو في تناغم مع الصيادين والبحر والشاطئ. يمكنني التوقف أمام كل فنان وأعماله على حدة، لكن هذا سيأخذ وقتًا ومساحة، كما أننى توقفت بالفعل عند أربعة منهم، هم الأبرز والأكثر إنتاجًا وإبداعًا، لذلك أختتم جولتي بالصعود للطابق الثاني من المتحف، حيث يوجد باقي الرسوم والمنحوتات وتماثيل الخزف، إضافة – وتلك هي اللمسة والإضافة الجميلة – إلى ركن يجلس فيه الأطفال، ليرسموا ثم تُعلق بعضًا من أعمالهم في المكان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم