رباعية المقهى

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

تقديم لؤي حمزة عباس

 

 

 

يختار علي محمود خضيّر خط العاطفة المنحني ليكتب نصه الشعري (رباعية المقهى)، متجنباً خطوط الواجب المستقيمة، مقترباً من ذاته وسط مشهد عراقي تمضي الكلمات فيه منقادة نحو المذبحة. يتحدّث عن عالم صُنع على مهل من أجل احتمال سبل العاطفة والتقاط نجومها، فالعالم في نصوص العاطفة رهين بالعاشقين وهما يعيدان تشكيل الوجود بناء على لحظتهما الشعورية الفارقة:

 

"كلُّ سحابة لا تظللنا سراب

 

كلُّ عين لا ترانا لا نراها"

 

إنه يكتب رباعيته مكتفياً بالحب الذي لا يُفسر، مغادراً فضاء القصيدة العراقية المشترك لسماء ليس لضوئها متجه أو مسار، حيث تغدو القصيدة، وقصيدة العاطفة على نحو خاص، محاولة أصيلة لترجمة الوجود، وتطلّعاً لاستعادة تاريخ القلب الإنساني، وهي تجتهد من أجل تذكيرنا بحقيقة زوالنا الفادحة في محاولة منها لمراوغة الزوال، منأجل أن يكون الحب مرعى للأبد، وأن تتسع لحظة العشق خارج حدودها الزمنية الصارمة، ثمة حدود لا زمنية يعتمدها النص الشعري، عادة، أوضحها الحب، وهو الحدّ التي اختار علي محمود أن يتسلل من خلاله من ضيق الواقعة العراقية, وتأجيل احساسنا بالمأساة وظلالها المعتمة بوصفها حدثاً مريراً لا ينتهي؛ مع (رباعية المقهى) نختبرـ نحن القراء ـ قدرتنا على استيعاب الشعر وقد تجرّد من ثيابه الرسمية ليغدو "تاريخ نفي وإضاعة"كما يقول النص، مثلما تغدو كتابة الحب كتابة غضب واحتجاج بمواجهة ما يحيط بنا من تفاهة خانقة.

 

 

 

 

 

 

 

رباعيّة المقهى

 

علي محمود خضير

 

أغنية الرجاء

(المقهى، مشهد أول)

 

ميلي على الكتف المهدهد بين إقلاع ومرسى

ميلي على الكف التي تشتاق أن تُنسى

كانَ الضوءُ أبعد من خيال

والنبضُ نرجسة

وكان الوعدُ نهراً..

أهكذا يبدو الكلامُ مشقةً في وصفِ نظرتكِ العصيّة؟

 أهكذا الكلماتُ تهربُ؟

 

**

النادلُ الشاميُ يخترعُ السؤالَ لكي يُحدّثكِ:

-“أتحتاجان شيئاً؟..

جيّدةٌ نكهةُ الشّايِّ؟”..إلخ..

كنحلة من حول مجلسنا يدورُ..

يحاول أن يميل أليك كي يُشفى من الحرب

ماذا فعلتِ بالناسِ

وهل أكتفي من مجلسي بالنظرة المربكة؟

**

لو كانَ للمقهى أن يصيرَ غمامةً

والناسُ غبشاً

لو كانَ للشمسِ التروي

لو نجونا من غبارِ الوقت..

***

 

كلُّ سحابةٍ لاتُظللنا سرابٌ

كلُّ عينٍ لا ترانا لا نراها

كلُّ أغنيةٍ تُغنى، لَكِ فيها مَذهب

اتراني قُلتُ هذا حين كنا جالسين؟

أم حريّة الأفلاك في عينيكِ أنستني الكلام؟

**

 

ميلي على الأيّام يا بيضاءُ

ميلي على الآلام يا سمراءُ

على ذكرى حروب لا تنام

هذا العالم المهجور أسْيانٌ 

من دون نظرتك

.. فميلي!

 

 

  

2-حيرة ..

المقهى- مشهد ثان


ها أنتِ

غريبةٌ هُنا مثلي

أنا الغريبُ

أيَّ معنى أرتجي

أكثر من اللحظة؟

أكنتُ صديقاً أم أقل

نديماً،

أم حبيباً؟!

