هويدا صالح
“حين أشاهد نفسي في المرايا التي تعكسني، حين أشاهد نفسي فيها من الخلف، أو خلال سيري، أو من الجانب، عندها أشعر برعب أنني أتعايش مع ذاتي. عندما أشاهد نفسي من الخلف في المرايا يبدو لي أن لي وجودا آخر، أي رعب هذا أننا لا نستطيع أن نرى كل مرة سوى جانب واحد من جسدنا ؟ ماذا يمكن أن يقع في الجانب الذي لا نراه عندما لا نراه؟ ” هكذا تُعدُّ المرايا تيمة أساسية في أعمال بورخيس، تيمة تجلت في شعره وسرده معا ، وهكذا وظفَّها محمد عبد النبي في روايته ” رجوع الشيخ ” الصادرة مؤخرا عن دار روافد. تدور الرواية حول كاتب يسعى لأن يكتب نصه الأكثر حميمية في رواية غير مكتملة ، ولا ينوي أن يكملها ، لأن إيتالو كالفينو أخبره أن ” ليس ثمة مكان أفضل لحفظ السر من رواية غير مكتملة ” .
منذ الصفحة الأولى يطالعنا أحمد رجائي الذي أعطاه اسم الشيخ تمييزا له عن أحمد رجائي الذي يمثل انشطار الذات، فشيخه يسعى للعودة إلى صباه في تماس واضح مع النص الأشهر في التراث العربي ” رجوع الشيخ إلى صباه ” ، فأحمد رجائي تفتحت حواسه ، وتلمس رغبات جسده من خلال صفحات هذا النص التراثي ، ومن هنا تسعى الذات الساردة إلى الرجوع إلى الصبا ، رغبة في استكناه حياة غابت تفاصيلها في ذاكرة شذرية لا تحتفظ بالكل كاملا ، فلم يجد أمامه سوى الانشطار إلى آخر أعطاه ذات الاسم ، ليعيد له تلك التفاصيل :” ربما كان خطأ أحمد أنه رغب دائمًا وأبدًا أن يرى الكل المحيط الشامل. لكن الجيل التالي لحسن الحظ تجاوز هذا العيب الخطير، ولم يعد ينتبه إلا للتفاصيل الصغيرة، المنفصلة تمامًا عن كل ما يضمها ويحنو عليها”
يقدم لنا عبد النبي نصا مفتوحا يتناص مع نصوص عديدة تراثية وحداثية ، فهو يتناص بالضرورة مع كتاب : ” رجوع الشيخ إلى صباه ” كما أشرنا سابقا ، كما يتناص مع ألف ليلة وليلة ، ثم أخيرا يتناص مع عوالم بورخيس ،وأقول عوالم بورخيس وليس فقط نص ” الآخر “، حيث يحكي بورخيس كيف أنه ذات صباح في بوسطن و هو جالس بجانب نهر تشارلز يلتقي بشاب و يكتشف أنه هو نفسه، مراهق تقريبا. كلاهما يعيشان في أزمنة مغايرة و لكنهما يجتمعان هناك، إلي جوار نهر تشارلز، في فضاء واحد”
لم تكن تلك القصة هي السردية الوحيدة التي استلهمها محمد عبد النبي ، فتيمات مثل المتاهة والمرايا التي تكررت في جُلِّ أعمال بورخيس تتجلى بوضوح في نص ” رجوع الشيخ ” . ثمة متاهة يجيد صنعها الكاتب ليوقع فيها قارئه الافتراضي الذي يحاول جاهدا أن يفك شفرات ذلك النص المتخم بالدلالات . نص ” رجوع الشيخ ” من النصوص المفتوحة على عوالم وحكايات شذرية وتفاصيل تجعل القارئ يدور في متاهة لا تنتهي حتى ولا بقطعة جبن وحيدة يفوز بها الفأر في نهاية الأمر .
يجيد عبد النبي نسج علاقة تبدو شائكة بالمرآة ، حيث المرآة هي انعكاس للذات ، وفيها يتجلى العالم. مرآة تتكسر و تتشظى من أول النص حتى آخره؛ لتعكس كل شظية جانبا من وجود الذات الساردة التي تتشظى هى الأخرى إلى ذوات عديدة تتصارع ، وتحاول السيطرة على مقاليد ومقدرات السرد ، فشخصية البطل الذي يظن القارئ أنه البطل منذ بداية الرواية نكتشف أنه هو ذاته أحمد رجائي الصغير ، وربما هو ذاته الناقد الذي اكتشف أن كاتبا صغيرا استولى على أفكاره وحولها لنصوص سردية ، وليس من المستبعد أن يكون هو منى التي تشارك أحمد رجائي الصغير محاولات كتابة الرواية .
يفيد عبد النبي من فكرة الميتا سرد، حين يتخذ الكاتب الكتابة والحديث عن عمل إبداعي موضوعا للرواية، وهي حيلة لم تعد جديدة ، فقد جربها روائيون كُثر منذ كونديرا في :” خفة الكائن ” إلا أن عبد النبي يجيد الغوص داخل شخوصه ، فهو يعتمد على مستويات من العالم النفسي للشخوص، وليس مجرد سرد حكايا. هو منذ الصفحة الأولى يخبرنا أنه روائي يحاول كتابة رواية يكون هو بطلها، ويبرر ذلك أن ذاته هي الأقرب بالنسبة له، بل هي أكثر ما يعرفه من الحياة، لذا يجد لنفسه مبررا أن يكتب حكايته في دفترين اشتراهما لهذا الغرض ، ويخبرنا فيما يشبه النبوءة أنه حين تكتمل روايته سوف يموت هو ، لذا يسعى جاهدا إلى تضليل القارئ بألاعيب سردية حتى لا يكتمل النص. ظل السارد الرئيس طوال النص يحادث ظله ، ويتوحد معه ، لكنه أسلم مقدرات سرده لأحمد الصغير ومنى ، ثم حين شعر باقتراب النهاية ، ولم يجد مفرا من الرضوخ لاتفاقه مع أحمد رجائي الصغير استسلم للأمر، وساعتها أنهى أحمد الصغير النص، ومعه انتهت حياة السارد،لكن بعد أن غاص إلى داخل ذاته، وسبر أغوارها ، وتطهر بسرد تلك التفاصيل التي غابت عنه : ” لم تتبق إلا بضعة سطور في الدفتر الثاني الذي أهديته لي ، ورغم أني لم أكتب فيه كلمة واحدة، فإن صفحاته كانت تتطاير كأوراق الخريف كلما تقدمت بنا هذه الحكاية. أنت صاحب القرار، كما تذكر جيدا، أنت من كان يملي علي كل شئ. أراد أن يعرض عليهما اقتراحات أخرى، سبيلا جديدا يمكن أن تمضي فيه هذه الرواية لبعض الوقت، أن يؤخر السطر الأخير بأية وسيلة ، لكن كبرياءه غلبته ، فسكت . سند رأسه على مسند المقعد وقال لهما : ليكن ما يكون ” .
السرد في النص له علاقة حميمية جدا بالمرايا. مرايا الإنسان و الأشياء داخل العالم. و من كثرة حضورها في وجدانه و فكره فهو يخشاها كثيرا، مراياه المتشذرة قاسية جدا؛ لأنها تكشف عن رعب العالم، مراياه محدقة و مرعبة ، فهو يضعنا من خلالها أمام قسوة العالم و رعبه: ” ربما كان يخشى الألم، ألم انتزاع الروح من البدن ، أو كان يخشى المجهول .. ومن بعيد أمسك بالمرآة ، وراح ينظر إليها ، وأدرك أنه لم يكن يخشى المجهول ولا الألم بقدر ما يخشى مفارقة أحمد، يخشى ضياع وجهه الوحيد الذي يعرفه “.
كذلك قدّم عبد النبي مفهوما مغايرا لما يسمى بلغة الجسد، فالجسد ضافيا ومتجليا ،لكن تجلياته لم تتمحور حول المشاهد الحسية ـ على كثرتها ـ كما يوحي عنوان الرواية المستلهم من كتاب تراثي يُعدُّ الجسد رهانه الوحيد، لكن الجسد هنا حاضر بمستويات متعددة، فهو الجسد المعذب في السجن بسبب مواقفه السياسية، وهو الجسد المعاقب لشدة جماله كما حدث مع جسد روميو، وهو الجسد الذكوري المعذب بكتمان رغباته، وكذلك هو الجسد الذي يدرك أن رغباته شاذة وغير مقبولة في مجتمع لا يعترف بالمختلف مثل ابن السيدة مادلين الذي هاجر لكندا.
كذلك تكشف الرواية لمتخمة بالدلالات والإحالات عن صورة المثقف الفوضوي ، والمثقف الملتزم بقضايا الوطن، فأحداث يناير 1977 ، تحيل بالضرورة إلى ثورة يناير 2011 . كما أن النص يطرح أسئلة وجودية واضحة تكشف عن قلق الإنسان ، وتساؤلاته حول الوجود والعدم .