محمد عبد الرازق
القصة مهداة إلى تمر حنة
في تلك الليلة لم يستطع رجب النوم.
عندما عاد من جلسة المقهى، بعد منتصف الليل، كان مغتاظا جدا، لم يصدق أن هناك من تجرأ عليه وقطع حكاياته اليومية. كان يحكي لهم عن الرجل الذي يعالج العمود الفقري بلسعات مسمار صلب، عندما تثاءب الولد حسن بن علي البراوي، وهي المرة الأولى التي يتثاءب فيها شخص أثناء حكاياته. لم يعره رجب انتباهه، أكمل حكيه بسلاسة؛ عندما اعترض فتى آخر، نظر إليه رجب فوجده يحيى بن عبد الحليم الفرّان، قال الولد:
– أنت حكيت لنا الحكاية دي قبل كده يا عم رجب..
توقف رجب لبرهة، فكر أنهم صبية متهورون، لم يتعرفوا إلى طبيعة جلسات الرجال بعد. تابع الحكي، شرح لهم كيف يضع الرجل المسمار على موضع الألم بكل دقة، حتى قاطعه أحمد ابن شيخ الجامع، وصديق الولدين الآخرين، قال:
– هو أنت ما عندكش حكاية جديدة ياعم رجب؟
تقلب رجب في سريره، وصدره يغلي من سفاهة العيال، بعد كل تلك السنوات من تصدره جلسات الرجال، وكم القصص التي حكاها على مسامع الرجال، كاد ينفجر، والسؤال يرن في أذنيه، هل يملك حكايات جديدة؟ أم أن حكاياته نفذت تماما؟
جاء الصبح، ولم يأته النوم. قام من السرير ودخل الحمام، سكب الطست البارد فوق دماغه، جلس على الطبلية في انتظار زوجته سناء وأولاده الثلاثة، جلست سناء بعدما رصت الأطباق، وخرج الأولاد الثلاثة في القمصان والبناطيل، ناداهم ليفطروا معه، لكنهم كانوا مستعجلين إلى أشغالهم. وجد نفسه في مواجهة زوجته سناء، مد يده في طبق الفول، قال
– الفول ده حلو.. هو صابح؟
أومأت سناء برأسها ولم تتكلم. قال لها
– ناوليني الخس..
أعطته قلب الخسة الأخضر الزاهي. تعمد رجب أن ينظر في عينيها لترى احمرار عينيه، فتسأله أي سؤال، لكنها انصرفت إلى الأطباق بسرعة، كان يريد أن يحكي لها عن غيظه ليلة أمس، أو يسمع منها شيئا نقلته لها النسوة، ليبني عليه قصة من خياله، لكنها لم تتكلم، فأكمل فطوره في أسى.
خرج إلى الغيط. دار حول البرسيم، فكر في الحكايات اللاتي حكاها كلها، لم يستغرب يوما كيف جاءته القدرة على تأليف كل تلك الحكايات، كان يرى شيئا هنا، ويسمع خبرا هناك، فيلضم الخيط على الخيط حتى تخرج الحكاية مكتملة.
حمل غُمري برسيم وضعهما أمام بهائمه، وجلس على حجر عال تحت التعريشة، راقب حماره وهو يلوك البرسيم، تذكر أول حكاية قالها للناس، منذ عشرين سنة، أو ثلاثين، لا يذكر؛ لم يكن هناك مقهى ولا كهرباء، كانوا يجلسون على مصطبة حجرية في وسط البلد، حول براد شاي على الركية، والجوزة تلف بين الشفاه. ليلتها غاب عنهم الحاج محمود علام بسبب الروماتيزم، فقدت سهرتهم الحكواتي، فظلوا يسحبون أنفاس الدخان في أحاديث متكررة؛ تغلّب هو على حرجه، ولم يكن جاوز العشرين بعد، أخبرهم بصوت مترجرج أنه رأى ست البنات في بحر النيل. انتبهت له الشوارب، وسكت الجميع لأجل ذلك العيل الذي رآى ما عاشوا جميعا يحلمون به. اعتدل هو في جلسته، قعد على رجليه، ومس طرف شفتيه بأصابعه، وأخبرهم أنه كان يشعر بالحر، حتى السروال بات ثقيلا على جلده، خرج من دارهم في هدأة الليل ناحية النهر، وتمشى محاذيا للشط، يحاول استنشاق أي نسمة هواء، لكن الجو كان راكدا جدا، فخلع كل ملابسه ونزل بهدوء إلى الماء، ظل يسبح ويتقلب على ظهره وبطنه، حتى دخل إلى منتصف النهر، فوق أعمق نقطة، وسمع ضحكة رقيقة، ارتجف قلبه لكنه حافظ على توازنه، انكمش بجسده في الماء، لم يظهر منه سوى أنفه وعينيه، سمع الضحكة ثانية، فدفع نفسه بهدوء ناحية الشط، واختبأ عريانا بين البوص والحلفا، راقب الدنيا، هدأ الجو تماما وازداد الحر، اختفت الضحكة، لكن سطح الماء كان متوترا، رآها تجلس على الشط الثاني، ست البنات بحق، عريانة، تدعك كعبيها في الماء، عريانة، فيتوهج الماء وينتفض، ثم تغرف غرفة وتصبها على رأسها، تسيل القطرات سابحة على وجنتيها، وتسلك طريقا نشوانا على نحرها، ثم بين نهديها، إلى بطنها، وما بين فخذيها، ثم تتساقط أسيفة على الشط، تشتعل القطرة لثانية ثم تنطفأ، ظل يراقبها حتى اغتسلت تماما ودعكت كل جسدها ثم قفزت إلى الماء وسبحت بعيدا جدا، وظل بعدها يسمع دندنة شفيفة، لا يفهم كلماتها لكنه يحس برقصها في قلبه.
لم يعلق أحد من الرجال على حكايته، تبادلوا نظرات الحسرة والأسف، واستسلموا لرجب السهرجي.
تنهد رجب، مشى ناحية حماره، ملس على ظهره والحمار مستمر في مضغ البرسيم، وقف أمامه، قال رجب
– هو صحيح أنا.. !!
انتبه رجب أنه يكلم حماره، هزأ من نفسه، ودخل وسط البرسيم. تمدد على جنبه بحيث يرى حماره، فكر في حكاية، عن رجل مجنون يصاحب حماره لأن الناس لا يفهمونه، ضحك من التفاهة التي يحاول منها خلق حكاية، انقلب على ظهره ونظر في السماء، تيقن أنه لن يجد حكاية يقصها اليوم على المقهى، وأن ذلك سيعرضه للعيال المشاغبين، فكر في سنه، الفارق بينه وبينهم كبير جدا، لم يقدر شيء أن يزيحه عن عرش حكايات السهرة من قبل، ظهر الراديو بشياطينه، لكنه كان أقوى، عرف كيف يتغلب عليه، ظهر التلفزيون بالتمثيليات، كان منافسا أقوى، فعرف هو كيف يقتبس منه ليغذي حكاياته، ظهرت الهواتف المحمولة والنت، وكل حكاية تنتشر بسرعة البرق، فعرف أن قوته في أساطيره القديمة، حتى ظهر له ما لم يحسب له؛ الملل.
فك بهائمه قبل المغرب وسحبها خلفه.
قرر أنه لن يذهب إلى المقهى من فوره، كيف يذهب بدون حكاية؟ تمشى في الشارع، كانت المصابيح الصفراء تزعج عينيه، دار في بعض الشوارع الجانبية، رأى شباكا مفتوحا، وقف جواره، رأى امرأة تعجن دقيقا بلبن، أكمل في طريقه، لا يعرف كيف جاءته الفكرة، سينظر في الشبابيك علّه يجد حكاية هاربة من هنا أو هناك؛ توقف رجب، هل سيتلصص على الناس!! تابع مشيه بخطي متثاقلة، قال لنفسه “عيب على سنك”، لكن أذنيه التقطت صوت ضحكة صاخبة، التفت إلى نافذة صغيرة، شب على قدميه، فرآى ثلاث بنات صغيرات يلعبن بعرائس قطنية، أحس بخيبة، لكنه تابع مشيه، نظر يمينا، نظر يسارا، كان متأكدا أنه سيتعثر في حكاية، دخل في شارع، ثم شارع، لف القرية كلها، مبتعدا عن المقهى، دخل شارعهم، عبر ببيته، رأى زوجته سناء تتابع التلفزيون، عبر بيتي أخويه ممدوح ثم محفوظ، سمع همسا وجلبة تأتي من بيت محفوظ، اقترب من الباب فميز صوت إنعام زوجة أخيه، نظر من ثقوب الباب، رآى أشباحا تتحرك بسرعة في مكانها، التف ناحية الشباك، نظر من الشيش، رآي رجلا يخلع عن إنعام ملابسها، لم يكن أخوه محفوظ، تابع بلهفة، عراها الرجل تماما، تمددا على الكنبة، تردد رجب في الدخول عليهما، أراد أن يعرف ماذا سيفعلان، برغم توقعه لما سيفعلانه، ابتعد عن الشباك ناحية الباب، وضع يديه على الباب ليدفعه ويدخل على زوجة أخيه الخائنة، ترددت قدماه لبرهة، تساءل في نفسه، كيف يمكنه أن يحكي تلك القصة؟