كلُّ الصفاتِ كلامٌ

كافٍ لديَّ

أنني أغرقُ اللحظةَ في عينيك

فيما وجوه تختفي حولي

وأصواتٌ تغيب..

 

 

 3- نهاية صغيرة

 

 وانتهى الموعد..

نزلنا السُلّم المَرمَر غير منتبهين

شمسٌ تتقصفُ

ناسٌ يدخلونَ المول

كنتِ غزالةً عجلى

وما كنتُ صيادا.

*

 

هُوَيناً كانت الخطوات فوق المرمَر

والبردُ يعبثُ في عظامِ الناس

هُوَيناً

مثل غضنٍ مُثقلٍ مادَ للماء

نزلنا

إلى نُسغِ المدينة

..

ليتَهُ السُلّمُ الأبدُ!

*

 

فرصةٌ سعيدةٌ.. قُلتِ

غيومٌ ما بعينيكِ اضاعتْ فرصتي في الردّ.

*

 

تبسّمنا..

ومثلَ عطرٍ راحَ يشربُكِ الهواءُ

تلاشيتِ

اختفيتِ في زحام الناس

دخلتِ في سراب الاحتمال

 

..

وماذا الآن؟

ستُطوى خطوةً أو خطوتين

تضيعُ بين المارّة

..

بعضُ النهاياتِ ابتداءُ..

 

 

 

4-

 المقهى/بعد عام

 

 صاحبُ المقهى اختارَ للجدرانِ ورقاً أصفرَ شغلته أسطر ناعمة من أشعار George Mackay Brown، وصوراً لمارلين مونرو وشابلن وصوفيا لورين وبراندو، هواءُ تشرين يدورُ في الأرجاء، غماماتُ أراكيلٍ، دوّيٌ، قهقهاتٌ، والجسمي يقول: “مرني.. مرني..”

لم نكن على موعدٍ لأتذكرَ ابتسامتكِ هُنا قبلَ عام، لم أكن لأنتظر، كنت أتمشى مع صحبة وصادف أن تعبتُ فبحثنا عن مقهى، وكان الحنينُ حبلُ سُرّةٍ تغذينه بكلماتك الغامضة على متصفحك. يخفتُ حولي حديثُ النَدامى ويعلو كموجٍ يُسرّحُ ساحلاً، كان أحدهم يجلسُ إلى جانبي والآخر يقابلهُ فيما تركوا المقعد الأخير أمامي فارغاً، يُشبهُ غيابكِ. لكني كنتُ مُصّراً على بشاشةٍ تليقُ بأوّلِ الشّتاء، بشالٍ أشتريته لأنّك تحبينه مُنسرحاً بين رقبتي وكتفي، ربّما لأنّه موئل دموعك، فكّرتُ أن أكتبَ لكِ عن رجلٍ ينتظرُ بلا موعد، عن عينين تتقافزان في زوايا مقهى وتنتظران بلا موعد، كنتُ بلا أوراق وكان الهواء تشيريناً.. هل مصادفة أن تشيرَ كلُّ صور الجدار لمكان ما؟: مارلين إلى الأعلى، شابلن إلى اليسار، صوفيا يميناً.. تتبعتُ كلَّ إشارةٍ منهم وعدتُ من دونكِ في كل مرّة.. وحدهُ براندو ببذلةٍ كفاحم شَعْرَكِ ظلَّ يُومىء لمكانٍ لم أتبيّنه، جفناه يعصران نظرةً مُبهَمةً واصبعهُ يشيرُ إلى اللامكان حيث انتمى عناقنا. كابياً يُشير وبلا اكتراث، كأنه غريب ينتظر بلا موعد.

ترى هل تعرفين بما يجري الآن في المقهى؟ أيغشاكِ هواء تشرين بالشوق؟ اتتعبك الإشاراتُ؟ ايتركك حبيبك تنتظرين من دون موعد؟ لو كان لك أن تُطلي على أحوالنا  لرأيتي صحبة يتبادلون الشاي والكلمات، رؤوسهم بيضاء من فرط الحنين، ومشاةٌ يعبرون المقهى، يضحكون لبهجة انارته التي تشبه من بعيد، حطام ملائكة.

“مرني.. مرني.. مرني”.

خطأٌ حاسوبيٌّ صغير يشبهنا..

 

كأن بعض الجمال مُقدَّرٌ لهُ أن يَظلَ بعيداً ليُشعّ كاملاً. لن تكونَ الشمسُ نفسَها أن أقتربت، ولا حكايتنا. ما أشبهُ فكرة اِقترابنا بشغورِ العالم من معناه. فكرةٌ مُعقدةٌ وثقيلة.كجسدي آن حطَّ عَليَّ حُبَّكِ. ما ضرّني لو عفتهُ. لو باعدتُ عينيكِ عني قبل أن أسقُطُ فيهما، أسقُطُ فيكِ. كأن بعض البعد منجاةٌ. بعضهُ خلودٌ وعافية.

يقعُ البَيْن أحياناً ببساطة لا تُصدق. كما يهوي طفلٌ يتعلمُ المشي، كما تميلُ شجرة، ببساطةٍ، كخطأ طبّي. كخللٍ حاسوبيّ أنيقٌ وبارد. كان ينتظرُكَ طويلاً ليُفسد لحظتك. كأنَ مُقدّراً لهذا الجرحِ ألّا يلتئم، حتى تختفي كلمةُ الجروحِ من المعاجم أو ينفد من الضفاف ملحها. إلى الأبدِ الممهورِ بصمتِكِ، بجُملِكِ المبتورةِ وجمالِكِ الموصول. وكأننا مكتوبانِ للتأجيل، مُقيدان للإرجاء، للغد الذي لم يدوَّن في اللوح، لمواعيد تبتعد كُلَّما أشتدت قُرباً، وكأننا مُقيمان في (كاد) و(لاح) و(قاربت)، محبوسان على وشك أزليٍّ لا يُوشك. نفترقُ لكي لا نلتقي. نتبادل الوعد لنمضي في الهِجران، نضع تواريخ لقاء؛ تواريخ نفي وإضاعة. ألا ترين أننا كُلَّما نادى مُنادٍ صاح خطأٌ من العدم: لااا.. هل تشمّين معي رائحة لقائتنا المذبوحة؟ فقط لأن مواعيدها كُتبت بمفكرة سفر. فقط لأن المسافرَ نزل من القطار ونسي المفكرة. فقط لأن لا مفكرة ربما ولا رحلة ولا مواعيد. وكأن المواعيد أيضاً محض تدريب على ضربة الفراق القاضية والمستمرة. ما ضرّنا من عناد المقادير، خيرٌ لنا ما حلَّ من شأن الثلم والفقدان. أليست طريقةً مذهلةً في الحفاظِ علينا كاملين، معاً، بلا أخطاء؟ بعضُ القُرب مقتل. كُلُّ قُربٍ مَقتل. صدقيني: حطامنا الآنَ خيرٌ، كسرُنا واِتلافنا خيرٌ. على الأقل لا يمكن أن نُتلفَ أكثر بعد الآن. صرنا عصاة على خلود العشاق في قصصهم وبعيدين.  أبعد من دفء حديث لن يقع، وملامسة لن تُحسَّ، وصورةٍ لن تُلتقط، فقط لأنهم مرّوا جميعاً ولم نكن بانتظارهم. فاتونا لأن الموعد فات. ولم نكن فيه، كُنا قبلَهُ دائماً أو بعده، لم نكن فيه، صامتين ومبتسمين، كُلٌّ على حدةٍ، نسبحُ في سديم حرماننا. لا أخطاء عندنا لنعتذر عنها لأحد. ولن ننتظر اعتذار العالم.فنحن كما تقولين دائماً: “حدث يقع في الحياة، وهي على حق دائماً” وهذا البعدُ غلطٌ عاديٌّ وممكنٌ وبسيطٌ. كالبساطة التي يعمل بها خطأٌ حاسوبيٌّ متناه في الصغر كان ينتظر طويلاً ليفسد علينا اللحظة. خطأٌ أنيقٌ وباردٌ يقعُ ويقعُ بعده، على قلبي، ليلٌ من أزل.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعر عراقي

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم